أكراد كوباني: قصص الحرب والنزوح

الخميس 16 تشرين الأول 2014

كمال شيخو

(نشر هذا التقرير في موقع طلعنا عالحرية في 13 تشرين الأول).

جلست تشاهد سحب الدخان المتصاعدة من على فوق مدينتها كوباني بعد أن أُجبرت مغادرتها قبل نحو عشرين يومًا. زكو، البالغة من العمر 62 سنة، كانت تزور كل عام قرية “بغجة” التركية التي تبعد خمسة كيلومترات شرق كوباني، لتطمئن على أقربائها في الجانب التركي، لكنها الآن لاجئة عند ابنة أختها بعد أن فرت إثر المعارك الطاحنة في بلدتها.

بعد اشتداد أعمال العنف والمخاوف من التعرض لانتهاكات الجهاديين المتطرفين، وتكرار مشهد شنكال العراق، دفع غالبية المدنيين من القرى والضواحي إلى الفرار إلى مركز مدينة كوباني في البداية مساء 14 أيلول الماضي، إلا أنهم وبعد أيام من احتدام الاشتباكات العنيفة وسيطرة تنظيم “داعش” على 64 قرية، هربوا مع سكان المدينة يومي 18 و19 أيلول إلى الحدود التركية.

زكو قالت إنها لم تتخيل أن تصبح في يوم من الأيام لاجئة وليس بمقدورها العودة إلى بيتها الذي بقيت فيه ذكرياتها وممتلكاتها. “ما حسنّا نجيب شيء من البيت، حملنا فقط المصاري والذهب وفررنا بروحنا”.

المسن كوبان الذي لم يتمالك نفسه، كانت دموعه أسرع من كلماته. قال بحسرة: “25 سنة وأنا أبني مستقبلًا أفضل لأولادي. تركنا كل شيء في كوباني وهربنا”، كوبان وغيره تغيرت أحواله وأحوال أسرته اللاجئة في مدينة سروج التركية. نزح عن قريته “ديدقي” -سبعة كيلومترات جنوب كوباني- ليلة بدء قوات التحالف قصف مقرات داعش، ليصل إلى مدينة سروج التركية. “في البداية ارتفعت معنوياتنا بعد القصف الجوي للتحالف الدولي على داعش، ولكن يومًا بعد يوم أصبح اليأس سيد الموقف”، فالحرب وبحسب كوبان ستمتد لسنوات، والقصف الجوي لم يمنع زحف الجهاديين نحو مسقط رأسه.

وأضاف “وصلوا إلى كوباني قبل أيام، ولا اعتقد أن هذه الحرب قصيرة الأمد، ولا نأمل عودة قريبة إلى ديارنا، أعلم تمامًا أننا سنمر بأيام صعبة”. وعن الصعوبات التي تعانيها الأسرة قالت دلزوز، زوجة كوبان التي كانت تجلس إلى جانبه في صالة أفراح: “النساء والأطفال الأكثر تضررًا، لا مكان يأويهم ولا مأكل، هنا يقدم فاعلو الخير ما تيسر، ولكن ينقصنا الكثير، حتى مراحيض الحمام نحرم منها أحيانًا لكثرة الأعداد التي نزحت إلى هذه المدينة الصغيرة”.

زكو فرت من مدينتها كوباني بعد اشتداد المعارك هناكزكو فرت من مدينتها كوباني بعد اشتداد المعارك هناك

وفتح أهالي سروج التركية الجوامع وصالات الافراح والمنازل المهجورة والمحال التجارية المغلقة، والمستودعات لتأوي الأعداد الكبيرة من النازحين. هؤلاء جلسوا على أمتعتهم التي حملوها معهم من ديارهم، وبقي الكثير من الرجال على الحدود لحماية سياراتهم ومواشيهم. أغلبية النازحين قصدوا مدينة سروج والبقية سافروا إلى مدن أورفة و ديار بكر وغازي عنتاب ومرسين وغيرها من المدن التركية.

“ينحرون الرجال ويتزوجون النساء عنوةً”

المعارك التي تشهدها كوباني خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة والتي وصفت بالأعنف منذ بدئها الصيف الماضي، دفعت أكثر من 200 ألف شخص للنزوح عبر الحدود. وقد لجأ الكثيرون منهم إلى أقربائهم في الجانب التركي، ذلك أن العديد من القرى المحاذية للحدود من الجانبين السوري والتركي تربطها علاقات قرابة فيما بينها.

ومن بين هؤلاء اللاجئين حسو، الذي هرب من مدينته رفقةً مع عائلته، مصطحبًا معه سيارته وبقرته وماشيته. ركنها بالقرب من الأسلاك الشائكة الفاصلة بين الحدود السورية التركية، كما فعل كل الذين يمتلكون سيارات أو ماشية من بقر وغنم، وظلوا هناك لحراستها. وعندما بدأ حديثه من الجانب قالها حسرةً “لا نملك شيء غير هذه الماشية والسيارة، أموت هنا أفضل من الموت بقذيفة أو من حرقة قلبي”.

قبل يومين كانوا قد تعرضوا لهجوم من قبل جهاديي تنظيم “داعش” أمام أعين الدرك التركي الذي لم يحرك ساكنًا. حسو الذي كان وقتها متواجدًا في المنطقة الحدودية من الجانب السوري يروي الحادثة قائلًا: “لقد تحدثوا معنا في البداية وقالوا لنا إنهم يريدون أخذ سياراتنا لأنهم يحتاجونها في القتال (..) قلت لهم: ولماذا تريدون أخذ سياراتنا؟ هل الشرع يسمح لكم بذلك ونحن مسلمون مثلكم؟ فردوا عليّ: لقتال الكفار”. ويوضح قائلا: “الكفار هو أنا وأبنائي وأقربائي، فأي دين سماوي يسمح بالسطو على أملاك الناس بحجة قتال الكفار؟”.

ويصف حسو مظهرهم قائلًا: “كان شعرهم طويل ومخيف ولحاهم طويلة. يلبسون أزياء عسكرية غير نظيفة أو ملابس أفغانية. يربطون رؤوسهم بأوشحة سوداء رسم عليه علمهم الخاص”، ويضيف قائلا: “هؤلاء لا يشبهون البشر في شيء”. وعن جنسياتهم أردف قائلًا: “لهجتهم العربية كانت توحي انهم من دول المغرب العربي كونها كانت ثقيلة بعض الشيء، ومن بين هؤلاء كانوا أجانب لا يتحدثون العربية”.

.أطفال كوباني يحملون البطانيات بعد أن تركوا كل شيء في بلدتهمأطفال كوباني يحملون البطانيات بعد أن تركوا كل شيء في بلدتهم

من جهته، أكد اللاجئ من قرية تاشلوك حجي مامو أن الكثيرين من أقربائه من كبار في السن والعجز بقوا في قراهم بعد اجتياح مقاتلي تنظيم “داعش” لها، لافتًا إلى أنهم اختبأوا تحت الأرض إلى حين انتهاء المعارك الطاحنة. ويضيف حجي مامو: “نتصل معهم يوميًا للاطمئنان عليهم. وينقلون لنا ما يحدث هناك. لقد أخبرونا بأن أغلب البيوت تعرضت للسرقة والنهب، وأخرى أُحرقت”. وتابع حديثه: “لقد اختطفوا خمسة رجال وامرأتين من قريتنا”، معربًا في الوقت نفسه عن قلقه الشديد حول ما يمكن أن يلحق بهم. وقال: “لقد سمعنا بأنهم ينحرون الرجال، فيما يحتفظون بالأطفال ويرغمون النساء على التزوج بهم”، موضحًا “لا نعلم إن كانوا أحياء أو أموات، فليكن الله معهم!”.

نزوح أكثر من 200 الف لاجئ

محي الدين شامليان مسؤول فرع الهلال الأحمر في كوباني -أو “Hiva Sor” بالكردية- أوضح أنه في اليوم الأول والثاني من الأزمة (19 و20 أيلول) واليوم التاسع (26 نفس الشهر) كانت نسبة اللاجئين هي الأكبر، وقدر عدد العابرين بأكثر من خمسة عشر ألف شخص دخلوا الجانب التركي. وأفاد “يقدر عدد اللاجئين بأكثر من 200 ألف دخلوا من نقطتي مرشيد بينار وجولك التركية، وتم إرسال جميع الوافدين من باقي النقاط إلى هذه النقط كونها كانت أكثر آمنًا”. وأضاف “بحسب الإحصائيات التركية الرسمية الصادرة عن مكتب شؤون اللاجئين والذي فتح مكتبًا هنا، بلغ عدد العابرين 180 ألف، عدا أول يومين ولم يتسنى لهم تسجيل اللاجئين، لذلك نقدر عدد الوافدين أكثر من 200 ألف شخص دخلوا الاراضي التركية منذ يوم الجمعة الماضي”. ولخص كلامه: “الآن الحدود مغلقة منذ يوم الاثنين الماضي، بعد أن وصلت داعش إلى مركز المدينة، وبحسب مصادرنا لم يتبقى الكثير من المدنيين، قلة فقط اختاروا البقاء هناك ولا نستطيع تقدير عددهم بالضبط”.

الدكتور محمد عارف علي (أخصائي في الأشعة التشخيصية وطبيب ميداني) عاد للتو من مدينة كوباني المحاصرة، حيث شهد فيها قصة كان لها وقع كبير عليه. ويروي الطبيب قائلًا: “عشية ليلة العيد وصل إلى المشفى الميداني الذي أعمل فيه مقاتل من وحدات حماية الشعب وكانت يده اليسرى تنزف بعد أن تعرض شريانه الرئيسي لجرح. وكان يتعين إجراء عملية جراحية سريعة على يده أو بترها”.

ويضيف الطبيب قائلًا: “وقتها كنا نحاول تخديره، ولكنه كان يرفض ويقول لنا اقطعوا يدي لكي أعود بسرعة إلى القتال”. ويوضح أن الطاقم الطبي وقف للوهلة الأولى عاجزًا أمام حالته، ولكنه سرعان ما قرر إجراء العملية بدون تخدير. “بقينا حتى ساعة متأخرة من الليل، والعملية نجحت ولكن كان يجب متابعة الجريح”. المفاجأة كانت في اليوم التالي عندما ذهب الطبيب للاطمئنان على صحة المريض. “عندما وصلت إلى غرفته لم أجده، وقالت لي الممرضة المرافقة له بأنه عندما أفاق من النوم لبس زيه ورفض البقاء في المشفى، مصرًا على الذهاب إلى القتال”. بعدها لم يعد الشاب إلى المشفى لإكمال العلاج أو فك ضماد جرحه، على ما يروي محمد عارف. وبعد تلك الحادثة بعدة أيام عاد الشاب ذاته مرة ثانية إلى المشفى، ولكن ليس لإكمال العلاج. “كان مصابًا في قدمه وعندما وصل إلى باب المشفى قال لي ضاحكًا: جرحي أجبرني على العودة إليكم”.

الغارات التي تشنها طائرات التحالف الدولي على مواقع تنظيم “داعش” لم تثنه عن التقدم، لكن المعارك بين المقاتلين الأكراد وعناصر التنظيم مستمرة داخل أحياء كوباني، التي تشهد حرب شوارع بعد تقدم التنظيم في الجانب الشرقي والجنوبي من المدينة ورفع رايتهم لأول مرة على أحد المباني.

ويذكر أن “عين العرب” هو الاسم الرسمي لكوباني التي يتحدث سكانها الكردية كلغة أم. وتقع المدينة على بعد 180 كيلومتًرا شمال محافظة حلب، وتفصل بينها وبين الحدود التركية 4 كيلومترات شمالًا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية