عندما يكتب المؤرخون عما حصل في هذا الجزء من العالم انطلاقًا من العام 2011، فإنهم بلا شك سينسبون هذه الأحداث إلى الكثير من العوامل، وسيراها كلٌ منهم بمجهر الأيديولوجيا التي ينطلق منها، وسيتم الحديث مطوّلًا عن عوامل اقتصادية وسياسية ووطنية ودينية وثقافية أدت جميعها إلى ألا يمر إحراق البوعزيزي لنفسه بسلام. وستهدف هذه الدراسات إلى العثور على إجابة ولو جزئية للعديد من الأسئلة ومن بينها: ما الذي دفع الشعوب العربية إلى الانتفاض، لماذا هذه اللحظة بالذات؟
عند دراسة العوامل الثقافية التي ساهمت في تغذية نار الربيع العربي، ستتم الإشارة إلى مؤلفات كثيرة حرّضت دومًا على الثورة، وسينتقي الدارس من بين هذه المؤلفات ما يناسب معرفته، وما يتوافق مع مرجعيته الفكرية، متنقلين بين الكتب السماوية وكتب ماركس وأورويل وسيد قطب وعلي شريعتي وفانون ومالكوم إكس، وستتم الإشارة إلى أفلام شهيرة يُظن أنها تركت أثرًا في وعي الجيل الذي قاد هذه الانتفاضة التي يبدو أنه لم يقدّر لها أن تكتمل، انطلاقًا من «الكرنك» ومرورًا بـ «إحنا ابتوع الأتوبيس» وصولًا إلى «هي فوضى».
في هذا المقال سأناقش واحدًا من العوامل الثقافية التي أزعم أنه كان عاملًا حاسمًا في انطلاق الربيع العربي أو على الأقل في تكوين شخصية من قاموا بالانتفاض، وإن لم يع الكثير منهم أثر هذا العامل، على اعتبار أن سنوات تفصل بين تعرضهم له وبين ظهور هذا الأثر، وهذا العامل هو برامج الأطفال. وفي محاولتي لإثبات أثر برامج الأطفال على شباب الربيع العربي، سأحاول تحليل الخطاب الموجود في برامج الأطفال التي تربّى عليها الجيل الذي بدأت طفولته مع ثمانينيات القرن المنصرم، وما صاحبها من أغانٍ، مقارنًا هذا الخطاب مع الخطاب السائد في الميادين العربية، وخصوصًا الشعارات الأثيرة من قبيل: عيش، حريّة، عدالة اجتماعية.
بل أنه من الممكن القول أن ساحات التحرير العربية كانت استنساخًا خطرًا للعوالم الخيالية التي خلقتها حكايا وأغاني برامج الأطفال، إذ أنها كانت العوالم الأولى التي يتعرف فيها الطفل العربي إلى معنى الحرية، ولفظة الحب، وكلمات من قبيل وطن وفداء، وهي العوالم التي نفدت عبرها ثقافةٌ بديلةٌ مختلفة عن ثقافة الخوف و«الهُسْ» والممنوع والحرام والنار التي سنصلاها جميعًا.
من الجدير بالذكر أن معظم برامج الأطفال التي شاهدناها خلال طفولتنا كانت من إنتاج غير عربي، وأن غالبيتها المطلقة كانت مدبلجة عن برامج يابانية أو أخرى غربية، واقتصر الحضور العربي في تلك البرامج على الدبلجة إضافة إلى كلمات الأغاني وأصوات المؤدين، والذين برز منهم الفنانة الشهيرة رشا رزق، وسامي كلارك صاحب الصوت غير القابل للنسيان في جزيرة الكنز، والشهير للغاية طارق العربي طرقان.
وفي هذه المادة أقوم بمحاولة تحليل خطاب هذه البرامج فقط، لأن الإنتاج العربي الخالص في تلك الفترة كان نادرًا جدًا، على الرغم من وجود برامج نالت شهرة كبيرة مثل «المناهل» و«افتح يا سمسم».
الحب في زمن المانغا*
ربما يكون مفهومًا أن تغيب ثيمة مثل الحب عن برامج الأطفال، على «افتراض» أن الأطفال في هذه المرحلة العمرية لا يعرفون من الحب إلّا أشكاله الأكثر بساطة وفطريّة. لكن هذا الأمر لم يحصل مع برامج الأطفال التي تربينا عليها، إذ أنه وعلى الرغم من قلّة الحديث عن مشاعر الحب فيها إلّا أنه لا يمكن بحال من الاحوال اعتبارها غائبة، ويمكن التدليل على وجودها بعلاقات الحب التي عرفناها بين عدنان ولينا، وبين رابح وكاترينا في الكابتن رابح، وبين نوار وهبة في الشجعان الثلاثة.
شرف الوطن
من القيم التي يمكن قراءتها بوضوح في برامج الأطفال، قيم حب الوطن والدفاع عنه، وبذل الغالي والنفيس في سبيله، ويمكن لنا أن نجد هذه الفكرة في العديد من برامج الأطفال، فمثلًا تقول أغنية برنامج صقور الأرض:
«شرف الوطن
أغلى منّا ومن
ما قد يجول بفكرنا
في أي زمن»
وفي مقطع آخر تقول الأغنية:
«تعاهدنا معًا على الإخلاص والإباء
تعاهدنا غدًا سنعلي راية الفداء
عهدًا بأن نكون
أقوى من الخصوم
أرواحنا فدا الوطن
رخيصة الثمن».
ويمكن قراءة هذه الرسالة في أغانٍ أخرى مثل هزيم الرعد، الحوت الأبيض، الشجعان الثلاثة: «ما عاش الظالم يسبيك وفينا نفس بعد» أو «لأجل أن تساهموا في الذود عن أعدائكم، لا بد أن تقاتلوا وتهزموا أعدائكم».
ومن المهم هنا الانتباه إلى أن معنى الوطن في هذه البرامج مختلف بعض الشيء عما يتعلمه الطفل في المدرسة. الوطن في معظم برامج الأطفال هو الكرة الأرضية، هو العالم كله، بالآخرين، بالأشجار والأحجار والحيوانات، وفي هذا مفارقة مزعجة، إذ أن مفهوم الوطن مع مضي الزمن بات يضيق أكثر وأكثر، ولربما نستيقظ ذات يوم لنجد أن كل واحد منّا وطن مستقل بذاته، وكل آخر عدو.
كما أن برامج الأطفال تعلمنا أنه وخلال خوضك لمعاركك (الخاصة والعامة) فإن هنالك الكثير من الأخلاق التي يجب التحلي بها، ولذا رأينا في أكثر من برنامج أن البطل لا يجهز على خصمه الجريح، ولا يغدر أو يخون. «كن حسن الخلق مع الخصم، فأهدافك أسمى».
الثورية
لم تكتف برامج الأطفال بالحثّ على رفض العدوان الخارجي فحسب، بل حثّت على رفض الظلم أيًّا كان شكله، ورفعت من شأن الثوار الذين طاب لهم أن يبذلوا حياتهم في سبيل رفع الظلم عن المظلومين، ولذا عرفنا روبن هود البطل الإنجليزي الشهير الذي يقود عصابة ممن يمكن للإعلام الرسمي أن يطلق عليهم لقب قطاع الطرق، وقد كانت هذه العصابة تسرق الأموال من الأغنياء لتمنحها للفقراء، وزورو البطل الإسباني الذي يدافع عن المظلومين، وباتمان أو الرجل الوطواط وهي الشخصية التي تكفلت بمحاربة الجريمة والفساد في مدينة غوثام، وغيرهم.
وهذا السلوك الثوري يمتاز بشجاعة منقطعة النظير، كما أنه يعبر عن علاقة صحيّة للمرء بمجتمعه، فبدلًا من السعي نحو الخلاص الفردي، يعلمنا هؤلاء الأبطال، وأخوانهم في ساحات التحرر العربية، أن الخلاص إنما هو خلاص المجموع، ولذا رأينا رجل الدبابة يتكرر فيالعديد من الميادين العربية.
وقد كانت البطولة موزعة في برامج تلك المرحلة، فبعض البرامج اختارت البطل الأوحد، فيما لجأت برامج أخرى إلى الإعلاء من شأن البطولة الجماعية كما في الحوت الأبيض والشجعان الثلاثة، وفي أغنية ماوكلي نقرأ: «وحدك عود غض وطري.. والجمع عصًا لا تكسر».
المساواة بين الجنسين
من الأمور التي تستحق أن تدرس باستفاضة: العلاقة بين الذكر والأنثى في برامج الأطفال، وتقاسمهما البطولة إلى حد كبير، وهذا رأيناه في الشجعان الثلاثة، والحوت الأبيض، ورأينا الفتاة تتحصل على البطولة المطلقة في برامج أخرى من بينها: ليدي أوسكار، وماروكو، ولبنى السريعة.
كما وأن الصور النمطية قد تم كسرها كثيرًا في العديد من برامج الأطفال فرأينا فتاة تلعب كرة القدم، وفتًى يغسل الأطباق، وأخرى تقاتل دفاعًا عن المظلومين على بوابة سجن الباستيل.
الواقعية
على الرغم من أن برامج الأطفال خلقت عوالم خيالية جميلة، إلّا أنه لم يفتها أن تقوم بالتذكير بأن العالم يعاني من كثير من القبح، وأن الحق لا ينتصر دومًا، صحيح أنها تذكرنا أبدًا بضرورة مواجهة الظلم، إلّا انها كذلك تعلمنا أن للباطل جولات.
بل إن بعض برامج الأطفال كانت أكثر واقعية مما يفترض بالطفل أن يطيق، ولذا رأينا الظلم الذي تعرض له جان فالجان في البؤساء، وهو البرنامج المأخوذ عن رواية فيكتور هوجو الشهيرة، ورأينا القهر والجوع في عيني بائعة الكبريت التي لا تجد ما ينقذها من برد المدينة الناخر للعظام إلّا أعوادَ ثقاب لا تغني ولا تسمن من جوع.
بل وإنه لمن الجائز القول أن الكثير من تلك البرامج عبر قصصها أو عبر أغانيها تنحو إلى زرع شيء من الكآبة في الروح، فالحزن حاضر دومًا وبقوّة، ومن شاهد حلقة الحصان الأسود من برنامج مخلص صديق الحيوان لا أظنه سينساها.
ولذا كنت دائمًا أقول أن برامج الأطفال تتحمل جزءًا كبيرًا من مسؤولية الكآبة التي تتملكنا، وربما تكون الفكرة من هذه الواقعية المفرطة الرغبة في تأهيل الأطفال لمواجهة العالم الحقيقي الذي يمتزج فيه الخير بالشر.
اللغة الثرية
من يتابع برامج الأطفال التي صدرت وانتشرت في الفترة التي كنّا فيها أطفالًا لابد وأنه سيلاحظ أن اللغة المستعملة فيها لغة متينة، ليس فقط من ناحية استعمال المدبلجين للغة عربية فصحى في الأغاني والبرامج، بل كذلك لأن اللغة المستعملة لغة جزيلة متنوعة الألفاظ، ومن الممكن للمتابع أن يتعلم منها بكل سهولة ويسر كيفية النطق السليم، إضافة إلى أنها تساهم وبشكل ملحوظ في إثراء لغة الطفل وفي تمكينه من التحدث بالفصحى بطلاقة لا يجيدها الكبار عادة. وذلك لأن الأطفال في كثير من الأحيان خلال لعبهم يقلدون بالصوت واللغة الشخصيات التي عرفوها في البرامج.
وعلى الرغم من أن هذا قد يكون لأسباب تجارية بحتة، إلّا أنه من المهم -من وجهة نظر شخصية على الأقل- الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من تلك البرامج قد تجنبت وبشكل كامل استعمال اللغة العامية، الأمر الذي لا نجده في المسلسلات الخاصة بالكبار، والتي باتت اللهجات العامية تطغى عليها، حتى في تلك المدبلجة منها.
قيم عامة أخرى
يقول الكاتب نيل جايمان: حكايات الأطفال صحيحة للغاية، ليس لأنها تخبرنا بأن الوحوش موجودة، ولكن لأنها تعلمنا بأنه من الممكن هزيمتها.
من الممكن القول أن هنالك مجموعة مهمة من السمات التي تميز برامج الأطفال علاوة على ما ذكرناه أعلاه، من بينها الحث على حب العائلة، التشجيع على الحلم، وعلى السير خلف الأحلام حتى النهاية، التشجيع على الطموح، فعل الخير، التعامل مع الكائنات بطريقة أكثر ودية، الحث على مساعدة الآخرين والتعاون معهم، مديح الشجاعة، الحث على التفكير بعوالم أخرى سواء أكانت عوالم متناهية الصغر كعوالم الحيوانات، أو عوالم أخرى لكواكب لم نكتشفها بعد. وكذلك امتازت بحثها للأطفال على استخدام خيالهم إلى أقصى الحدود، فرأينا حيوانات تتكلم، ووحوشًا تهاجم العالم، وأطفالًا خارقين، ورحلات عبر الزمان والمكان.
خاتمة
من الطبيعي أن تطرح النقاط التي ذكرتها أعلاه تحفظ البعض، وأن تتم المبادرة إلى القول أن هذه الأخلاق التي كانت برامج الأطفال تدعو لها هي أمر عام للغاية ولو قام أي كان بإنتاج برامج الأطفال لحرص هو الآخر على تضمين تلك البرامج هذه الرسائل السامية التي من المفترض أنه لا خلاف بين عاقلين عليها. وعلى الرغم مما في هذا الكلام من صحة، إلّا انه يسقط عند وضعه قيد الاختبار، إذ أن الدولة والقائمين على شؤون الطفل يثبتون فشلًا ذريعًا عندما يتعلق الأمر بالرسائل التي يبثونها للأطفال، وأي قراءة لمناهجنا التعليمية سترينا فشلًا فادحًا في اختيار الرسائل الموجهة إلى الأطفال، وكذلك ستعلمنا بالبون الشاسع بين الرسائل السامية التي تبث عبر برامج الأطفال وتلك التي يغرسها المعلمون والمعلمات في رؤوس الابناء، أو حتى تلك التي يبثها الأهل في رؤوس أطفالهم. وهو الأمر الذي يدفعني إلى السؤال: ما الذي كانت ستكون عليه حياتنا لو أن برامج الأطفال كانت هي المربي الأكثر تأثيرًا في عقول الأطفال؟
بعد هذا العرض الموجز لسمات برامج الأطفال وأغانيها، يمكن لنا أن نرى أن تكرارًا ما لجزء كبير من هذه القيم قد عرفته ميادين الربيع العربي، إن كان ذلك عبر الشجاعة المنقطعة النظير للمتظاهرين الذين واجهوا الرصاص بالصدور العارية، أو عبر كفر تلك الثورات بالحدود المصطنعة وانتقالها عبر الحدود رغم محاولات حصرها وحسرها، أو عبر المشاركة الكثيفة والمميزة للمرأة العربية في تلك الانتفاضات.
* المانغا هي الاسم الياباني للقصص المصورة، ويستخدم خارج اليابان للدلالة على القصص المصورة التي أنتجت في اليابان، أو القصص المصورة التي رسمت بنمط مشابه للنمط الياباني.