الموسيقى الصوفية بين التقليدية والتجريب

السبت 20 حزيران 2015

قديمًا، عُرف عن الغناء الصوفي أنه انسحابٌ من العالم المادي إلى حيز الزوايا والخوانق الصوفية، للتقرّب من الوجود الإلهي كما يراه المتصوفون، باحثين عن «الحب المطلق» و«الحب النهائي اللامتناهي» و«الحب الإلهي»؛ ومناجاة الله دون وسيط.

لكن الغناء الصوفي تطوّر مع مرور الوقت، فصارت هناك حلقات إنشاد وذكر، واشتهرت الحضرات الصوفيه في الدول الإسلامية، وصار لكل طريقة صوفية مُريدوها وأشعارها وأورادها الخاصة، وأسلوبها في الغناء والرقص.

ولعل واحدةٌ من أشهر الطرق الصوفيّة هي المولوية التي أسسها الشيخ الأفغاني جلال الدين الرومي (207 هـ- 1272 هـ). حيث عاش وحكم مدينة قونية التركية، ونظم فيها معظم الأشعار التي تُنشد حتى اليوم في حلقات الذكر المولوية.

لكن الطريقة المولوية ليست الأولى ولا الوحيدة،  إذ في العام 430هـ وضع الصوفي الإيراني أبو سعيد محمد أحمد الميهي أول هيكل تنظيمي للطرق الصوفية بجعله متسلسلًا عن طريق الوراثة. ففي كتابه «الموسوعة الصوفية» يرى الباحث المصري عبد المنعم الحفني أن عبد القادر الجيلاني، صاحب الطريقة القادرية (471ـ 561هـ)، هو أول من نادى بالطرق الصوفية وأسسها وكانت الرفاعية هي ثاني طريقة، وتلت هذه الطريقة المولوية المنسوبة إلى الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي، وتنتشر في العالم اليوم مئات الطرق، إضافة إلى طرق كثيرة اندثرت، وقد أحصى الحفني أسماء 300 طريقة صوفية في عدد بسيط من الدول الإسلامية، ناهيك عن الدول الأخرى .

وعلى الرغم من أن الغناء الصوفي ما يزال منتشرًا حتى يومنا هذا، إلا أنه ينقسم إلى قسمين، القسم الأول الإنشاد الذي ما زال يحافظ على طريقته الأولى، والذي ينتشر في حلقات الذكر والحضرات الصوفية، ومن بين أشهر الحضرات الصوفية ما يُقام في السودان والمغرب وتركيا. أما القسم الثاني فهو ما تم تطويره والتجديد عليه، والذي تنوع في طريقة التجديد. فمنه ما حافظ على روح الغناء الصوفي والآلات الموسيقية المستخدمة فيه مع التطوير على الألحان والإيقاعات وإخراجها من حيزها إلى المسارح، ومنها ما استخدم الأشعار الصوفية دون أن يقدم ألحانا روحانيةً تنبثق من طابع الغناء الصوفي.

في هذه القائمة الموسيقية نستعرض عددًا من الطرق والأغاني الصوفية، سواء التقليدية منها أم المجددة.

الشيخ سيد محمد النقشبندي (1920- 1976)
يُلقب النقشبندي بـ «أستاذ المداحين»، والده،  محمد النقشبندي شيخ الطريقة النقشبندية، ومنذ صغره كان يجلس«سيد» في حلقات ذكر والده ويُنشد أناشيدهم، حتى أصبح المنشد الرئيس، وسجّل أعماله في الإذاعة المصرية. ويمتلك النقشبندي صوتًا جهورًا وقويًا، فكان في حفلاته يغني دون الحاجة لمايكرفون. غني النقشبندي لكبار الملحنين، منهم بليغ حمدي وسيد مكاوي ومحمد الموجي، وغيرهم. ومن أغانيه، قصيدة ابن الفارض «قلْبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي» والتي يغنيها النقشبندي بمصاحبة آلة القانون، وهي من المرات القليلة التي يغني فيها بمصاحبة هذه الآلة، حيث تمتد القصيدة كابتهال طويل، يناجي فيه صوته صوت القانون، إلا أنه يعتمد على التقاسيم في غناءه مبتعدًا عن التقليدي في الإنشاد.

الشيخ أحمد التوني (وفاته 2014)
واحدٌ من أشهر المداحين في مصر، ولا يبدو أن التوني يتبع طريقة بعينها في الغناء، لكنه يركز على الكلمات فضلًا عن الألحان، حيث ينشد بشكل عفوي وارتجالي. في أغنيته «إني مشوقٌ للأحبة»، نستمع بوضوح للارتجال في الغناء، أما الموسيقى فتبدو وكأنها مجرد خلفية ترافقه وتملأ فراغ الصمت، ويكتفي التوني بالرق والناي والكمان، ليخلق في أغنيته دائرةً مغلقة يظلّ المستمع يتأرجح فيها ويدور بنفس الإيقاع، ولكن دون أن يشعر بالملل.

الشيخ ياسين التهامي (1949)
هو أحد أشهر تلامذة التوني، ويتبع الأسلوب نفسه في الإنشاد، معتمدًا على الكلمة دون التركيز على اللحن، ويُعد أيضًا الناي والطار والدفوف أبرز الآلات الموسيقية التي يعتمد عليها التهامي. في جديده طوّر التهامي على أعماله، فأدخل المزيد من الآلات الموسيقية، وبات اللحن عنصرًا أساسيًا في الأغنية، إلا أنه لم يقدم ألحانًا مختلفة أو ذات طابع إبداعي، بل ظل مواظبًا على نفس الإيقاع الإنشادي ذاته. في هذه الأغنية يغني التهامي من قصائد الحلاج «والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت».

الشيخ زين محمود (1986)
اشتهر الشيخ الشاب زين محمود من خلال أغنية «يبكي ويضحك»، حيث وصفه كثيرون بأنه الوحيد الذي استطاع التفوق على فيروز بتقديم إحدى أعمالها بصورة أجمل مما قدمته. يمتلك محمود صوتًا مميزًا، وهو قادرٌ على الارتجال، والغناء بمساحات وطبقات صوتية عالية، دون أن يُصاب صوته بالإرهاق.  يُقيم محمود في فرنسا، حيث أسس فرقة Zaman Fabriq التي قدمت نمطًا موسيقيًا يجمع بين المديح والغناء الصوفي باستخدام آلات شرقية. محمود واحدٌ من المنشدين المصريين الذين قدموا «السيرة الهلالية»، سيرة أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة، إلا أنه ودون شك يُعد من أفضل من قدمها.

فرقة ابن عربي
تقدم فرقة ابن عربي للسماع الصوفي، القادمة من مدينة طنجة في شمال المغرب، قصائد محي الدين ابن عربي الذي يُعد أحد أبرز شيوخ التصوف في العالم الإسلامي، ومؤسس الطريقة الأكبرية في الصوفية. تقدم الفرقة قصائد العشق والحب الإلهي بأسلوب معاصرٍ، يجمع بين اللحن والكلمة والروح، وتنشد بأسلوب روحاني مميز يرافقها إيقاع الطار. في أغنيتهم «هو الحُبّ فاسلم بالحشا» تستهل الفرقة الغناء لثوانٍ معدودة دون موسيقى قبل أن يدخل القانون، فيمتد الغناء على صوت القانون بجملٍ موسيقية بطيئة وطويلة، ويرافقهم فيما بعد إيقاع الطار لُيضفي أجواءً صوفيةً على الغناء.

فرقة الكندي
تعتمد الفرقة على الغناء الجماعي، وتضم عددًا من أبرز المنشدين العرب، من بينهم: صبري مدلل، وحمزة شكور، وحسين الأعظمي، وعمر سرميني وغيرهم. وتمزج الفرقة بين الإنشاد الصوفي والموسيقى الأندلسية والترانيم، مقدمة أغاني بمزيج من اللغة العربية و، وتعتمد على زخم التخت الشرقي في ألحانها، فتستخدم العود والناي والدف والجوزة والبزق، ومؤسس الفرقة هو الفرنسي جوليان فايس. في هذه الأغنية «دائرة النشوة» نستمع بوضوح للمزج بين الإنشاد الصوفي وترانيم الكنيسة اليونانية، فيما الاستهلال الموسيقي كان أندلسيًا بامتياز.

يعد المنشدون السابق ذكرهم من بين المحافظين على الطرق الصوفية في الغناء، وحتى المجددون منهم حافظوا على على القالب الأساسي للغناء الصوفي، لكن هناك عددٌ من الفنانين الذين جددوا على الغناء الصوفي بإدخال الموسيقى الاكترونية إليه ومن خلال المزج والتجريب.
من بين هؤلاء الفنانين التونسي ظافر يوسف، الذي قدّم العديد من الأعمال الصوفية من بينها ألبوم «إلكتريك صوفي» و«نبوءة رقمية» كما غنى من قصادئد الحلاج. في أغنيته «اقتلوني يا ثقاتي» للحلاج لا يدخل مساحة التجريب باللحن وحسب، وإنما في طريقة الأداء. يمزج بين الموسيقى الألكترونية وصوت العود، فيما نستمع لتنويعات إيقاعية مميزة تأخذ الموسيقى لفضاء أكثر اتساعًا من فضاء الإنشاد الصوفي التقليدي. لا يتوانى يوسف عن الارتفاع بطبقات صوته لتصل حدها نحو جوابٍ حاد مدروس، ثم يعود تعود إلى قرارٍ رخيم وممتد.

منير طرودي
هو أيضًا من بين المجددين في الغناء الصوفي، يستخدم الطرودي الثيمة اللحنية المغاربية في أغانيه، فنجد خليطًا مميزًا بين اللحن الصوفي والفرانكفوني والمغاربي التونسي، ويغني الطرودي بالعربية الفصحى وباللهجة التونسية الدارجة، ومن أشهر أغانيه «يا نسيم الورد» للحلاج. أما في أغنيته هذه «راكب عالحمرا»، فيغني فيها باللهجة التونسية، ونستمع للمزج بين الألحان المحلية وإيقاعات الإنشاد الصوفي.

الصورة من موقع merapoetics.com 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية