حوار مع ميسون سكرية

الأدب في زمن الإبادة: «لعبة العودة» إلى فلسطين

الأربعاء 16 تشرين الأول 2024
لوحة غلاف كتاب «العودة تبدأ منك» للفنان حلمي التوني.

كيف يمكن أن يحكي الناشئة عن العودة إلى فلسطين الآن وهذا الدمار الذي تُحدثه «إسرائيل» لكلّ شبر في فلسطين يَحدث أمام أعينهم على الشاشات؟ بل كيف يمكن لناشئة في مخيّم، بلبنان مثلًا، أن يتخيّلوا عودة ما إلى أرض أجدادهم التي هُجّروا منها عام 1948؟ يبدو أنّ ذلك، وفي ظلّ الإبادة الجماعيّة التي تشنّها «إسرائيل»، ضربًا من المحال. لكن، يمكن للأدب أن يصنع ذلك. فالأدب كان على الدوام الوسيلة لثقب جدار المستحيل كي يمرّ النور، وهو المساحة الحقيقيّة للمخيال في أن يفكّر في المستحيل ويجعله ممكنًا. والراديكاليّة الحقّة هي أن تجعل هذا المستحيل ممكنًا، لا أن تجعل اليأس مقنعًا.

وفي هذا الوقت الحَرِج، تأتي قصّة «العودة تبدأ منك» من تأليف ميسون سكّريّة، أستاذة الأنثروبولوجيا في كلية كينغز في لندن، مصحوبة برسوم فتّانة من الفنّان الذي غادر عالمنا قبل أيام حلمي التوني

تحكي القصّة عن طفلين، رملة وعائد، من مخيّم شاتيلا يتساءلان فيها عن معنى المخيّم والعودة إلى فلسطين ومعنى حياتهما المؤجّل والمعلّق باعتبارهما من اللاجئين. ترسُم القصّة أفقًا جميلًا يتحاور فيه الطفلان بطلاقة طفل أدرك العذاب والمخيّم والتهجير حول تخيّلهما للعودة.

للانتقال من أسئلة القصة إلى أسئلة أكبر وأعمّ تتعلّق بفكرة «العودة» نفسها، وما تحمله الآن من راهنيّة في ظلّ الإبادة الجماعيّة على غزّة، أجريتُ هذا الحوار مع سكرية، الذي ذهب بنا إلى مناطق ربّما لم تكن من صلب القصّة، لكنّها نشأت من أفقها وقلبها. هذا حوار عن تاريخ من الحرب، وأيضًا عن تخيّل مستقبل أكثر تحرّرًا يرسمه الفلسطينيّون عن بلدهم، وماذا يريدون أن تكون عليه.

كريم محمد: يطرح كتابك «العودة تبدأ منك» المصنَّف كأدب للناشئة أفكارًا مثيرة ومهمة حول مواضيع كثيرة، مثل معنى اللجوء، والمساعدات، وفكرة العودة إلى فلسطين، والعديد من الأفكار الأخرى التي يجدُ القارئ فيها نفسه. دعيني أسألك ما الذي تعنيه «العودة» اليوم في ظلّ هذه الإبادة الممنهجة من قبل الاحتلال لفلسطين عامّة، ولقطاع غزّة بالتحديد؟ وكيف يمكن إثراء المخيال لدى أجيال جديدة وُلدت على هذا الدمار بفكرة عن «عودة» ما إلى فلسطين؟ 

ميسون سكرية: هذا سؤال مهم. فكيف يمكننا أن نحكي عن «العودة» في زمن الإبادة؟ لكنني، مع ذلك، أقول إن الآن هو الوقت الذي يجب أن نتكلم فيه عن حق العودة. لأن حرب غزة هي، بشكل ما، حربٌ لاستكمال النكبة، أو هي بالأحرى نكبة ثانية. ونكبة ثانية تعني خلق جيل ثان من اللاجئين ولذلك، فالآن أكثر من أي وقت علينا أن نحكي عن حق العودة. تحديدًا أن الجيل الجديد قد اختبر كافة أنواع العنف والإبادة التي تمارسها «إسرائيل» علينا جميعًا، ولذلك هذا الجيل مسيس بطبيعته. 

بعد مضي زمن طويل من انمحاء القضية الفلسطينية، أدى العنف الذي تمارسه «إسرائيل» وهذه الإبادة إلى إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة والصدارة مرة أخرى. إن عنف «إسرائيل» قد سيّس جيلًا جديدًا، وجعله يكره «إسرائيل» أكثر فأكثر. ابنة أختي البالغة من العمر خمس سنوات فقط، تقول «بدي أروح على فلسطين لأقتل الإسرائيليين». 

لدينا اليوم جيل تسيّس إلى هذا الحد. فلهذا من الجيد أن نبدأ نقاشا جماعيًا حول كيفية تخيل العودة، وكيف لهذه العودة أن تكون. ولذلك هناك شق آخر متمثل في أن «العودة تبدأ منك»، بحيث نشرع في العمل على ذواتنا، ونرى كيف يمكن أن نرجع، ونحاول أن نقرأ بصورة نقدية ما وقع وحدث بهذه السبعين عامًا؛ بحيث تظهر هناك «مقاومة» كل عشرين عامًا ويحدث عنف كبير لكن لا نصل إلى ما نريد. لعل هذا مثلًا راجع إلى أن كل فريق يصنع المقاومة بمعزل عن الآخرين، ولعل هذا أيضًا يفتح علينا تساؤلًا حول كيف نعمل معًا، وكيف لنا أن نخلق «وحدة وطنية» حتى تستطيع الوقوف بوجه «إسرائيل». لكن هذه «الوحدة الوطنية» أيضًا تُخلق بخلق مخيال جماعي لدى الفلسطينيين حول كيفية العودة وما هي فلسطين التي يريدونها. ولهذا، فلا بد لهذا الجيل الجديد أن يشعر بأن له يدًا في خلق هذا المخيال الجماعي، حتى يشعر بأنه هو من يملك هذا المخيال ولم يُفرض عليه من أحد. 

لهذا كله، لدينا اليوم الكثير من المهام التي علينا الاضطلاع بها. وبالتالي يكون التفكير بحق العودة أحد الأشياء التي لا بد أن نستعملها من أجل خلق تصور جديد لسؤال: كيف يمكن أن نرجع إلى فلسطين؟

إحدى رسومات الفنان حلمي التوني لكتاب «العودة تبدأ منك»

تطرح فكرة «العودة» تصورًا ضمنيًا بأنّ حاملها يعيش خارج فلسطين، بينما نحن اليوم نرى أنّ هناك أجيالا وُلدت مع الإبادة، في الداخل، لذلك يمكن حتى لفكرة العودة أن تكون لمن يحيا في الداخل؛ عودة إلى أرض محرّرة من الاستعمار الصهيونيّ. ما رأيك بهذا التوتّر بين «الداخل» و«الخارج» في فكرة العودة نفسها اليوم؟

يعملُ الاحتلال بالتأكيد على جغرافيا تقسيميّة. فهناك داخلٌ وخارجٌ، والداخل فيه غزّة والضّفة وفي الضفّة هناك المناطق A وB وC. وبالتأكيد أنّ هذه التقسيمات خلقت لدى الفلسطينيين رؤى وحياة وتصورات مختلفة، لكن ظلّ هناك شيء جامع لهم ألا وهو حقّ تقرير المصير، وبناء دولة هم من يقرّرون كيف تكون. 

إنّ تقسيمة الداخل/الخارج موجودة من قبل النكبة التي نحياها الآن، ليس فقط في غزّة، بل أيضًا في الضفّة الغربيّة من خلال الاستيلاء على الأراضي وهجمات المستوطنين والتضييقات التي يمارسها الاحتلال على سكان الضفة. فيمكننا أن نتحدث عن تقسيم جديد، وتفرقة جديدة، يقوم بها الاحتلال الإسرائيليّ الآن للشعب الفلسطينيّ.

حقّ العودة ليس موقوفًا على مَن هم بالخارج، بل أيضًا لمن هُجِّروا في الـ48 وفي الـ67. فهؤلاء لهم كامل الحق في العودة إلى أراضيهم، وهم مَن لهم حق اختيار المكان الذي يفضّلون الإقامة به، سواء في غزّة أو في سواها. 

ومن هنا، تبرزُ أهميّة حق العودة كشيء جامع لبناء وحدة وطنيّة. ويمكن لحق العودة أن يكون مبدأً تُبنى عليه تصورات سياسيّة لوحدة وطنيّة. فـ«إسرائيل» تفرّق، وحلّ العودة يجمع كلّ الفلسطينيين الذين أشرتَ إليهم بأنّهم موجودون في الداخل والخارج، بصرف النّظر عن الانتماءات السياسيّة، أو أين يوجد الفلسطينيّون.

لذا من المهمّ أن نعمل على الجيل الجديد بشأن كيفيّة العودة وما تكون عليه فلسطين «بعد» الرجعة. فبدلًا من التركيز على الخلافات السياسيّة بين الفصائل الفلسطينيّة المختلفة، يمكننا أن نبدأ من هذه النقطة لنبني فكرًا تحرّريًا جديدًا يشتركُ الجميع فيه. وهو فكر تحرّريّ ينطلق من الناس كلّهم حتى يشعروا أنّهم جميعًا مَن يمتلكون هذا الفكر وهذا التصور. لهذا يجب أن نبدأ من الناس أنفسهم: كيف يفكرون في حق العودة؟ وكيف يتصورون رجوع فلسطين؟ وحينها سندرك الفروقات والاختلافات بين الفلسطينيين أنفسهم من أجل بناء تصور نابع من الناس ولأجلهم. 

لا أدري هل تتفقين معي أم لا، ولكن منذ فترة طويلة هناك قصور عربيّ في إنتاج أدب للناشئة يكون فعلًا بمثابة عمل قيّم أدبيًا. دائمًا كان هذا النوع من الأدب إمّا مغرقًا في الشعبويّة، أو مؤدلجًا في حالات أخرى. الناظرُ في قصّة «العودة تبدأ منك» يجد شيئًا مختلفًا: تمرين جيّد على أفكار مذهلة، يطرحها «عائد» و«رملة» في القصة عن اللجوء، والبيت، والخيمة. ومن ناحية أخرى، فإنّ هناك مغامرة في الكتابة للناشئة ناجمة عن الخوف من التبسيط المخل. كيف ترين تاريخ كتابة هذا النوع من الأدب الموجه للناشئة؟ وما الذي دفعك لأن تؤلّفي قصّة للناشئة الآن في زمن الحرب والكارثة؟ 

أريد أن أبدأ بفكرة قصّة «العودة تبدأ منك». بدأ هذا الكتاب موجّهًا للناشئة في مخيمات الشتات الفلسطينيّ، حيث ابتدأ الكتاب أسئلته من أسئلة الناشئة أنفسهم. فالفصل الأول بمثابة حوارات حقيقيّة بين الناشئة عن المخيم، وحياتهم المعلقة، ومجهولية المصير. كل هذه الحوارات كانت ناجمة عن حوارات بيني وبين شباب عملتُ معهم في المخيم. وانطلاقًا من هذا، فإن الكتاب صُنع معهم ولهم. كانت هذه هي البداية بالنسبة إلي. ثم طرأ لي سؤال كيف يمكن العمل على فكرة حق العودة؟ ونحن نعرف أن الأونروا لا تُعلّم تاريخ فلسطين، وما من شيء يعلمهم بشأن حق العودة، لدرجة أن بعضهم تفاجئ حين أخبرتهم أن هناك في الأمم المتحدة حقًا لهم بالعودة؛ ولذلك قررت أن أكتب هذا الكتاب.

ولكي تكتب عن حق العودة عليك أن تبدأ بالتاريخ، والذي لا يتعلمه الأطفال الفلسطينيون كما يجب، إذ إمّا أن يتعلموه ناقصًا، أو يسمعوا اتهامات لأجدادهم بالتخلي عن فلسطين. 

وجدت مدخلًا لأحكي الحكاية من خلال أنماط التطريز الفلسطيني التي تغيرت مع تعاقب الشعوب التي عاشت في فلسطين. وهو أمر كان مرهقًا، إذ ليس مدونًا في مدونة واحدة، بل متفرق ومبعثر. وكانت هذه مهمتي. ووجدت أن أنماط التطريز قد تغيرت مع الناس الذين عاشوا في فلسطين من كنعانيين ورومان ثم مع مجيء الإسلام… إلخ، وأوضحت بالقصة كيف كنّ الفلسطينيات يُبدعن مع كل حقبة نمطًا جديدًا، أو أنماطًا، من التطريز. 

ولذلك، قررت أن أروي لهم قصة فلسطين قبل النكبة. وأوصلت لهم سردية مختلفة عن التي أُشربوها بأن أجدادهم لم يتركوا أراضيهم، وإنما كانت هنالك مقاومة منهم للاحتلال، وأن من خرج قد أُجبر مع النكبة على الخروج. وأيضًا حاولت أن أسرد لهم التاريخ من خلال الأغاني الشعبية التي تُقال في كل حدث من المقاومة الفلسطينية. 

لماذا قررت أن أسرد لهم التاريخ من خلال التطريز والأغاني؟ قرّرت ذلك لأنّ التطريز موجود في المخيّم، فالنساء بالمخيم يعملن بالتطريز كوظيفة، فكل أطفال المخيم يُمثّل التطريز بالنسبة إليهم شيئًا ملموسًا، لكنّهم لا يعرفون التاريخ الكامن وراءه. فحاولتُ أن أسرد لهم التاريخ من خلال شيء يعرفونه. وينطبق الأمر نفسه على الأغاني، فأهاليهم من جيل الثورة الفلسطينيّة، وهناك في المخيمات تصدح الأغاني الفلسطينيّة دومًا. 

لكنّ الكتاب بمثابة طرح محاولة لهؤلاء الناشئة بأنّه كي نرجع إلى فلسطين، فلا بدّ أن نعمل على أنفسنا من خلال التساؤل عن كيف يمكن أن نحقق العودة؟ بحيث يغدو الأمر بمثابة انفتاح لمخيال الجيل الناشئ على التفكير بالعودة لكي نبدأ بالعمل الآن، من المخيم، دون تأجيل الحياة نفسها لحين العودة إلى فلسطين.

إحدى رسومات الفنان حلمي التوني لكتاب «العودة تبدأ منك»

أريد أن أنتقل لفكرة أكثر عموميّة متعلّقة بفكرة العودة نفسها. الفلسطينيّ دومًا يحلم بالعودة إلى بلده. ونجد أن فكرة العودة اليهوديّة قد تمّ سلبها تمامًا على يد «إسرائيل» لتجعل فلسطين هي أرض العودة بالنسبة إلى كلّ يهوديّ «صهيونيّ». أقصد أن فكرة العودة الإسرائيلية هي فكرة استعماريّة: إحلال بشر محلّ أصحاب المكان أنفسهم، بينما فكرة العودة الفلسطينيّة هي فكرة سياسيّة وتحرريّة بالأساس. هل يمكن أن أسمع رأيك في هذه الفكرة؟

هناك بالفعل تضارب بين حق الفلسطينيين في العودة إلى فلسطين، وحق العودة للاحتلال. حق العودة لدى الاحتلال مبني على خرافات عن حق «اليهود» في فلسطين. وأريد القول بأنّ فكرة حقّهم في فلسطين هي فكرة استعماريّة نشأت عندما قررت بريطانيا أن يكون هناك شرطيّ في الوطن العربيّ متمثلًا في «إسرائيل». ومن هنا، جاء اختراع فكرة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض التي عمل الاستعمار الأوروبيّ كثيرًا عليها حتى توطدت. 

وبما أنّ «إسرائيل» بالنهاية استعمرت فلسطين، فأصبحت هنالك فكرة متوهّمة بأنّ لليهود في كلّ العالم حقًا بالعودة للاستيطان في فلسطين ولاحتلال الأرض. ومنذ 1950، وضعت «إسرائيل» ما سمّته بـ«قانون العودة» (The law of return)؛ وهو القانون الذي وُضع للقول إنّ الفلسطينيين ليس لهم حق بالعودة. 

أن تخلق أرضًا للشعب اليهوديّ يعني أنّه ولا بدّ من محو كلّ شيء فلسطينيّ يُذكّرهم باحتلالهم وسرقتهم. ولذلك نشأت فكرة «التهويد»، وترحيل الفلسطينيين بالنكبة ثم في الـ67، وبأساليب مختلفة من تغيير لأسماء القرى وبناء المستوطنات، ومن خلال ما يحصل حاليًا بغزّة من نكبة ثانية التي يقول عنها نتنياهو إنّها خاتمة لما لم يتمّ من قبل في الـ48، بحيث يتمّ ترحيل كلّ الفلسطينيين. 

هذا هو ببساطة الفكر الإحلاليّ الصهيونيّ، أو ما نسمّيه بالاحتلال الاستيطانيّ. ولكي نفهمه أكثر علينا أن نرى الهجوم الصهيونيّ على الأونروا منذ بداية الحرب على غزّة. فالكذبة الإسرائيلية هي أن الأونروا تضم موظفين من حماس وشاركوا في طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، وبالتالي فالأونروا منظمة إرهابية. وليس لنا أن نقرأ هجوم «إسرائيل» ومحاولتها إلغاء الأونروا إلا كهجوم على حق العودة للفلسطينيين. رغم أن الأونروا قد خُلقت تاريخيًا كي تمحي حق العودة وتقوم بإعادة توطين للفلسطينيين بالدول التي صاروا لاجئين فيها في لبنان وسورية والأردن. لكن الأونروا بالنسبة لـ«إسرائيل» بمثابة دليل على حق اللاجئين الفلسطينيين. ومن هنا، هي مزعجة لـ«إسرائيل». ولذلك تريد محو الأونروا ووضع مسؤولية الفلسطينيين على مفوضية شؤون اللاجئين ومن ثمّ تُلغى فكرة العودة برمّتها.

ومن هنا تأتي ضرورة الكلام عن حق العودة الآن. فحق الفلسطينيين بالعودة إلى بلادهم هو حق منصوص عليه بالقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، وهو حق مشروع، وجزء من الصراع على الأرض. 

الطفلان في قصتك يتكلمان بكلام سياسيّ ملفت للنظر. رسومات حلمي التوني أيضًا تضطلع بالدور نفسه. الأزياء، الأغاني، الذاكرة، التاريخ، كلّها لها دلالات سياسيّة. لكنّ القارئ لا يستشعر إقحامًا سياسيًا ما في النص. هل يمكن أن تحكي لنا عن إشكاليّة وتعقيد اللغة السياسيّة في هذا النوع من الأدب الموجّه للناشئة؟

يمكن الجواب على هذا السؤال من شقين. الشق الأوّل هو شق عامّ. فتساؤلنا عن كيف أنّ الناشئة يتكلمون لغة سياسيّة هو تساؤل ناجم عن تصور بأنّ الناشئة بمبعدة عن السياسة، أو يجب أن يكونون بمأمن عنها. وهذا أمر غير صحيح؛ لأنّ فكرة أنّ الناشئة فقط يذهبون إلى المدرسة ويلعبون ويعيشون سنّهم هي فكرة قادمة من الطبقات الوسطى العُليا في الغرب، ولا تنطبق على العالم برمته. فهناك أطفال فقراء، وأطفال يعيشون في ضواحي المدن، وفي المخيمات، وفي الضِّيع، هناك أطفال سود وأطفال بيض، إلخ. وكلّ هذه العوامل إنّما تلعب دورًا مهمًا في ذلك، وليس عمر الفرد هو ما يقرر ما يجب أن يكون محميًا منه، أو بمعزل عنه. ومن هنا تنجم الفكرة التعميميّة الرائجة بأنّ الأطفال غير مسيسين.

أمّا الشق الثاني للجواب على سؤالك، فكما أسلفتُ؛ قصّة «العودة تبدأ منك» صُنعت مع الناشئة، ومنهم انبثقت، ولأجلهم كانت. لذلك فالحوارات بالفصل الأوّل تحديدًا هي حقيقيّة، إما صارت بيني وبينهم، أو أنّني سمعتها منهم. ولذلك، ليس هناك إقحام للغة سياسيّة في القصة؛ ببساطة لأنّ هذه الحوارات تحصل في كلّ المخيمات. السياق الذي يحيونه يجعلهم مسيّسين منذ عمر مبكر. إنّ وجودهم في المخيمات يجعلهم يطرحون على أنفسهم أسئلة كثيرة بشأن مفارقة صعبة: فهم ولدوا في لبنان ولا يعرفون سواها، لكنهم لا يحملون هويتها وممنوعون من الانتماء إليها. 

ولذلك، ففكرة المسيس وغير المسيس هي فكرة سياسيّة بالأساس. وعلينا كمهتمين بالقضيّة الفلسطينيّة، أو بالتحرر العربيّ عمومًا أن نطرح على أنفسنا سؤالًا: هل سنترك تعليم التاريخ للأطفال إلى المدارس؟ ونحن نعلم أنّ المناهج التربوية عندنا مراقبة، وهي مناهج تُصاغ بتدخلات خارجية من الولايات المتحدة والبنك الدولي لتحديد المسموح وغير المسموح. وهذا كما ترى كلّه سياسة. ولذا، فالأطفال أيضًا سيتعرضون للسياسة المرسومة لهم سلفًا حتى في الوقت الذي نظن فيه أننا «نحميهم» من السياسة. وعلينا أن نختار هل سندعهم لسياسة تعتيميّة وتجهيليّة؟ أم سنبصّرهم بسياسة تحرريّة ومقاومة؟

القصّة، بشكل طريف، في نهايتها أطلقت وصفًا رائعًا ألا وهو «لعبة العودة». حيث يبدو بشكل ما أنّ علينا أن نخترع لعبة ما في هذا الوجود كي تلهمنا وتثري مخيالنا الجمعيّ وتعطينا المعنى بشكلٍ ما. كيف برأيك يمكن أن نصنع «لعبة العودة» هذه لناشئة في عالم يدهس ذاكرتهم على الدوام باسم «العولمة» والحداثة؟

سؤال طريف. إنّ لعبة العودة هي وسيلة مهمّة حتى نخلق مخيّلة ونوسّع آفاقنا ونفكر معًا. وخلق هذه اللعبة، لعبة العودة، هي بمثابة إستراتيجيّة مهمة للحكي بطريقة أقل حدة مع جيل جديد ليفكروا معنا ومع بعضهم في مساحة توفّر لهم أفقًا حول العودة، دون أن يفرض مثلًا عليهم حزب سياسيّ تعاليمه ويطرح عليهم مانيفستو، أو يأتي مثقف ليلقي عليهم أوامر معيّنة.

فكما ذكرت سابقًا، القصّة هي معهم ومنهم ولهم: ولأنّها كذلك، يجب عليهم أن يكونوا فاعلين بخلق هذه اللعبة. 

شخصيًّا، ليس لديّ لعبة، ولا يجب لأحد أن يخلق وحده لعبة. فالفكرة هي أن نفتح مجالًا نعمل فيه معًا ونخترع فيه سويًا مخيّلة جماعيّة، وأن نخلق مع الجيل الجديد فرصة لاستكشاف فضولهم حول قضايا تهمهم. وأن نفتح أفقًا لقراءة التاريخ بطريقة غير تقليديّة، بحيث لا نسرد التاريخ كأحداث، أو مجرّد بيانات.

لذلك الشعر مهم والموسيقى والرسم، لخلق هذه الفضاءات مع هذا الجيل، لتخيل هويات جديدة منفتحة، قادرة على العمل في قضايا العدالة والتحرر.

Leave a Reply

Your email address will not be published.