مذبحة الألتراس ومعركة الفضاء العام

الثلاثاء 10 شباط 2015
zamalek-football-egypt-massacre

بقلم شادي لويس*

بعد أسبوع واحد من الذكرى الثالثة لمذبحة استاد بورسعيد التي راح ضحيتها 74 قتيلًا، عادت ملاعب كرة القدم المصرية لتكون ساحة لمذبحة أخرى في استاد الدفاع الجوي، لا تقل دلالاتها الدموية فداحةً ووطأةً عن سابقتها. فمأساة مباراة الزمالك وإنبي الأخيرة التي حصدت أرواح 22 ضحية تأتي لتؤكد مرة أخرى عن استحكام أزمة السيطرة على الفضاء العام في مصر، وعن تهاوي قدرة السلطة على تنظيم علاقاتها، ولتعمق انقسامًا مجتمعيًا يصل في حدته بالفعل لمقدمات الاحتراب الأهلي.

اعتمدت الأنظمة المصرية المتعاقبة منذ الحقبة الناصرية على محاصرة الفضاء العام المعنوي والسيطرة على مقاليده عبر تأميم المؤسسات السياسية والنقابية والدينية، وتهجين الأنشطة ذات الصفة الأهلية ومحاصرتها. بينما تولت الأجهزة الأمنية السيطرة على الفضاء العام المادي عبر حزمة من القوانين الاستثنائية المجرّمة للحق في التجمع في الأماكن العامة، والاعتماد على قوات الأمن المركزي لإخماد فورات التمرد المتتالية، وفوق الكل بحضور أمني كثيف على كافة المحاور المادية لحياة المواطنين، وتفاصيلها اليومية. لكن انهيار قوات الأمن بالكامل في جمعة الغضب (28 يناير 2011) أمام حشود المحتجين كان إعلانًا نهائيًا، وإن كان متأخرًا، عن تهاوي قدرة السلطة على السيطرة على الفضاء العام بمستوييه المعنوي والمادي بوسائلها التقليدية.

في الأعوام الأربعة التالية لثورة يناير، كشفت سلسلة من أحداث العنف الأهلي والمصادمات الدموية بين الشرطة والمواطنين عن فشل مواءمات السلطة في إيجاد صيغة لعقد اجتماعي جديد قادر على تنظيم العلاقات داخل المجتمع، أو حتى استعادة قدرة اجهزتها الأمنية السابقة على ضبطه في إطار استخدام الحد الأدنى من العنف.

في ذلك السياق، كانت مدرجات جماهير كرة القدم، ساحة رمزية  للصراع على فرض السيطرة، ونموذجًا مصغرًا لما يحدث خارجها، ففيما سعت الدولة للإيحاء باستعادة قدرتها على تنظيم الفضاء العام، ممثلةً في ضبط الجماهير داخل المدرجات، وإجراء مباريات مسابقات الدوري والكأس كدلالة على عودة الحياة لطبيعتها، كانت روابط مشجعي الكرة، المعروفة بالألتراس والتي لعبت دورًا فاصلًا في معارك يوم جمعة الغضب وما تلاها من اشتباكات مع الأمن في السنوات الماضية، عازمةً على التمسك بالإطار الجديد للعلاقة بين السلطة والمواطنين الذي فرضته الثورة، ولسان حالها أغنية الألتراس الشهيرة « مش ناسيين التحرير…».

 استخدام العنف المفرط وغير المنضبط (..) لا يكشف فقط عن انعدام كفاءة قوات الشرطة المصرية، بل بالأحرى عن سياسة ممهنجة تبيح استخدام القوة القاتلة غير المبررة في أية مواجهة بين الشرطة والمواطنين.

من هنا أضحت مدرجات الكرة مركزًا للصراع بين قوى تبغي عودة الأمور لطبيعتها، أي استعادة صيغة السلطة كما كانت قبل الثورة، وبين إرادة لتجذير مكتسبات الثورة، تسعى لها جماهير غايتها المتعة والتعبير عن نفسها في تحرر من قبضة الأمن وسلطوية الدولة، داخل المدرجات وخارجها.

في سياق ذلك الصراع، وبينما تُلقي ملابسات مذبحة الدفاع الجوي بالمسؤولية السياسية عن المأساة على أجهزة الأمن -إن لم تكن الجنائية أيضًا- فإن استخدام العنف المفرط وغير المنضبط من جهتها، وعدم توخي معايير الأمن والسلامة في استخدام وسائل التحكم في الحشود، ما ساهم في ارتفاع عدد الضحايا، لا يكشف فقط عن انعدام كفاءة قوات الشرطة المصرية، بل بالأحرى عن سياسة ممهنجة تبيح استخدام القوة القاتلة غير المبررة في أية مواجهة بين الشرطة والمواطنين، لضبط الفضاء العام.

تدعم فرضية منهجية القتل تلك عشراتُ الأحكام القضائية التي برّأت المسؤولين السياسيين وأفراد الأمن في قضايا ضحايا الثورة، ومئات من القتلى في اشتباكات تالية، بالإضافة إلى تصريحات مسؤولي الدولة ووسائل الإعلام الموالية لها التي ألقت اللوم مرارًا وتكرارًا على الضحايا، مانحةً رخصة بالقتل العشوائي للأجهزة الأمنية في سبيل استعاده «الاستقرار».

يأتي انخفاض الكلفة السياسية والجنائية لجرائم الدولة -بل انعدامها على الأطلاق- كنتيجة مباشرة لدعم قطاعات مجتمعية واسعة لسياسات القتل العشوائي، وتواطئها على تسارع جنوني لمذابح شبه يومية يرتكبها أفراد الشرطة الموقنين بإفلاتهم من العقاب أو حتى المساءلة الصورية.

هذا التواطؤ المجتمعي يتجلى بأكثر صوره ضراوةً وقسوةً  في استمرار مباراة الزمالك وإنبي، واحتفال اللاعبين بأهدافهم التي أحرزوها بينما تقتل جماهيرهم على بوابات الاستاد. عدا لاعب الزمالك عمر جابر الذي أحاله ناديه للتحقيق لامتناعه عن اللعب، استمر اثنان وعشرون لاعبًا -هم للمفارقة المؤلمة نفس عدد الضحايا- وطواقمهم الفنية، وطاقم الحكام، والطواقم الإعلامية في لعب المباراة وبثّها على شاشات التلفزيون. بالإضافة لذلك، ألقت وسائل الإعلام الموالية للنظام كعادتها اللوم على الضحايا، وأصدرت النيابة العامة قرارًا بالقبض على قيادات رابطة مشجعي نادي الزمالك، «الوايت نايتس»، التي سقط جل القتلى من أعضائها، بوصفهم جناة لا أصحاب حق.

لاحقًا، جاء إعلان الحكومة عن تعليق أنشطة الدوري العام كاعتراف ضمني بفشل السلطة في ضبط الفضاء العام، ونفيًا لوهم استعادة «الحياة الطبيعية». لكن في الوقت نفسه، فإن إصرار أجهزة الدولة على نفي مسؤوليتها السياسية والجنائية عن المذبحة، أي تمسكها بصيغة القوة القاتلة كسبيل وحيد لضبط علاقات الفضاء العام، لا يدع أمامنا سوي القليل من الشك حول مالآت الوضع القائم.

فدون عزم مجتمعي وإرادة سياسية حقيقية لدى النخب الحاكمة لتأطير عقد اجتماعي جديد يحكم علاقات السلطة بالمجتمع، وإرساء مبادئ المحاسبة وحرمة الحياة الإنسانية، وإعادة هيكلة الشرطة، وطرح برنامج واسع وفوري للعدالة الانتقالية والمصالحة الأهلية، يبدو أن دوائر العنف الدموي ومرارات الثأر المتراكم بين الدولة وقطاعات واسعة من الأهالي، وبين فئات المجتمع نفسها، ستنتهي باستفحال جرائم الدولة وتسارع مذابحها، وفورات عشوائية لعنف أهلي مضاد، وخروج الفضاء العام بالكامل عن السيطرة، بل وربما وصول الدولة المصرية كما نعرفها لمحطتها الأخيرة والنهائية.

 

* كاتب واختصاصي نفسي مقيم في لندن، من مصر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية