يوسا واليوتوبيا المستحيلة: الجنة قريبة، إنها على الناصية الأخرى

الأحد 18 كانون الثاني 2015
el paraiso en la otra esquina mario vargas llosa

– هل الفردوس هنا؟
– كلا إنها ليست هنا، جرب مرةً أخرى، ربما تجدها في الناصية الأخرى. *

حين تقرأ ماريو فارغاس يوسا في رواية «الفردوس على الناصية الأخرى» لا بد أن تستشعر رغبة يوسا في الوصول إلى الكمال في الحرفية، إذ يثبت يوسا لقارئه قدرته على الصبر في انتقاء أحداث روايته وتتبعها لثلاث سنين قبل أن يقرر أن يُفرج عنها. ومن استخدامه لأبطال حكايات الرواية في البحث عن الفردوس، لا يتيح لك يوسا مجالاً للراحة، بل يطرح أراءً راديكالية شجاعة، ويدفع القارئ للامتنان.

يسعى يوسا، الروائي البيروفي، في روايته «الفردوس على الناصية الأخرى» الصادرة بالإسبانية عام 2003، لتحقيق المستحيل «اليوتوبيا»، يبحث عن حلم جميل ومتمرد، بكل احتمالات الفوز والخسارة.

تسير الرواية في عالمين متوازيين، لا يتلقيان زمنيًا، لكنهما يشتبكان في تفاصيلهما وأحلامهما وجذورهما العائلية، ويتنقل السرد الروائي بصورة محكمة بين زمن «السّلف الاشتراكي 1803-1844» وزمن «الخلف البرجوازي 1848-1903».

يضعنا يوسا على وجه التحديد في فرنسا القرن التاسع عشر، في أعقاب خطى الشخصيات: فلورا تريستان وحفيدها الرسام بول غوغان، في فصول متنقلة، نكتشف فيها حياتين متصلتين بالدم، متباعدتين في الزمان، فنجد أنفسنا أمام بانوراما غنية من اليوتوبيا الاشتراكية الأوروبية.

في القصة الأولى حاولت فلورا تريستان تعبئة الجنة في إكسير خاص بها، بعد أن شاهدت أطفالًا في مدينة أريكويبا في البيرو يلعبون لعبة «الفردوس على الناصية الأخرى»، ففهمت أن هذه اللعبة القديمة والمتغيرات المتعددة يمكن أن تكون بمثابة استعارة للحياة.

ففي فلسفة فلورا للحياة، الإنسان دائم السعي للوصول إلى الجنة، وكل ما حصل عليه حتى الآن هو إثباتٌ على أنها بعيدة المنال، وأن كل سعيه إنما يرسله إلى الناصية الأخرى وما بعدها، فالناس ليسوا سوى حالمين باحثين عن جنات فُقدت أو لم تكن موجودة.

تبحث فلورا عن فردوسها الخاص في مشروعها الاشتراكي «الاتحاد العمالي»، وتسافر من مكان إلى مكان داعية إلى إقامة الجنة على الأرض، لكنها لا تجد إلا الظلم واللامبالاة، فتدور في رأسها الإجابة نفسها «كلا يا سيدتي، الفردوس على الناصية الأخرى».

تعيش فلورا الظلم مكررًا، إذ تتحول بين ليلة وضحاها من ابنة شرعية إلى ابنة غير شرعية بحكم القانون، وتنزل من طبقة برجوازية إلى طبقة عاملة فقيرة، تتعرض فيها إلى إهانة رب العمل والتحرش الجنسي والاغتصاب، ومن ثم زواج قسري وعنف جسدي ولفظي، وهروب متكرر من الحياة، ومن ثم ضياع في هويتها الجنسية، واضطراب في حياتها العاطفية.

امتصت فلورا التيارات الاجتماعية كلها في ذلك الوقت، ونجحت في أن تقف على قدميها بشكل أو بآخر، حتى وإن كانت مهشمة من الداخل، وحاولت أخيرًا اقتراح حلم لمجتمع أكثر عدلًا، وعالم أكثر سعادة: أمميٌ وواعٍ، وبروليتارية مستعدة للقتال من أجل المستعبدين، إلا أنها فشلت.

الحكاية الموازية لها كانت حكاية بول غوغان، حفيدها، الذي يبدأ حياته كمحاسب برجوازي تعيس، ويحمل من صفات جدته العند والتمرد والبحث الدائم عن السعادة والفردوس، إلا أن غوغان كان يبحث عن فردوسه الخاص، على عكس جدته التي كانت تبحث عن الفردوس للمجتمع كله.

يتحول غوغان في فصول الرواية من موظف في سوق الأوراق المالية وزوج ملتزم، إلى رسام بوهيمي يعيش في الجُزر حياة البدائيين، يبحث عن مساحات من الحرية تاركًا وراءه أسرته وعالمه البرجوازي بأكمله، ويُبحر إلى  تاهيتي بحثًا عن الفردوس، مُعلنًا نفوره من الحياة الأوروبية القديمة والمتعفنة وكرهه لرساميها الانطباعيين.

في هذه الرواية يرسم يوسا صورة امرأة وحفيدها، أحدهما حاول بناء جنته على الأرض، والآخر حاول العثور على جنته المفقودة، وكلاهما فشل في ذلك، إلا أن يوسا نجح في أن يترك لنا مثالًا عن متغيرات الحياة، وأن يفتح لنا نواصي جديدة للتفكير.

* «الفردوس على الناصية الأخرى» لعبة شعبية للأطفال اشتهرت في إسبانيا وأميركا اللاتينية، حيث يغمض الطفل عيناه، ويقف على دائرة ويسأل أصدقاءه «هل الفردوس هنا؟» فيجيبونه «كلا ياسيدي، جرب مرة أخرى فربما الفردوس على الناصية الأخرى!».

el paraiso en la otra esquina mario vargas llosa-arabic

معلومات الكتاب

الاسم الأصلي: El Paraíso en la otra esquina
الاسم بالعربية: الفردوس على الناصية الأخرى
المؤلف: ماريو فارغاس يوسا
المترجم: صالح علماني
الناشر بالعربية: دار الحوار
عدد الصفحات: 464

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية