إن كان للذاكرة أن تحل في غرض ملموس فلا بد من أن يكون هذا الغرض صورةً ضوئية، أو هكذا عودتنا الثقافة السائدة على الأقل: أن ألبوم العائلة هو مخزن للذاكرة، وأن التقاط صور سيلفي في المناسبات هو صناعة للذكريات أو توثيق لها، وأن تعليق صورة راحل أحببناه هو ضمان (بل ربما الضمان الأفضل) لدوام ذكراه. لكن، ليس بعيون سيغفريد كراكاور، الذي رأى في الصور الضوئية العكس تمامًا، مضادات ذاكرة تعمل على تخريب معنى الشخص المفقود.
في نصه «التصوير الضوئي» من عام 1927، يشرح المفكر الألماني أن الذاكرة تعمل بطريقة تركيبية وانتقائية، تعيد تصفيف عناصر من أحداث وأزمان مختلفة، تفرزها وتنحي الكثير من تفاصيلها غير الضرورية للحفاظ على معنى شخص ما. ينظر كراكاور إلى صورة لجدته المتوفاة التقطت عندما كان عمرها 24 عامًا فيستعصي عليه ذلك المعنى. أول ما يلفت نظره ليس شخصًا عرفه ويتذكره، بل قصة الشعر القديمة والوضعية المصطنعة، الملابس المضحكة والابتسامة، تفاصيل تبعد الجدة عن فرديتها لتصير مثلها مثل أي فتاة من عام 1864، ولتصير الصورة أقرب إلى غرض أنثروبولوجي منها إلى «استحضار» (أي شدّ إلى الوقت الحاضر) كما الذاكرة. «تلك العيّنة البشرية لا تنتمي إلى زماننا، قد تقف مع آخرين من نوعها في متحف، تحت علبة زجاجية مكتوب عليها «ملابس تقليدية 1864»».
المشكلة في التصوير الضوئي، باستنتاج كراكاور، هو أن المصوَّر يبقى مكبلًا بلحظة التقاط الصورة، وبأعراف تلك اللحظة التي قد تبدو لنا شفافة عندما ننظر إلى صور معاصرة كوننا معتادين عليها. أعراف مثل السيلفي، أو الفلاتر، أو حركة يد معينة، أو طريقة في الجلوس والابتسام من النادر أن تكون أول ما يلفت انتباهنا عند النظر إلى بورتريهات اليوم. لكن بمرور الزمن تطغى تلك التفاصيل على الشخص وتثقله بموضات لم يعد لها معنى، مثل نص أدبي قديم، مثل ملابس صارت غريبة أو وضعيات محرجة عفا عليها الزمن، تفاصيل تدفن تاريخ الشخص «كما تحت طبقة من الثلج» وتعيق عمل الذاكرة التي تسعى، بالعكس، إلى اصطفاء صورة فردية للشخص.[1] لكن ماذا لو نظرنا إلى الوجه الآخر للاستنتاج ذاته؟ وهو أن البورتريه الفوتوغرافية، بتنحيتها للشخص، تصبح أداةً لدراسة مجتمع ما، وأن استخراج حقيقة تاريخية كامنة في الصورة (إن كانت تلك الحقيقة موجودة) يجب أن يجري من خلال التفاصيل الجانبية، من الكراسي والستائر واللوحات القماشية، لا من اعتقاد بقدرتها على إيصال جوهر فردي.
كانت استديوهات المصورين مسكونةً بأغراض غريبة. دورها، في البدء، كان تقنيًا. لدى انتشار «الداجيروتيب» (Daguerreotype) في باريس ومن ثم العواصم الغربية، وهو أول نوع من الصور الضوئية المتاحة نسبيًا. عانى الجالسون أمام العدسة من بطش الكرسي «الداجيري»، وهو كرسي بسنادة ذات استطالة تقبض بحزم على رقبة الجالس كي تثبت جسده. كان ذلك في أربعينيات القرن التاسع عشر، وكانت مدة التقاط الصورة قد تتجاوز الثلاثين دقيقة. أحيانًا ما ترافق الكرسي (الخفي طبعًا في الصورة) بكلبشات تثبت ذراعي الجالس على المساكات، كما في غرفة عمليات. الهدف كان تشكيل الجسد البشري وفق وضعية مفهومة اجتماعيًا (دائمًا جالس، اليدان «مستندتان» والنظرات شاردة) وتثبيت تلك الوضعية ريثما ينطبع الضوء بشكل واضح على الشريحة الزجاجية. في عصر كان لا يزال يؤمن بالفراسة وبقدرة الصور على كشف شيء من خفايا شخصية الجالس، كانت المفارقة في أن تكون تلك العملية مشروطة بمعيارية في الوضعيات والنظرات والملابس، ولا مجال فيها للعفوية. كي تفيض حقيقة الشخص عبر النور المنبعث من وجهه يجب على هذا الوجه أن يُفرغ من أي تعابير، أن يصير غرضًا.[2]
كاريكاتور لجلسة تصوير. مجلة Harper’s Weekly، 19 آذار 1859. المصدر.
بحدود الستينيات، تقلصت فترة التقاط الصورة وترافقت مع تطورات تقنية قادت إلى اختراع «بطاقات الزيارة»، وهي بطاقات صغيرة حملت اسم وصورة الشخص، مصممة كي يمررها البرجوازي إلى زملائه في العمل أو يتركها في مكتب ما لدى دخوله أو في سهرة ما، تمامًا مثل تبادل بروفايلات إنستغرام. ترافقت التغيرات تلك باستبدال تدريجيّ للكراسي القديمة بأثاث مرئي استمر في تشكيل الجسد لكن بطرق أقل عنفًا، إضافةً إلى لعبها دورًا تزيينيًا مهمًا. أن تتحول البورتريه الضوئية من غرض زجاجي ثمين يعلق في المنزل مثل لوحة زيتية إلى بطاقة ورقية صغيرة ورخيصة يمكن استنساخها بالمئات، عَنى أن تتحول من غرض حميمي منزلي إلى غرض عمومي للعلاقات المهنية والمبادلات الاجتماعية، والنتيجة هي ضرورة تصنيع واجهة مقروءة عن الشخص، وكأن تقلص حجم الوجه على البطاقة ومعه القدرة المزعومة على كشف شخصية صاحبه جرى تعويضه بتكاثر الأغراض من حوله لإيصال معلومة سريعة ومنمطة (فلانة تحب المطالعة أو فلان مغامر يحب الصيد والغابات).
بطاقة زيارة بريطانية من ستينيات القرن التاسع عشر. المصدر.
هكذا ولد سوق جديد من «الأثاث الفوتوغرافي»، أغراض خفيفة ورخيصة منتجة صناعيًا يمكن طلبها بالبريد، مجرد ترميزات سطحية عن وظائفها الأصلية: قطعة درابزين لا تسور شيئًا على التعيين، كرسي بأسلوب قوطي مزخرف كأنه خارج عن كنيسة، عمود كورنثي لا يسند أي سقف، كتب مبعثرة هنا وهناك. إن كانت الإيديولوجيا هي «التمثيل المتخيل لعلاقة الأفراد بظروف وجودهم الحقيقية»،[3] فإن الأغراض الفوتوغرافية تلك هي الطريق السريع لفهم الإيديولوجية البرجوازية للقرن التاسع عشر. من خلالها حاولت الطبقة الصاعدة محاكاة فخامة الطبقات الأرستقراطية القديمة بحبها للفن والتلميحات التاريخية. إضافةً إلى ذلك، توصي بعض الكتابات من تلك الفترة بتقسيمات جندرية لتلك الأغراض، مثل أن تظل المشاهد الخارجية والأعمدة المنتصبة من نصيب الرجال، بينما تصور النساء جالسات أمام ستائر بيتوتية مع كتاب تلتهين بها.[4] باختصار، كانت الأغراض تلك قبل كل شيء سبيل المجتمع البرجوازي نحو أداء طبقي وجندري عرّف ذاته من خلاله.
انطبق شيء من تلك الممارسات على جميع أنواع البورتريهات السابقة خصوصًا المرسومة منها، مما جعل الحديث عن خصوصية الأغراض الفوتوغرافية عملية صعبة. ألم يُمسرح لويس الخامس عشر نفسه مثلًا أمام درابزين وعامود وتاج ووسادة؟ أو ويليام هاميلتون المُحاط بمجموعة جرّات يونانية وكتب، يجلس على مكتبه المزخرف؟ أكيد أن الاستديوهات قد استمرت بذات النَفَس، لكن الفرق هو أن البورتريهات المرسومة كانت مرمزة بعناية وبشكل مقصود، أن الملك هو ملك لأنه يعيش في قصر من الأعمدة وبين وسائد بزهرة الزنبق وهي شعار الملكية، بينما هاميلتون هو عالم آثار لأنه يمضي أيامه بين الفخّار اليوناني والكتب، والأهم هو أن تصوير تلك الأغراض قد جاء من علاقة ملكية واستخدم لها، أي أنها لم تكن سلعًا مخصصة للبيع والشراء، بعكس الديكورات الفوتوغرافية المزيفة التي اختارها الجالس على مزاجه من ضمن ما يتيحه مخزون الأستديو، إن لم يكن المصور قد فرضها بشكل عشوائي. المختلف في الصور الضوئية إذًا هو تزامن ظهورها مع نمط إنتاجي يٌعرّف علاقتنا بالأغراض كعلاقة تسليع وتبادل.
في بورتريه ضوئية التقطها جيمس فان دير زي، أحد أهم مصوري حي هارلم النيويوركي في العشرينيات، تظهر امرأة أفرو-أميركية من سكان الحي بثياب سهرة أنيقة تدير ظهرها إلى تمثال صغير آسيوي. حتى يثبت العكس، المرجح هو أن العلاقة بين المرأة والتمثال عشوائية تمامًا لا يمكن تفسيرها بتحليلات إيكونوغرافية أو بروابط حياتية، الغالب هو أن هذا التمثال لا يعني شيئًا للمرأة، أنها لن تراه مجددًا في حياتها وربما لا تستطيع أصلًا دفع ثمنه. مثل الدرابزين مقطوع الأطراف أو العمود الذي لا يسند شيئًا، التمثال ساهم هنا في صورة غائمة عن قدرة الطبقة الوسطى الشرائية أكثر منها عن علاقة وجودية بتلك الأغراض على التحديد أو بقيمة استخدامها.
جيمس فان دير زي، «لباس السهرة»، 1922. المصدر.
في سبعينيات القرن التاسع عشر انضم فرد جديد إلى عائلة الأغراض الفوتوغرافية، وهو اللوحات القماشية المرسومة التي جاءت تكسو الخلفيات الرمادية الحيادية بمكتبات مزيفة وبلاكين وغابات وبحيرات. لم تكن وظيفة تلك الخلفيات وضع الشخص في مكان محدد ولا التعبير عن ملكية عقارية كما في الخلفيات الطبيعية للبورتريهات الأرستقراطية، بل جاءت بدورها كنوع من ملء الفراغ والتعبير المصطنع عن الثروة كما يعبر بوضوح إعلان مكتوب في كاتالوج بيع لتلك الخلفيات من عام 1908: «خلفية مميزة بأسلوب «الرسامين القدماء»، أسلوب يفضله المصورون الذين يخدمون زبائن بمستويات عالية. المتاجرة مع الأرستقراطيين قد تجلب المال إن استطعت إعطاءهم شيئًا جيدًا و«مختلفًا»».
كاتالوج بيع لخلفيات مرسومة من عام 1908، بوسطن. المصدر.
لم يتردد كثير من المعلقين باتهام اللوحات القماشية بسوء الذوق،[5] لكن المثير للاهتمام هو أن اختيار تلك الخلفيات قام وكأنه لصرف النظر عن حقيقة معاكسة تمامًا: هل من الصدفة مثلًا أن تنتشر المشاهد الطبيعية الريفية في صور طبقة كانت تستوطن أكثر وأكثر في مدن صناعية، بل وتساهم هي ذاتها في القضاء على الريف في نفس الوقت التي تشعر بالحنين إليه؟ أو أن تظهر هيلين ستانديش، إحدى أشهر نساء المجتمع الباريسيات التي اشتهرت بحفلاتها الصاخبة كفتاة انطوائية وحيدة على ضفة البحر؟
مايكل ناش، صورة من مدينة وارسو بعد الحرب العالمية الثانية، 1946. المصدر.
تحتد تناقضات اللوحات القماشية لدى انتشارها خارج العالم الغربي، فإما أن تعيد إنتاج تنميطات أوروبية، مثل أن تظهر فتاة هندية مثلًا على خلفية أطلال فيكتورية بريطانية، أو بالعكس، أن تخلق أنماطًا جديدة تتماشى مع صورة «الآخر» لدى الغرب، مثل المصور الياباني كوساكابي كيمبي الذي استخدم اللوحات القماشية لوضع أبناء بلده في سياقات أصولية نمطية (الحج إلى جبل فوجي مثلًا) ترضي سوقًا فولكلوريًا محليًا أو أجنبيًا.
يرى المفكر أرجون أبادوراي أن السؤال الأهم الذي تصارع معه اللوحات القماشية والأغراض في السياق الاستعماري هي مدى قدرة ورغبة التابع المستعمَر على الانتماء إلى الحداثة. برأيه، فإن صورة امرأة هندية جنوبية باللباس التقليدي مع هاتف أحمر من ثمانينيات القرن العشرين هي ليست فقط طريقة لتمثيلها كربة منزل حديثة، بل للتلميح بأنها جاهزة لزواج مجهز مع رجل من طبقتها حتى لو كان بعيدًا في العالم.
قد تكون قراءة أبادوراي مبالغًا بها ما لم تتوفر أدلة على أن الصورة أُخذت بهذا القصد وأن الهاتف لم يكن ببساطة موجودًا في الاستديو أو في صور أخرى، لكن الأكيد هو أن تلك الأغراض، كما يستنتج الكاتب، تتحول في السياق ما بعد الاستعماري إلى فرصة «تجارب مع الحداثة» يحاول من خلالها الجالسون استملاك الأغراض تلك بطريقتهم الخاصة وتجريب أدوار مختلفة في العملية التاريخية. لكن ذلك لا يجعلهم أكثر حرية بالضرورة، حيث يعترف أبادوراي بأن رغباتهم، بمجرد غياب المستعمر، تخضع لمعايير استهلاكية تربطهم من جديد مع منظومة هيمنة جديدة.[6]
بورتريه لرجل من آل داغر، 1974، من أرشيف المتحف الفلسطيني. المصدر.
لا مثال أفضل على ذلك من أرشيف استديو المصور هاشم المدني الذي عمل في مدينة صيدا منذ خمسينيات القرن العشرين، أرشيفٌ قام الفنان اللبناني أكرم زعتري بإعادة اكتشافه أواخر التسعينيات ودراسته والحفاظ عليه في سياق المؤسسة العربية للصورة. تتوضع النساء بفخر مع جهاز راديو بينما يلعب مراهقون مع صور كرتونية لنجمات هوليوودية ومسدسات وهمية. الصور الضوئية، يستنتج زعتري، «أدائية إلى أقصى الدرجات. هي لحظات تمثيلية نعتبرها اليوم عفوية ومباشرة، لكنها غالبًا اقتراحات مصنعة للتعبير عن طريقة شعب ما لتخيل ما هم عليه ولموضات وتطلعات زمانهم والإمكانات التي يتيحها لهم الوسيط [ِالتصويري]».[7]
إن لم تكن الصور إذًا تعبيرًا صادقًا عن ماضٍ نتذكره، كما قال كراكاور، ولا عن هوية ثابتة وعفوية، كما يقول زعتري، فقد تكون منذ ظهورها في القرن التاسع عشر تعبيرًا قبل كل شيء عن رغبات لم ولن تتحقق، رغبات خلقتها صور سابقة تحاول الصور اللاحقة استملاكها، مما يترك السؤال مفتوحًا حول من هو الغرض ومن هو الجالس، من المركز ومن الهامش، من الفاعل ومن المفعول به، وعما إن لم تكن الكتب والملابس واللوحات القماشية هي الشخصيات الأساسية للصور ونحن، الأغراض.
هاشم المدني، طفلة غير معروفة. منزل عائلة المدني، صيدا، 1948-1953. المصدر.
-
الهوامش
[1] Siegfried Kracauer, «Photography» (1927), in The Past’s Threshold: Essays on Photography, Zurich/Berlin, Diaphanes, 2014.
[2] Annie Rudd, «Good Subjects, Bad Objects: Posing Devices and the Nineteenth-century Commercial Studio», Photographies, 13|7, 2019, 1-24.
[3] Louis Althusser, « Idéologie et appareils idéologiques d’État » (1970), in Positions (1964-1975), Paris, Les Editions sociales, 1976.
[4] Annie Rudd, Op. cit.
[5] Steve Edwards, The Making of English Photography. Allegories, University Park, Penn State University Press, 2006.
[6] Arjun Appadurai, «The Colonial Backdrop», Afterimage, 24|5, 1997, 4-7.
[7] «The Artist as Collector: A dialogue on the Possibilities and Limits of an Institution. Chad Elias Interviews Akram Zaatari», in Chad Elias et al., Akram Zaatari: Against Photography, Barcelona, Museu D’Art Contemporani de Barcelona, 2018.