في عصر الانقلاب على الأحلام: التيئيس خيانة

الأحد 30 تشرين الثاني 2014
arab spring egypt

بدأ الأمر بكاريكتور عبقري للمصري «أنديل»، يخاطب فيه شاب ثوري مصر بأغنية للشيخ إمام تقول: «يا مصر قومي وشدي الحيل»، لترد عليه الأخيرة: «بس يا عرص». وربما انتشرت في ذات الفترة عبارة كئيبة تقول: «اللي يقولك خليك في البلد ولسا في أمل، قلّه أمل دي تبقى خالتك» في محاولة ذكية للإشارة إلى حالة فقدان الأمل والنكوص التي حلّت بالمواطن العربي، وخصوصًا من أطلق عليهم بشباب الربيع العربي.

أن تستيقظ من النوم في هذا الجزء من العالم، وخصوصًا في هذه الفترة، أن تواصل الحياة، على الرغم من كل ما يحيط بك، هو أمر يفوق الاحتمال، ويستحق الإشادة. لماذا؟ لأن خيبة الأمل التي تعرض لها هذا الجيل لا أظن أن هناك ما يوازيها في تاريخنا المعاصر سوى نكسة الخامس من حزيران 1967 التي فقد فيها العرب، ليس فقط البقية الباقية من فلسطين، وإنما مشروعهم الوحدوي وأملهم في هزيمة كاسحة للاستعمار وأذنابه في المنطقة.

وفي واقعة الانقلاب على الربيع العربي، التي من الصعب تأريخها بيوم كيوم النكسة، حصلت نكسة لكل حلم بحياة كريمة كان للشاب العربي أن يحلم به، واتضح أنه «كان صرحًا من خيال فهوى»، وتحول «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» من شعار ومشروع تحرر وطني وقومي إلى نكتة سمجة لن نقوى على روايتها لأطفالنا الذين يجب علينا التفكير طويلًا قبل أن نقرر إنجابهم.

خيبة الأمل التي تعرض لها هذا الجيل لا أظن أن هناك ما يوازيها في تاريخنا المعاصر سوى نكسة الخامس من حزيران 1967 

وعلى الرغم من أن الوقت ما زال مبكرًا لقياس أثر هذه النكبة على الثقافة العربية وعلى جيل الشباب الذي كان موضوع الربيع وعنوانه، إلّا أن هناك بعض الإشارات التي من الممكن عبرها استشراف هذه الآثار، والتي سيكون من بينها النشاط الهائل في مجال الهجرة للشباب العرب، وأعني بالهجرة هنا نوعين، النوع الأول هو هجرة العمل السياسي، بل والعمل العام بشكل شبه كامل، وهذا الأمر يلحظه من كان قريبًا من هؤلاء الشباب الذين بتنا نراهم وعوضًا عن المشاركة في تأسيس الحراكات والأحزاب -الهشة- بتنا نراهم فاعلين جدًا إما في الاندية الثقافية أو في تنظيم الحفلات و«الخروجات»، وكأن الطاقة التي كان من المفترض بها أن تخرج في المظاهرات وما يستتبعها من اشتباكات وجدت طريقها للخروج في سبل أخرى.

أما النوع الثاني من الهجرة ولربما يكون الأخطر فهو ترك الوطن العربي أو على الأقل ترك هؤلاء الشبان لدولهم و«الهروب» نحو أماكن توفر لهم ما عجزت أوطانهم عن توفيره، توفر لهم الأمان الشخصي، وخصوصًا أن المخابرات العربية لم ترحمهم، توفر لهم الحرية بعد أن وعدتهم أوطانهم بالسجون، توفر لهم العيش الكريم بعد أن عرفوا شظف العيش في أوطان تزخر بالثروات الطبيعية.

أما الإشارة الثانية التي تلوح في الأفق، والتي يرتكبها من كانوا حتى وقت قريب ثوريين صادقين، هي حالة اليأس العامة التي بات من اليسير جدًا الاطّلاع عليها في النكات التي تطلق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي ربما يكون من أبرز أمثلتها ما بدأت به مقالي. وأسوأ ما في هذه الظاهرة أنها مرض معدٍ، حامله لا يكتفي بالشعور به بل ويقرر «طوعًا» أن ينقله لغيره وأن يحارب عبره من لا زال لديهم بصيص أمل على اعتبار أنهم خياليون، ولا يمتون للواقع بصلة.

أعلم جيدًا أن الواقع قاتم، وأعلم أنه من الطبيعي جدًا بعد كل مرحلة «حاسمة» في تاريخ الأمة أن تقف الأمة مع نفسها، خصوصًا عن طريق مثقفيها، وتقوم بمراجعة صادقة ونقد جاد لما حصل في تلك المرحلة، لكن هذا «التيئيس» ليس بحال من الأحوال نقدًا جادًا، ولن يقود إلّا لمزيد من الهجرات ولمزيد من اليأس، ولربما يكون هذا النوع من النقد هو ما سيقود الشباب الباحث عن هويته نحو هجرة من نوع مختلف، هجرة تكون فيها الجماعات المتطرفة هي الحل، أو هجرة نحو الطرف الآخر الذي لا يقل سوءًا بالانتحار.

لسنا بحاجة إلى رسالة عاطفية تكتبها إحدى «الناشطات»، ولا إلى رسالة ربانية تصلنا عن طريق انتحار شاب شنقًا على لوحة إعلانات، وللصدفة -أو ربما هي الرسالة الربانية- أن يكون اسم الشاب فرج.

كنا -إن جاز لي أن استعمل ضمير المتكلمين هنا- نهتف في المظاهرات التي شاركنا فيها نهتف بأن اليأس خيانة، وهو كذلك، لكن التيئيس خيانة أشد، وخطرها متعد وأكبر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية