افتتاحية
لم يكن أشدنا تشاؤمًا ليتوقع أن نستفيق اليوم على خبر جريمة اغتيال الكاتب ناهض حتّر بإطلاق النار عليه أمام قصر العدل؛ بيت القانون ومخزن «هيبة الدولة» الهشّة.
هذه الجريمة جاءت بعد أسابيع من التحريض والتهديد على الكاتب منذ أن شارك على صفحته على الفيسبوك كاريكاتير بعنوان «رب الدواعش»، زُعمت «إساءته للذات الإلهية» بسبب تصويره رؤيةَ أنصار داعش لله، ليتم توقيفه بإيعاز من رئيس الحكومة هاني الملقي، ويبدأ التحقيق معه في الثالث عشر من آب الماضي، ثم يفرج عنه بكفالة بعد أكثر من شهر على اعتقاله.
اليوم، إن كانت الدماء قد لطخت يدي القاتل الذي أطلق على ناهض حتّر أربع رصاصات، فأيدي الدولة والمحرضين ليست نظيفة منها.
منذ اعتقال حتّر حاولت الدولة «إرضاء الجميع» مصدّرة خطابين متناقضين؛ خطاب وجّهته لمجموعات معينة ولمنظمات دولية في دوائر ضيقة، يقول إن اعتقال حتر كان «لحماية حياته»، بحسب الناطق باسم الحكومة محمد المومني ووزير الشؤون السياسية والبرلمانية، موسى المعايطة، وخطاب آخر عام أدان حتّر شعبيًا قبل محاكمته، ومنح اتهامه بالإساءة للذات الإلهية صفةً شرعية، حين تدخّل الملقي نفسه ليوعز بـ«التحقق بما نُسب إلى الكاتب ناهض حتر (..) وتحويله للحاكم الإداري»، مشددًا في حينه على أن «القوانين ستطبق بحزم على كل من يقوم بمثل هذه الممارسات الطارئة على مجتمعنا، علمًا بأن حرية التعبير مصانة للجميع لكن ضمن المحددات الدستورية والقانونية».
في ظل ذلك، لا يمكن إلا التعجّب أمام تعليق الحكومة على الجريمة اليوم، على لسان المومني، الذي أكد أنّ «القانون سيطبّق بحزم على من قام بهذا العمل الآثم، وعلى كلّ من يستغلّ هذه الجريمة لبثّ خطاب الكراهية الطارئ على مجتمعنا».
خطاب الكراهية هذا لم «يطرأ» على مجتمعنا اليوم، بل كان حاضرًا منذ أن تحرّكت القضية ضد حتّر وقبلها؛ منذ أن بدأ التحريض على الكاتب المغدور في وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، لتُنشر تهديدات بقتله وتصل إليه، دون أن يكون ذلك سببًا في «الإيعاز بالتحقق» أو تحريك أي قضية تجاه المحرضين. إن كان القاتل واحدًا فالمصفقون للقتل كُثر، حملوا آراءهم علانيةً أمام الدولة وأجهزتها التي آثرت التزلف لهم للحفاظ على شعبية زائفة على حساب سلامة مواطِنها.
لطالما استُخدمت تهم إثارة النعرات الطائفية والإقليمية وتقويض نظام الحكم ضد مواطنين طالبوا بتغييرات سياسية أو عبروا عن مواقف وآراء شخصية لم تطَل بأي حال حياة أو سلامة غيرهم. لكن في المقابل، كانت دعاوى القتل والإيذاء تمر تحت أعين أجهزة الدولة.
لو لم تكن الحكومة هي ذاتها من حرّك محاكمة حتر لاستطعنا وصف دورها بالإهمال أو التساهل. لكن حين تكون شعبيتها ورضا البعض عنها أهم من حماية حياة أحد مواطنيها، فمسؤوليتها عن الجريمة أكبر من ذلك، وهو ما عبرت عنه عائلة حتر نفسها، حين أكدت أنها أبلغت «الأجهزة الرسمية حول تلقيه تهديدات بالقتل، وإن وزير الداخلية سلامة حماد على علم بذلك وتعهد بإجراءات لحمايته».
إن كانت الدولة قد استشعرت فعلًا الخطر على حياة حتر لدرجة توقيفه شهرًا، ألم يكن من الممكن توفير الحماية له أمام قصر العدل وهو في طريقه إلى جلسة محاكمته المعلنة، التي تمنى كثيرون له فيها الإعدام؟
من جهة أخرى، فرفض القتل العشوائي ومنطق الغاب والتأكيد على سيادة القانون ليس كافيًا دون الوقوف مع حرية الرأي والتعبير أولًا. فمحاكمة حتّر بتهمة إثارة النعرات المذهبية والعنصرية بموجب قانون العقوبات (وهي تهمة تصل عقوبتها إلى الحبس ثلاث سنوات) لم تكن على الإطلاق بديلًا لائقًا عن هذه الجريمة، بل ساهمت في تعزيز خطاب الكراهية بتعميم رسالة مفادها أن لا مجال للاختلاف في الرأي دون عقاب. وخطاب «أعدموه بالقانون، ولا تقتلوه في الشارع» الذي يلقي باللوم على الضحية يكرّس الأسس ذاتها التي تنبع الجريمة منها.
لعلّ هذه الجريمة الصادمة تذكرنا وتذكر الدولة بأن ليس كل الكلام تمحوه الريح، وأن الفتنة لا تُردع بقرارات حظر النشر والتصريحات المؤكدة دومًا وأبدًا على صلابة «الأمن والأمان». الأمان الذي ننشده لا يتحقق بالتأكيد على التسامح وطيب الأخلاق فحسب، بل -ضمن عناصر عدة- بتكريس المساواة أمام القانون ناظمةً لعلاقات الأردنيين والأردنيات ببعض، وتمكينهم من إبداء آرائهم السياسية والفكرية والشخصية دون خوف.
الرحمة لروح ناهض حتّر، والعزاء لعائلته.