زعماء في مسيرة باريس: معًا ضد المنطق

الإثنين 12 كانون الثاني 2015
paris_rally_world_leaders

لنضع الأمر كالآتي: سار الملك عبد الله الثاني والملكة رانيا البارحة جنبًا إلى جنب مع الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند وغيره من الزعماء والسياسيين، تضامنًا مع ضحايا جريمة الهجوم على صحيفة شارلي إبدو في باريس. في ديسمبر 2013، نشرت الصحيفة كاريكاتيرًا يظهر أولاند في زي مهرج مع تعليق يقول «مستعدون للضحك لسنة أخرى؟». ماذا كان سيحدث لو نُشر في الأردن كاريكاتير يظهر الملك في زي مماثل، في ظل قانون عقوبات يجرّم أي مس بالملك من قريب أو بعيد -بل يجرّم بالتحديد استخدام صورة الملك في «رسم هزلي (..) يمس بكرامة جلالته»- ويضعه في خانة «إطالة اللسان» التي تمتد عقوبتها بين سنة وثلاث سنوات؟

الجواب كان واضحًا جدًا لكثير من الأردنيين الذين صعقتهم المفارقة، فالمسيرة برمتها بدت كنكتة سمجة. من السهل النظر إلى الصف الأول من مسيرة باريس والتساؤل عمّا إذا كان المنطق يعني شيئًا في هذا الكوكب: رئيس وزراء دولة شنت قبل ستة أشهر حربًا قتلت 2310 شخصًا بينهم 17 صحفيًا، وسفير مملكة تمنع النساء من قيادة السياراتوتجلد الناس على الملأ على خلفية آرائهم، ورئيس سلطة حكم ذاتي تحبس من يمس به على الفيسبوك بتهمة قذف المقامات العليا، يسيرون جنبًا إلى جنب دفاعًا عن حرية الرأي والتعبير وتنديدًا بالإرهاب.

لكن حتى يصبح مفهومًا كيف قرر هؤلاء المشاركة في مسيرة باريس دون أدنى إحساس بالتناقض، علينا أن نقوم بالفعل الأهم لتجريد أي حدث من معناه، وبالتالي منع أي شعور بلا منطقيته: نزعه من سياقه.

 بالنسبة لزعماء -أو مواطنين- يحبون التضامن المجاني مع حريات الآخرين ولا يجيدون حمايتها في بلدانهم، كان الهجوم على شارلي إبدو هو الجريمة المثالية لممارسة هوايتهم.

حين ننزع المشاركة في المسيرة من سياق حالة الحريات في بلد الزعيم المشارك، لا يعود هناك تناقض أساسًا. فالموضوع في تلك اللحظة ليس عدد سجناء الرأي في بلده، ولا القوانين التي تجرم الحريات الدينية فيه، بل هو ببساطة الموقف الذي يحاول إعلانه هذا المتظاهر من الهجوم على شارلي إبدو. هو لا يتظاهر دفاعًا عن حرية التعبير، بل يتظاهر دفاعًا عن حرية تعبير الفرنسيين عن آرائهم -في الغالب تجاه غير الفرنسيين- وهو لا يتظاهر ضد الإرهاب، بل يتظاهر ضد الإرهاب الذي يمارسه مسلمون ضد غير المسلمين. لذا، ليس من التناقض في شيء أن يسير الملك إلى جانب نتنياهو لمحاربة الإرهاب. كما إن وجود «سليل الرسول» في الصف الأول من المسيرة هو أمر طبيعي، تمثيلًا وتكريسًا للسلوك الاعتذاري الذي عمّ مُسلمي العالم إزاء جريمة لم يرتكبوها.

في الفراغ الذي تطفو فيه أي حادثة منزوعة من سياقها، لا يعني الشيء أكثر من ذاته، ولا يحتاج أية تفسيرات. بالنسبة لزعماء -أو مواطنين- يحبون التضامن المجاني مع حريات الآخرين ولا يجيدون حمايتها في بلدانهم، كان الهجوم على شارلي إبدو هو الجريمة المثالية لممارسة هوايتهم. صيانة الحريات ونصرتها لا تكلف هنا سوى شعارًا يقول Je suis Charlie، ليجد المرء نفسه فجأة متنورًا مخضرمًا وعدوًا للظلام والتطرف. أليس ركوب طائرة إلى باريس والمشي بضعة عشرات الأمتار أسهل من تلقي النقد وتغيير القوانين القمعية والانصياع للإرادة الشعبية؟

حتى حين لا يمحو التضامن موقفًا نقديًا من محتوى الصحيفة، باعتبارها «مسيئة للإسلام» ولأديان أخرى كما رأت الملكة رانيا، يظل التبرؤ من الهجوم بالمشاركة في المسيرة اعترافًا ضمنيًا بأن هذه «الإساءة» مسألة حرية تعبير. الأهم من ذلك، أن هذا التبرؤ يظل دافعًا لتحييد أي سياق اجتماعي أو ثقافي أو سياسي للهجوم -وكأن دراسة الأحداث وتفسير جذورها هي تبرير لها، بمنطق «التضامن الأبله» الذي ساد العالم في الأيام الأخيرة.

هكذا تصبح مأساة الهجوم مرتبطة فقط «بمجموعة من المتطرفين الذين أرادوا القتل لأي سبب وبأي ثمن»، ويصبح إعلان موقف من هؤلاء المعاتيه المسلّحين الذين سقطوا من السماء أمرًا لا خلاف عليه، بل مطلوبًا من الجميع، دون أن يدفع أصحاب هذا الموقف ضريبته بالقليل من الاتساق مع النفس، أو حتى المنطق.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية