موسيقى الربيع: كيف ألهمت الطبيعة المؤلفين الكلاسيكيين عبر الزمن

الخميس 19 آذار 2015
an-orchard-in-spring-monet-music

في جميع الثقافات وعلى مر العصور، احتفل البشر بالربيع، الفصل الذي تتجدد فيه الطبيعة وتتجدد معها نفوسنا. فمن النوروز في إيران وكردستان إلى شم النسيم في مصر إلى الهانامي في اليابان، كان الربيع دومًا مناسبة للاحتفاء بالطبيعة وقدرتها على خلق الجمال في أكثر صوره بساطة وأقلها تكلفًا، على اختلاف السياق الثقافي للاحتفال.

تزامنًا مع الاعتدال الربيعي الذي يحل غدًا ليعلن انتصاف اليوم بين الليل والنهار وانقضاء الشتاء رسميًا، نختار لكم مجموعة من المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية المستوحاة من الربيع.

فردريك ديليوس: لدى سماع أول وقواق في الربيع (1912)

قلائل هم المؤلفون الذين استطاعوا ترجمة الطبيعة إلى الموسيقى كما فعل فردريك ديليوس، الذي سماه البعض رسول الطبيعة. عاش ديليوس معظم حياته في فرنسا، إلا أن علاقة خاصة ربطته بالنرويج، إذ سحرته طبيعتها عند زيارته الأولى لها في سن التاسعة عشرة، ومن يومها عكف على العودة إليها بانتظام ووجد فيها الإلهام لكثير من مقطوعاته. من هنا كان من اللائق أن تكون أغنية فلكلورية نرويجية هي نقطة الانطلاق لعمله الشهير «لدى سماع أول وقواق في الربيع».

في هذه المقطوعة، تحاكي آلتا الأوبوا والكلارينيت صوت الوقواق، وسط مشهد طبيعي أخاذ تصوره بقية آلات الأوركسترا.

لودفيغ فان بيتهوفن: السوناتة الخامسة للكمان والبيانو (1801)

عُرف عن بيتهوفن أنه كان يمضي الساعات متجولًا في الغابات والحقول بصحبة قلم وأوراق. «كفنان، لا بد أن تكون عاشقًا للطبيعة»، قال لأحد طلابه. في هذا اللقاء اليومي والمقدس كان بيتهوفن يسجل الكثير من الأفكار الموسيقية. كتب بيتهوفن عشر سوناتات للكمان والبيانو، لعل «الربيع» أكثرها شهرة وحبًا لدى الجمهور. في هذا العمل شراكة تامة بين الآلتين، ومع أن بيتهوفن لم يطلق بنفسه على هذه السوناتة اسم «الربيع» إلا أن روح التفاؤل والإشراق التي تطغى على المقطوعة ساهمت في استمرار هذا اللقب الملائم إلى يومنا هذا.

فرانشسكو لانديني: حان الربيع (القرن 14)

فلنسافر الآن عبر الزمن إلى العصور الوسطى، حيث اشتهر فرانشسكو لانديني كأهم مؤلف إيطالي في عصره. «حان الربيع» تصور مشهد الاحتفال بقدوم هذا الفصل المبهج:

حان الربيع

ليوقظ قلوبنا للتهلل

إنه وقت للعشق

وارتداء وجه سعيد

قد لا يخيل إلينا بأن كاتب هذه الموسيقى، بإيقاعها الراقص وجوّها البهيج، كان كفيف البصر منذ صغره. على الرغم من ذلك، برع لانديني في العزف والغناء وكتابة الشعر وصناعة الآلات الموسيقية، وقيل أن العصافير كانت إذا حلقت بقربه توقفت عن الغناء للاستماع إلى عزفه العذب.

إدفارد غريغ: الربيع الأخير (1881)

«قليلة هي الأشياء التي يصعب تخيلها أكثر من أن منظرًا باردًا ومثقلًا بالثلج، يرتجف العظم لسكونه وانعدام الحياة فيه، سيضحي في غضون أشهر أخضر، خصبًا ودافئًا، تنتفض فيه كل أشكال الحياة: من العصافير التي تغرد طائرة بين الأشجار، إلى أسراب الحشرات التي تحلق في جماعات متناثرة في الهواء. لا شيء في الشتاء ينبئ بعطر الطحلب والخلنج اللذان استدفآ بأشعة الشمس، أو بالأشجار التي اندفع فيها الصمغ، أو بالبحيرات الذائبة المستعدة للربيع والصيف (..) إنه ليس هنا بعد. إنه غير موجود. كل شيء أبيض وساكن، وإن عكر الهدوءَ شيءٌ فهو الريح الباردة أو نعيق غراب وحيد. لكنه قادم… إنه قادم… في ليلة ما في آذار يتحول الثلج إلى مطر، وتنهار أكوام الثلوج. وصباح يوم ما في نيسان هناك على الأشجار براعم، وهناك آثار اخضرار في العشب الأصفر. يظهر الأقحوان، ومعه شقائق نعمان زرقاء وبيضاء. على المنحدرات المشمسة هناك براعم تفتحت، وهنا وهناك شجر الكرز قد أزهر».

هكذا وصف الكاتب النرويجي كارل أوف كنوسجارد وقع الربيع في نفوس النرويجيين بعد أشهر شتاء طويلة وكاحلة الظلام. في مقطوعة «الربيع الأخير» للمؤلف النرويجي إدفارد غريغ، والتي وزعها فيما بعد للوتريات، يتأمل المغني كل هذا الجمال ويتساءل إن كان يتذوقه للمرة الأخيرة، قبل أن ينتشله الموت من هذه الحياة.

فردريك شوبان: الربيع (1838)

على المرء أن يبحث كي يجد بين مؤلفات البولندي فردريك شوبان ما هو ليس للبيانو فقط. ومن هذه الكنوز النادرة 19 أغنية للصوت والبيانو مبنية على أشعار بولندية، لم تُنشر إلا بعد وفاة المؤلف. وقد قام فرانز ليست، وكان صديقًا لشوبان، بتوزيع ست من هذه الأغاني للبيانو دون غناء.

تحدثنا الكلمات عن راعٍ يسير مع قطيعه في حقل مفتوح. يجلس إلى صخرة متأملًا جمال الطبيعة وهدوء المكان، وأثناء غنائه تتسلل مشاعر حزن وندم إلى صدره، وتصعد دمعة إلى عينه. وعندها يحلق طائر القبرة المغرد من فوقه ليلتقط أغنيته ويحملها إلى السماء، ربما إلى عزيز فقد.

إيغور سترافينسكي: أضحية الربيع (1913)

في باليه «أضحية الربيع»، يصور المؤلف الروسي سترافينسكي طقسًا وثنيًا يقدم فيه أفراد قبيلة بدائية أضحية لإله الربيع، عساه ينعم بالخصوبة على الأرض في بداية هذا الفصل. الضحية هي فتاة يتم اختيارها من القبيلة، عليها أن ترقص حتى الموت.

اعتبر بعض المؤرخين ليلة العرض الأول لـ«أضحية الربيع» بداية عصر الحداثة في الموسيقى، فقد أحدث هذا العرض ثورة بالمعنيين المجازي والفعلي. يتذكر العالم أحداث الشغب بوضوح: لم يحتمل الجمهور الباريسي ما سمعه ورآه، ومن اللحظات الأولى علا الضحك وصفرات الاستهجان. كانت الموسيقى غريبة، مستفزة، متنافرة الأنغام، عنيفة الإيقاعات، بعيدة عن كل ما هو مألوف. لكن حالما بدأ الرقص انفلت الحبل تمامًا، وعمت الفوضى في المدرجات من صراخ وشتم وتبادل للّكمات، وكان من الأعجوبة أن استمرت الفرقة نصف ساعة كاملة لنهاية المقطوعة.

اعتبر الكثيرون العمل «مهزلة»، ربما بسبب صدمة القصة والرقص أكثر من الموسيقى نفسها (التي باتت غير مسموعة وسط الصراخ)، لكن العديد من الحاضرين سمعوا العبقرية فيها، ومنهم المؤلف الفرنسي كلود ديبوسي. وسرعان ما أخذت موسيقى هذه الباليه، بما أحدثته من ثورة في التأليف والإيقاع وتنظيم النغمات، مكانًا أكيدًا في روائع الموسيقى الكلاسيكية، ذاع بسببها صيت سترافينسكي حول العالم.

رالف فون وليامز: الطائر المغرد في صعوده (1914-1919)

يعود طائر القبرة مرة ثانية في مقطوعة أخرى تعد من أهم إنجازات الموسيقى الإنجليزية. كتب فون وليامز هذه المقطوعة عام ١٩١٤ للكمان والبيانو، ثم عاد إليها بعد الحرب العالمية الأولى، والتي جند فيها في الجيش الإنجليزي، ليوسعها إلى «رومانزا» للكمان والأوركسترا.

يقدم المؤلف لمقطوعته ببضعة أسطر من قصيدة «الطائر المغرد في صعوده» للشاعر جورج ميرديث، والتي يصور فيها طائرًا مغردًا يملأ السماء بغنائه، ويرفعنا معه حيث يذهب. استخدام فون وليامز الكمان للتعبير عن صوت هذا الطائر: يحلق الكمان في نغمات رفيعة عاليًا فوق آلات الأوركسترا، يصل إلى علو تنسحب فيه كل الأصوات الأخرى، ليجد نفسه منفردًا في غنائه. «يحلق إلى أن يضيع هناك وسط النور مع أجنحته، وعندها فقط يطلق غناءه بحرية».

يرى البعض في هذه المقطوعة وداعًا لعالم مضى، أو أملًا في عالم قد يكون. انتهت الحرب وخلفت دمارًا هائلًا. من يسمع اليوم صوت تغريد طائر القبرة؟ في هذه الموسيقى حلم بسلام، بحرية، بطبيعة تبقى خالدة في جمالها وكمالها على الرغم من كل ما صنعناه ونصنعه من تدمير.

يمكنكم الاستماع إلى العديد من المقطوعات الكلاسيكية الأخرى المستوحاة من الربيع في هذه القائمة الكاملة، كرائعة هايدن من «الفصول»، أو سيمفونية شومان الأولى، أو أغنية شوبرت الخالدة «في الربيع».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية