لا قيمة للمادة الأرشيفية إن لم تكن متاحة للعامة. فغرف الأرشيف في أقباء المؤسسات الإعلامية أو البحثية لن تسهم في أي قيمة معرفية للمواد التي تحتويها نظرًا لصعوبة النفاذ اليها ومركزية جمع وتحليل ملفاتها.
الكثير من الأعمال الأرشيفية الرقمية جاءت ردًا على احتكار مؤسسات الدولة الرسمية للذاكرة العامة، كما يذكرنا دليل عشر نظريات في الأرشيف الرقمي. حررت العديد من هذه الأرشيفات الرقمية الملفات المغبرة من القبو وفتحت باب النفاذ اليها، وبعضها غيّر مفهوم الأرشيف وآلية جمعه، فأخرجه من حصره بما لدى المؤسسات من ملفات إلى جعل المادة المؤسساتية جزءًا صغيرًا من مشروع سردي أكبر يشمل ما لدينا من تجارب شخصية وملفات كأفراد ومجموعات.
بطبيعة الحال، الإتاحة الرقمية للأرشيف لا تعني إمكانية استخدامها أو النفاذ التلقائي لها. ففي بعض هذه المشاريع لا يزال المستخدم غير قادر على تحميل الملفات أو مشاركة ما لديه منها. ومنها مشاريع أرشيفية متاحة، لكنها خاملة، لمركزية طريقة جمعها وافتقارها إلى مجتمعات حولها تحييها.
سنستعرض هنا مجموعة مختارة من سبعة مشاريع أرشيفية رقمية مهمة، التي حملت الرواية التاريخية للمنطقة العربية عبر ملفات لصحف وأغاني وملصقات وخرائط تاريخية، ورسائل دبلوماسية.
لم يعد الأرشيف مادة تاريخية، فقد يكون المشروع الأرشيفي آنيًا، تدخل فيه المادة لحظة إنشائها. مؤسسة «الأرشيف» هي مكتبة غير ربحية تقوم بأرشفة المعلومات التي نخلقها للعامة على الإنترنت واسترجاع تاريخ شكل المواقع والصفحات الالكترونية. بدأت المؤسسة بتسجيل شكل صفحات المواقع وإتاحتها للعامة بطريقة دورية منذ ١٩٩٤، من خلال أداة WayBack Machine.
فمثلاً، ما بين ٢ أيار ١٩٩٨ و ١٨ نيسان ٢٠١٥، سجل الموقع ٤,٩١٠ صورة لصفحة جريدة الأهرام الرئيسية، منها اليوم السابق لتنحي الرئيس مبارك في ٢٠١١. كما تستطيع الرجوع بالزمن والاطلاع على شكل صفحة موقع الجزيرة عندما تعرض للاختراق من قبل قوات موالية لنظام الأسد في أيلول ٢٠١٢.
بالإضافة الى أرشيف الانترنت، يطرح الموقع أرشيفًا للكتب والملفات صوتية والفيديو والبرمجيات ويتيح المجال لمشاركة أي مستخدم ملفاته الأرشيفية. إذ يتعاون مع المكتبات الجامعية في العالم إتاحة أكثر من ٦ ملايين كتاب مصنف ضمن المشاع العام بنسخة رقمية يصنفها حسب الموضوعات أو اللغة. يمكنكم إيجاد أكثر من ٦٠,٠٠٠ كتابًا بالعربية منها مقدمة ابن خلدون.
يتيح الموقع أيضًا ملفات أرشيفية صوتية ومرئية مثل دعايات تلفزيونية من الستينيات، وبرامج الألعاب الالكترونية في زمن الـ MS-DOS.
كما يلبي الأرشيف احتياجات المستخدمين المختلفة للنفاذ الى الملفات، فيوفر خدمات تتوائم مع احتياجات المكفوفين والاحتياجات القرائية المختلفة.
٢. آر-شيف
لا تحتاج أن تكون المادة عملًا متكاملًا كمقال أو كتاب أو فيلم قصير حتى يتم ترشيحها كمادة أرشيفية تسهم في رواية أو فهم تاريخ معين. فقد يكون ما تم إنتاجه وتناقله من الانطباعات والرسائل على مواقع التواصل الاجتماعي يروي قصة التحركات المجتمعية والسياسية وعلاقة المجموعات الناشطة بالأدوات الرقمية للتجمع وإنتاج نوع جديد من المعرفة.
نشأ موقع آر-شيف بعد أن قررت ليلى شيرين صقر في ٢٠١١ أرشفة تغريدات تويتر لدراسة جزء من التغيرات السياسية التي كانت تحدث في المنطقة آنذاك، خصوصًا خلال الـ١٨ يوم التي سبقت تنحي الرئيس مبارك. باستخدام خوارزميات وأدوات ذكية، يحلل الموقع ما يجري من نقاشات على تويتر، وفيسبوك ويوتيوب وانستغرام.
آرشيف من أوائل المواقع التي توفر أدوات تحليلية (مثل أداة البحث قلعة) لهاشتاغات عربية على تويتر. بحسب صقر، فإن محدودية المساحة التخريينية على الخادم تجعل الموقع قادرًا على جمع ما تم بثه في آخر ٣٠ يوم فقط، وهناك خطط لجعلها أكثر استدامة.
فمثلًا، قام الموقع بتكوين سرد بصري من تحليل ما تم تناقله على المواقع الاجتماعية ردًا على قتل إسرائيل لأربعة أطفال كانوا يلعبون على شاطئ غزة بقصفه يوم ٢٦ يوليو ٢٠١٤.
بالإضافة الى أدوات البحث والتحليل البصري الذي يطرحها، ينتج الموقع تقارير تحليلية لأكثر الهاشتاغات المستخدمة على تويتر على مدار كل شهر فيما يخص المنطقة العربية. ففي شهر آذار ٢٠١٥ كانت أكثر الهاشتاغات استخدامًا تدور حول عاصفة الحزم التي شنتها السعودية على اليمن.
منذ ١٤ تشرين الثاني ٢٠١٤ طرح الموقع قاعدة بياناته وأدواته للباحثين لمدة عام بصورة مجانية ومفتوحة بدون قيود.
يطرح هذا الأرشيف قرابة الـ١١,٠٠٠ ملصق تاريخي عن فلسطين بدأ الباحث دان ولش بجمعها منذ السبعينيات، ونشرها رقميًا كجزء من رسالته الماجستير في ٢٠٠٩ من جامعة جورجتاون.
تعود بعض الملصقات إلى عام ١٨٠٠، ويتضمن الأرشيف أي ملصق يحتوي كلمة فلسطين، أو انتج من قبل فنانين فلسطينيين أو مؤسسات فلسطينية، أو نُشر في فلسطين التاريخية، أو أنتج من قبل مصادر صهيونية أو معادية للصهيونية بعد عام ١٨٩٧. يهدف المشروع لتوظيف الملصقات في مناهج المدارس الثانوية الأمريكية لرواية تاريخ الصراع العربي الصهيوني في المنطقة. وقد تم ترشيح مجموعة من هذه الملصقات لجائزة سجل ذاكرة العالم التابعة لمنظمة اليونسكو. هنا تستطيع مثلًا الاطلاع على الملصقات التي صدرت من المنظمة الصهيونية العالمية أو الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية ومنها الملصق من أدناه (يسارًا) عام ١٩٧٨.
يوفر الأرشيف الترجمة الإنجليزية للملصقات، ويربط الملصق بالفنان الذي صممه والمنظمة التي أطلقتها والمجموعات التي أدرجت بها. بإمكانك تحميل هذه الصور والبحث فيها حسب مصدرها أو تاريخها أو موضوعها.
يشتمل موقع المكتبة، بحسب تعريفها، على «مواد أرشيفية متعلّقة بالثقافة والتاريخ الحديث في الخليج والمناطق المحيطة، ويتيح هذه الموارد لأول مرة على الإنترنت». حمل الموقع ما مجموعه نصف مليون صورة في أواخر عام ٢٠١٤، معظمها أوراق وكتب سياسية خاصة، ومراسلات المفوضية البريطانية في بوشهر وعدن والكويت والبحرين ومسقط.
تستطيع مثلًا البحث في برقيات المفاوضات التي كانت تُتبادل خلال حرب السعودية على اليمن عام ١٩٣٤ بين الملك فيصل وإمام اليمن يحيى حميد الدين، في مجلد مسائل متنوعة خاصة بالحجاز ونجد، أو الأمر الملكي الذي نشر في صحيفة أم القرى بتحويل مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها إلى المملكة العربية السعودية في ١٩٣٢.
5. «المكتبة الوطنية الإسرائيلية»
تذكر صحيفة هآرتس الإسرائيلية أنه بالإضافة إلى المجموعات النادرة من المراجع والمخطوطات والمصاحف الإسلامية في هذه المكتبة الإسرائيلية، أن هناك ٣٠،٠٠٠ كتابًا ومخطوطة استولت سلطات الاحتلال عليها من المكتبات الفلسطينية في القدس.
من المثير للاهتمام أن الأرشيف الإلكتروني لهذه المكتبة يطرح ملصقات لما تسميه «المجتمع العربي في عهد الانتداب البريطاني» ولكن لا يسمح بتنزيله. وعند بحثك عن كلمة «فلسطين» في بوابة البحث «رحاب»، تجد في النتائج خرائط عالية الجودة لفلسطين والأردن تابعة لدائرة الأراضي والإحصاء للانتداب البريطاني بين عامي ١٩٢٨- ١٩٤٧، وتشمل قرى مثل المعلول والمجيدل التي طمست معالمها عام ١٩٤٨. الكثير من أقسام المكتبة للكتب والمخطوطات الممسوحة ضوئيًا لا تتوفر إلا باللغة العبرية على الرغم من أنه الموقع يوفر إمكانية التصفح بالعربية. أيضًا تحجب المكتبة موقعها عن الزائرين المتصفحين من فلسطين، حسب شهادات عدد منهم.
مشاريع أرشيف مجهضة
خلال كتابة هذا المقال، تغيرت سياسة طرح الملفات في بعض المواقع الأرشيفية لتحد من قدرته المستخدمين على الوصول إليها أو أغلقت تمامًا أمامهم. نعتقد أنه ما زال من الجدير ذكرها كأمثلة لمشاريع أرشيفية كان يمكن أن تخلق فرص لإعادة قراءة التاريخ وفهم الواقع.
٥. أرشيف الصحف والمجلات، الجامعة الأردنية
طرحت الجامعة الأردنية في أول هذا العام أرشيفها الضخم لأهم الصحف والمجلات التي طبعت في المنطقة بدأ من صحيفة الاتحاد العثماني في الدولة العثمانية منذ عام 1908. لم تستمر خطوة إتاحة النسخ الكاملة لما يقارب الـ ٢٠٠،٠٠٠ عدد من أرشيف صحف مثل الأهرام والدفاع وعكاظ والرأي والدستور والنهار والحياة ومعاريف والنيويورك تايمز والفاينانشال تايمز. فبعد طرح النسخ الرقمية الكاملة لكل صحيفة، قلصت الجامعة الإتاحة إلى الصفحة الأولى فقط من أي نسخة، أما من يرغب بالنفاذ إلى النسخ الكاملة، فعليه زيارة قسم الأرشيف في مكتبة الجامعة، كما يعطل الأرشيف خاصية تحميل الملفات. احتضان المادة المنشورة والسيطرة على استخداميتها انعكس في السياسة المنشورة على موقع الجامعة حتى في فترة طرحها لكامل النسخ:
إن المادة المعروضة على موقع الجامعة الأردنية هي لغايات التعليم والبحث العلمي ولا يجوز طبعها و/أو تحميلها و/أو استنساخها بأي شكل من الأشكال سواء أكان هذا الإستنساخ مؤقتاً و/أو دائمًا إلا بموافقة أصحاب الحقوق عليها خطيًا تحت طائلة المسؤولية القانونية بحسب القوانين المرعية بالمملكة الأردنية الهاشمية.
في تاريخ كتابة هذا المقال، كان هناك بعض التذبذب في إتاحة نسخ الصحف، وقد يعود ذلك الى عدم توفرها أو حال الموقع التجريبي. فمثلًا، يفتقد أرشيف جريدة الرأي إلى أي نسخة من عام ١٩٧٠، الذي تميز بأحداث أيلول الأسود، أما أرشيف جريدة الدستور، فيحتوي نسخًا قليلة جدًا لشهر أيلول من نفس العام. كما أن أرشيف الجريدتين يخلو من أي نسخ بين نيسان وآب من عام 1989، وهي الفترة التي وقعت فيها الاحتجاجات المعروفة بـ«هبة نيسان» اعتراضًا على رفع أسعار بعض السلع. لكنك تستطيع مثلًا مراجعة بيان وزارة الداخلية الأردنية في جريدة الرأي حول أحداث جامعة اليرموك في شهر أيار 1986 التي استشهد خلالها ثلاثة طلاب واعتقل آلاف آخرون.
كما كنت تستطيع مثلًا أيضًا أن ترى جميع الشركات المصرية التي أعلنت دعمها لاستفتاء اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا في أيلول 1971 في نسخة جريدة الأهرام يوم الثاني من أيلول.
٦. ارتجال
أغلقت مجموعة جرامافون موقع ارتجال منذ الأول من أيار ٢٠١٥ ولم يعد كامل أرشيفها متوفرًا على الإنترنت، كخطوة احترازية خوفًا من التهديد الذي يمكن أن تتعرض له «الراديوهات الأهلية» بعد صدور مسودة قانون «الهيئة الوطنية للإعلام» حسب مؤسس الموقع، أحمد كمال.
لكن قبل إن يتم إنهاء الموقع، كنت تستطيع بناء قائمة الموسيقى العربية الخاصة بك التي قد ترجع إلى 1908، فتجمع بين أغنية سوسو حنتوسو للثنائي حسين ونعمات المليجي من الأربعينيات، ويا مسعد الصبحية لأحمد إدريس (من أوائل مطربي عصر النهضة في مصر)، أو أغنية منيرة المهدية «إشمعنى يا نخ الكوكايين كخ» من رواية رن عام ١٩٢٠ التي لحنها سيد درويش بمقام نهوند.
موقع ارتجال جمع ما بين المشغل الموسيقي والراديو المجتمعي وقاعدة بيانات للتراث الموسيقي العربي ما بين عام ١٩٠٨ إلى ١٩٨٠. قادت المشروع مجموعة جرامافون التي أمضت أعوام على جمع قاعدة الموسيقى هذه المكونة من 241,050 تسجيلًا لـ1,391 فنانًا. وكان الموقع قائمًا على فكرة قوائم الموسيقى المجتمعية التي يتم ترفيعها حسب «إعجاب» مستخدمي الموقع الآخرين بها.
سمح الأرشيف أيضًا للمستخدمين بتحميل النسخ الأرشيفية الخاصة بهم لبناء تشاركي لهذه القاعدة. لم تُصنف المواد حسب سنة الإنتاج، ولكن أعطيت نبذة عن كل فنان شمله في هذه القاعدة. لم تستطع تنزيل الأغاني كمستخدم أو مشاركتها على مواقع غير فيسبوك أو تويتر، ولكن كان يمكنك من تحميل ما لديك من ملفات الأغان القديمة للمشاركة بالمجموعة.
