قضاء مصر المستقل عن العدالة: مقابلة مع المحامي أحمد عزت

الإثنين 19 كانون الثاني 2015
egypt-legal-system-court

على مدى تسعة عشر شهرًا مضوا، تصدرت صحف مصر والعالم العربي أخبار محاكمات وتحقيقات بدت في بعض الأحيان خارجة من روايات قاتمة وغريبة. حكم بإعدام 528 شخصًا في جريمة قتل واحدة، حكم بالحبس 15 سنة بسبب وقفة استمرت نصف ساعة، “محاكمة” داخل محاكمة، وتحقيق مع دمية.

«كافكا ده كان راجل طيب»، يقول المحامي الحقوقي المصري أحمد عزّت. بالنسبة لكثير من المصريين وغيرهم حول العالم، ما حصل ويحصل في ساحة القضاء المصري بات يشكل تحديًا مستمرًا لقدرتهم على تخيل عمق الحضيض، سياسيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا. هذا التردي العام الذي يشبه حائطًا ضخمًا يسد الأفق رفدته مئات الأعطال في جسم الجهاز القضائي؛ أعطال طال أمدها إلى حد باتت معه المحاكمة السليمة العادلة في مصر الاستثناء، لا القاعدة.

عزّت، الرئيس السابق للدائرة القانونية في المنظمة المصرية لحرية التعبير عن الفكر والرأي وأحد مؤسسي المنظمة، تحدث لحبر عن أزمات القضاء المصري في السنتين الأخيرتين، على هامش مشاركته في لقاء مفتوح دعا إليه حبر الأسبوع الماضي.

القضاء خصمًا للمتقاضين

لعل ما يلخص تراكم المشاكل التي يعاني منها القضاء في مصر هو النظرة الشعبية له. «هناك مقولة شهيرة في مصر مفادها أن المحكمة يومها بسنة»، يقول عزّت. هذا التصور الدارج للقضاء على أنه مكان تختل فيه معايير الزمن جاء «بناء على تجربة لعشرات السنين [أظهرت أن] البيروقراطية والفساد والرشوة والانحيازات العاطفية للقضاة هي المعيار الأساسي للحكم»، فحتى في قضايا غير سياسية لها علاقة بالحياة اليومية، ليست المحكمة -في ذهن عموم المواطنين- مكانًا للعدل الناجز.

أما في الشق الآخر من القضايا التي لها علاقة بالحقوق والحريات العامة مثل الحق في التظاهر وحرية الصحافة والحق في المشاركة السياسية، فإن نظرة النشطاء والمجتمع المدني للقضاء تتلخص بأنه «يساند السلطة السياسية لا تحقيق العدالة: لا يساند القانون ولا يساند ما ينص عليه الدستور».

التسيّس الذي وسم محاكمات عدد من النشطاء منذ الثورة بلغ حد «المكيدة الشخصية»، بحسب عزّت. «حين يصل القضاء لهذه المرحلة تأكدي أنه منهار تمامًا من الناحية الأخلاقية، ليس فقط من الناحية البنيوية أو من ناحية مهنيته وفهمه للقانون». فالقضاء لم يضع نفسه خصمًا لمعارضي النظام السياسي فحسب، بل فقَدَ «شرف الخصومة» في منازلتهم.

«ما حدث في آخر سنتين هو أن القضاء رأى نفسه جزءًا من السلطة الحاكمة». يتجسد فهم القضاء لدوره المتضخم، بحسب عزّت، في «زجّه بنفسه» في المعركة التي خاضتها السلطة التنفيذية بعد 30 يونيو 2013 ضد معارضيها من الإخوان المسلمين وغيرهم. فدور السلطة القضائية كـ«حامية لنظام الدولة» كان المنطق الأساسي الذي دفعها مذّاك لارتكاب انتهاكات واسعة في قضايا الحقوق والحريات. «ليس فقط الجيش والشرطة يستطيعون استخدام السلاح وقتل متظاهري الإخوان المسلمين أو مواجهة الأعمال الإرهابية، بل نحن [القضاء] نستطيع كذلك أن نفعل شيئًا بإضفاء شرعية على هذا النظام عبر الأحكام التي نصدرها. فبدلًا من الاعتقال التعسفي لكوادر الإخوان المسلمين، يتم حبسهم بحكم قضائي، ولا أحد يستطيع الاعتراض».

تحالف قضائي-تنفيذي

هذا الدور الذي اختطفته السلطة القضائية المصرية يتصل أساسًا بفهمها لـ«استقلال القضاء»، كحق لها وركن ضروري للحفاظ على سلامة أحكامها، لتحقيق الفصل بين السلطات. «القضاء يرى مصطلح الاستقلال بمعنى أن لا رقيب عليه بأي شكل من الأشكال. المفروض أن استقلال القضاء معناه أنه ليس من حق أي سلطة أن تفرض أي رأي على القضاء بما يخالف القانون أو الدستور». لكن ما يحدث هو أن القضاء يرى نفسه فوق الانتقاد أو التعليق، حتى حين يصدر حكمًا يخالف القانون أو الدستور، متجاوزًا الاستقلالية إلى السلطة المطلقة.

القضاء لم يضع نفسه خصمًا لمعارضي النظام السياسي فحسب، بل فقَدَ «شرف الخصومة» في منازلتهم.

 يبرز عزّت القضاء الجنائي بالتحديد كأخطر قطاع قضائي «لأنه ببساطة مسؤول عن تقرير حرية الأشخاص». بحسب قانون الإجراءات الجنائية في مصر، «يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته». دون معايير واضحة تحدد صلاحيات القاضي وضمانات حقيقية للمتهمين بالمحاكمة العادلة، تتحول سلطة القضاة الجنائيين إلى ما يشبه «سلطة دينية».

تبعًا لذلك، بات من السائد في القضاء الجنائي تجاوز إجراءات المحاكمة المنصوص عليها في القانون المصري، والتركيز فقط على ما إذا كان المتهم مذنبًا أم لا. «السؤال هو: لماذا وضع القانون هذه الضوابط أصلًا؟ لماذا أقر أن القبض وتفتيش المنازل والأشخاص يجب أن يتم ضمن إجراءات معينة؟ لماذا قال أنه لا يجب إكراه متهم على الإدلاء بأقوال معينة؟ لأن تلك هي معايير المحاكمة العادلة، ولا يجوز أن يصدر حكم على متهم بناء على محاكمة ظالمة».

لا آلية للمحاسبة، ولا سبيل للإصلاح الداخلي

وسط هذه الثغرات والتجاوزات، يشتد افتقاد آليات محاسبة القضاة في حال إصدارهم أحكامًا تخالف القانون. فبحسب عزّت، «لا يوجد حاليًا آلية معينة تحقق هذه المحاسبة»، حتى إذا قبلت محكمة النقض (الاستئناف) بطعن في قرار محكمة الجنايات، أي أقرت بوجود خلل أو تجاوز في الحكم الصادر عنها.  «هناك إحصائيات تقول أن أكثر من 50% من الأحكام التي تصدر في مصر تصدر عن طريق الخطأ، سواء من ناحية الإجراءات أو من ناحية تطبيق القانون. من يحاسب هؤلاء الناس الذين يتحكمون بمصائر كثيرين؟».

بطبيعة الحال، لا ينطبق ذلك على جميع القضاة، لكن مساحة التحرك المتاحة للقضاة المنفلتين من هيمنة التحالف الوثيق مع السلطة التنفيذية ليست كافية لتحقيق الكثير. «بالتأكيد هناك تململ وغضب داخل قطاعات من شباب القضاة أو رجال النيابة العامة، لكن هؤلاء لا يملكون القدرة على تنظيم أنفسهم أو تكوين منبر داخلي لهم في المؤسسة القضائية حتى يكونوا انطلاقة للإصلاح».

لكن محاولات إصلاح النظام القضائي من الداخل في السياق الراهن تكاد تكون ميئوساً منها، وفقًا لعزّت. فالإجراءات التأديبية التي يمكن محاسبة القضاة عبرها داخل المؤسسة القضائية باتت شكلية «لأنه في النهاية، القاضي لن يحاسب زميله القاضي (..) وهذا ينطبق على أي مؤسسة تلعب دورًا أساسيًا في النظام السياسي الحالي. (..) لا بد من تغيير سياسي شامل لأن الموضوع لم يعد مرتبطًا فقط بانحياز ما يسمى بصقور السلطة القضائية للقمع والاستبداد والنظام القائم. المشكلة أيضًا في الطريقة التي تمت بها هيكلة الجهاز القضائي في مصر».

أثر هذا «التغيير السياسي الشامل» كان واضحًا حين تمت محاكمة مبارك بعد موجة شعبية واسعة طالبت بالإصلاح في كل المجالات، ثم أعيدت المحاكمة ومنح مبارك ونجلاه البراءة حين انحسرت تلك الموجة، الأمر الذي أثبت أن القضاء جزء من الطبقة السياسية الحاكمة ومصالحه متشابكة مع مصالحها، في رأي عزّت. وفي انتظار هذا «التغيير السياسي الشامل»، ما يتبقى للمجتمع المدني هو الدفع باتجاه إصلاحات، «ولو طفيفة».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية