نكتة بذيئة

الثلاثاء 20 كانون الثاني 2015

بقلم تمارا كيله*

أذكر أنني كنت في الصف التاسع عندما عرفت لأول مرة التفاصيل الحقيقية للممارسة الجنسية بين الرجل والمرأة (أو بالواقع الزوج والزوجة وليس أيّ رجل وامرأة كوني في تلك الفترة العمرية وضمن المجتمع المحافظ الذي أنتمي إليه لم يكن مقبولاً على الإطلاق أيّ تصوّر للعلاقات الجنسية خارج الزواج)، عرفتها من خلال نكتة بذيئة ألقتها إحدى صديقاتي في الصّف وأثارت موجة عارمة من الضحك بين زميلاتي، تاركة إياي ممتعضة لأني لم أفهم الجزء المضحك في النكتة. وإثر إصراري على فهمها تبرّعت صديقتي بكلّ حماس بالشرح لي حتى تفاصيل التفاصيل بعد صدمتها أنّني وصلت للصف التاسع دون أن أملك أيّ فكرة عن الموضوع!

طبعاً، الصدمة كانت كبيرة لفتاة مثلي «مهذّبة حتى الموت»، ومعتادة على إغماض عينيها أو لفّ وجهها كلّما مرّ مشهد قبلة بين رجل وامرأة على التلفاز الذي كان مقتصراً في ذلك الوقت على قنوات محدودة جداً أكثرها انفتاحاً كان قناة التلفزيون الأردني الثانية التي تعرض أفلاماً أجنبية «مشّفرة» طبعاً.

لمت أمي على جهلي وعلى التعتيم الإعلامي الذي كانت تمارسه حول كلّ ما يتعلّق بالعلاقة بين الذكر والأنثى وحدوث الحمل وإنجاب الأطفال وتهرّبها من الأسئلة الفضولية عبر تلفيق قصص خيالية لا تمت للواقع بصلة

عدت للبيت في ذلك النهار أحمل على ظهري ثقل خديعتي طوال تلك السنوات، وشعوراً بالغضب، والقرف والغثيان. تجنبت النظر إلى والديّ، وادعيّت الانغماس بالدراسة وحلّ الواجبات، في الوقت الذي لم يكفّ فيه خيالي عن محاولة رسم صورة تحاكي الواقع لتفاصيل النكتة اللعينة البذيئة! لم أنم تلك الليلة، لمت أمي أولاً على جهلي وعلى التعتيم الإعلامي الذي كانت تمارسه حول كلّ ما يتعلّق بالعلاقة بين الذكر والأنثى وحدوث الحمل وإنجاب الأطفال وتهرّبها من الأسئلة الفضولية عبر تلفيق قصص خيالية لا تمت للواقع بصلة، ثم معلمّة الأحياء التي تركت لديّ انطباعاً أنّ تلقيح البويضة عن طريق الحيوان المنوي في درس التكاثر لدى الإنسان يحدث على كوكب ما آخر في الفضاء. ثم لمت نفسي على ضعف انتباهي لما يحصل حولي في العالم بشكل متكرّر ومستمر، وشككت بقدراتي العقلية وذكائي الذي كان يتيح لي الحصول على مراتب عليا في التحصيل العلمي في المدرسة بجهد قليل.

كانت مكتبة المدرسة ملجئي الوحيد في اليوم التالي. لحسن الحظ لم أكن مضطرة لحضور حصّة الدين في مدرستي في ذلك الوقت كونها مدرسة إسلامية ولا تعطي دروساً في الدين المسيحي، لذا فقد قضيت الدقائق الخمس والأربعين من تلك الحصّة منزوية في المكتبة وراء رفوف الكتب أبحث بحذر وتخّفي عن كتاب واحد يخلّصني من حيرتي، ويخاطبني بجمل واضحة وصريحة عن حقيقة المعلومات التي تلقّيتها عبر صديقتي.

أذكر أنّي وجدت كتاباً يتحدث عن الأمراض الجنسية، وكتاباً آخر يتحدث عن المشاكل الجنسية لم أفهم فيه عبارات كثيرة كـ«القذف» و«الاستمناء» وغيرها من كلمات لم تكن مألوفة لي أو ضمن بنك مفرداتي، لكني قرأت ما استطعت قراءته من الكتابين في الوقت الضئيل الذي أملكه، وبالطبع لم أجرؤ على استعارة أيّ منهما كوني في ذلك الوقت شعرت أني أرتكب خطيئة مميتة باتباع فضولي الآثم!

مرّت الأيام، وتوافرت مصادر المعلومات بكثرة وبحرية أكبر، وأصبحت الشبكة العنكوبتية هي الإنجيل المخلّص لي من جهلي بالكثير والكثير الممنوع التحدّث عنه في مجتمع يعتقد أن الصمت أو التستر على الأشياء يجعلها تختفي تماماً عن الأرض.كبرت وانتقمت من سياسة التجهيل المتبعّة بالانفتاح على كلّ شيء، والسعي للحصول على أكبر قدر من المعرفة بكلّ شيء وناحية من نواحي الحياة، وقامت المعرفة بالردّ على عشقي لها بمنحي مفاتيح الحريّة لكلّ القيود التي أقفل بها عقلي على مرّ السنين وتوفير الفرص والتجارب المناسبة لاختبارها عبر كلّ حواسي، أذاقتني حلاوتها ومسحت عن فمي مرارة الجهل.

تذّكرت هذا كله أمس، بعد أن زارتني في العيادة امرأة ترتدي خماراً كاملاً يخفي حتى عينيها مصطحبة طفلة ترتدي حجاباً، لتسألني إن كان بإمكاني إجراء عملية ختان لطفلتها البالغة من العمر تسعة سنوات. في البداية ظننت أنني لم أسمع سؤالها جيّداً، وطلبت منها الكشف عن وجهها لأتأكد مما سمعت عبر قراءة شفاهها، ففعلت وأعادت السؤال نفسه كما سمعته في البداية. وضّحت لها أنّي لا أقوم بإجراء هذه العمليّة، وتساءلت عن الداعي لإجرائها لطفلتها التي تعاني من مشكلة تبوّل لا إرادي أثناء الليل منذ أكثر من عام لم تحرّضها على عرض طفلتها على طبيب لأجلها، ولم تكن السبب الرئيس الذي دفعها لزيارتي في العيادة اليوم. الأم تذرعت بأعذار دينية، وألقت على مسمعي حديثاً نبوياً يتحدّث عن الختان لم أفهمه أو أحفظه جيّداً. ثم أسهبت وقالت أنّ الختان سيطفىء شهوة الطفلة في المستقبل بعد البلوغ ويحميها من الانحراف، بل وأنّ في الختان لطفلتها طهارة وصون لعفتها.

كون الأم مصرية الجنسية، تفهمت أن قناعتها مبنية على ثقافة شعبية لربما متداولة في مصر، وحاولت أن أشرح لها أن لا فائدة طبية علمية مثبتة للختان عند الإناث، وأنها ستعرّض طفلتها لإجراء جراحي قد يؤذيها سواء في المدى القريب أو البعيد، وأنّ الفتاة كما الرجل لها الحقّ بالتمتع بعلاقة جنسية سوية وطبيعية في الوقت الذي تكون فيه مستعدة وراغبة بذلك ضمن إطار معتقداتها الخاصّة التي لا يحقّ لأحد فرضها عليها أو القيام باختيارها بدلاً منها. لكن الأمّ أصّرت أنّ الختان أمر واجب دينياً، ولأني لست على اطلّاع متعمّق بالنظرة الدينية لموضوع ختان الإناث، طلبت منها الرجوع لمصدر ديني موثوق بدلاً من اعتماد المتداول على ألسنة الناس، وتساءلت عن مدى ثقتها بأقوالها، كون ختان الإناث حالة غير معمّمة في المجتمعات الدينية، ولم أسمع قبلاً عن ختان الإناث في المجتمع الأردني رغم أنه مجتمع ملتزم دينياً.

المهم، المرأة انسحبت من عيادتي برفقة طفلتها التي كانت تتمتع بابتسامة جذّابة ومعدية رغم كل شيء، ولا بد أنها ستستمر بالبحث عن طبيب يطفىء شهوة طفلتها الجنسية جراحياً قبل أن تولد، فيما ستتكفلّ هي بإطفاء شهوتها للحياة والحب والفرح والمعرفة دون أن تترك أي أثر جراحي على روحها.

لن أنام هذه الليلة براحة، تماماً كما لم أنم في ليلة اليوم الذي فضّت فيه بكارة عقلي بنكتة بذيئة قبل قرابة عقدين من الزمن.

ربما كنت محظوظة جداً بانتمائي لعائلة لا تؤمن بختان الإناث ولا تمارسه فعلياً، لكني أكاد أعتقد أن ألم اكتشاف خديعتي في يوم من الأيام، وكل تلك المساعي لإلصاق تهمة الدنس والبشاعة بالتفاعل الفطري الطبيعي الأقدم الذي أدّى إلى ولادتنا جميعاً على سطح هذه الأرض والتمتع بهبة الحياة، ختان أيضاً: ختان لذلك الجزء من العقل الذي يريد أن يفهم ويحسّ ويكتشف.

______

* شاعرة وطبيبة جراحة عامة.
الصورة أعلاه من موقع Shutterstock

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية