ألف معنى ومعنى: كتب في تاريخ الأفكار

الثلاثاء 24 كانون الأول 2024
تصميم محمد شحادة.

قد يكون التاريخ واحدًا من أكثر حقول المعرفة تشعبًا. فباعتباره سجلًا لكل ما مضى من أحداث، بوسع دراسة التاريخ أن تنحو بشتى الاتجاهات، متخذةً من أي عصر أو مكان أو مجال بعينه إطارًا للبحث، من أطول تواريخ الحقب، إلى التتبع التفصيلي لأحداث قد لا تتجاوز مدتها الأيام. يضاف إلى هذا الاتساع الشائع في نطاق الحقل تعدد المنطلقات إلى تناوله. ففي العقود الأخيرة بشكل خاص، شاع تناول تواريخ من زاوية مجموعة بشرية بعينها أو من منطلق فكري محدد، عادة كنوع من رد الاعتبار لمنظور ظل مهمشًا أو منسيًا لفترة طويلة.

وسط هذه الممكنات الهائلة، نلتفت إلى تقليد فرعي في حقل التاريخ، هو تتبع تاريخ فكرة بعينها. فبعيدًا عن الانطلاق من العناوين الكبرى لحقب تاريخية طويلة، أو تناول مصائر شعوب أو بلدان بعينها في مراحل محددة، يركز هذا الفرع على تاريخ الأفكار: كيف وأين ولدت؟ من صاغها ومنحها معناها؟ وكيف تبدلت هذه المعاني عبر الزمن؟ وكيف حضرت هذه الأفكار بين الأفراد والمجتمعات وانتقلت من حيز المجرد إلى الواقع لتصبح عاملًا فاعلًا ومؤثرًا؟

في مثل هذا الحقل، يمكن لتتبع تاريخ فكرة بعينها أن يأخذنا إلى أزمان عديدة وبلدان متباعدة، ويكشف كيف تسافر الأفكار بطرق قد لا نتوقعها، وتكتسب حيوات متعددة قد تحمل معها معاني متناقضة. ويمكن أن تشمل هذه الأفكار المروي تاريخها مفهومًا محدد النطاق، كما يمكن أن تشمل إطارًا أوسع بكثير، تكون فيه الفكرة جوهرًا لمنظومة بأكملها. وقد تكون الفكرة ضيقة تتعلق بمجال معرفي خاص، أو عامة وبديهية لدرجة أننا قلما نفكر أن لها تاريخًا.

في هذه القائمة، نختار لكم عددًا من الكتب التي تتناول تاريخ أفكار متنوعة، من الحب إلى الموت، ومن السعادة إلى الجنون، ومن البيئة إلى الليبرالية. وعلى تنوع المواضيع واتساع مفاهيمها المختارة، إلا أن غالبية الكتب الواردة في هذه القائمة تقدم عروضًا موجزة ومبسطة إلى حد كبير.

تاريخ الأسطورة

كارين آرمسترونغ، ترجمة وجيه قانصو
الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2008

لطالما خلق البشر أساطيرهم التي مثلت جزءًا من سعيهم لتفسير الظواهر من حولهم، وإيجاد معنى لمسارات حياتهم، ولطالما كانت لديهم وحدهم القدرة على توليد أفكار وتجارب بالاستناد لخيالاتهم، لا بالاستناد إلى واقع موضوعي يختبرونه بشكل حسي. تنطلق المؤرخة البريطانية كارين آرمسترونغ من هذه الحقيقة لتغوص في التاريخ الطويل للأساطير التي خلقها البشر، والوظائف التي أدتها هذه الأساطير.

لعبت الأساطير دورًا أساسيًا في مساعدة البشر على فهم ماضيهم وحاضرهم: من نحن؟ ومن أين أتينا؟ لكنها تعلقت بالقدر نفسه بمساعدتنا على فهم الوجهة التي نسير نحوها، لذلك كثيرًا ما دارت حول الموت وما بعده. هذه الأسئلة الأساسية ظلت حاضرة بقوة عبر العصور التي تتبعت فيها آرمسترونغ الأساطير، من عصر الجمع والصيد القديم، إلى الحضارات الأولى، وصولًا للعصر الحديث.

ورغم إيلائها اهتمامًا كبيرًا بالأساطير الدينية، باعتبارها متخصصة في علم الأديان المقارن، إلا أن آرمسترونغ تلفت إلى أن الأسطورة ليست أبدًا شيئًا من الماضي، بل هي حاضرة بقوة في حياتنا المعاصرة، وإن اتخذت أشكالًا جديدة. فالميثولوجيا أو علم الأساطير، كما تقول آرمسترونغ، «لم تكن حول اللاهوت، بمعناه الحديث، بل حول التجربة الإنسانية».

تأخذ الأسطورة في يومنا هذا معنى يشير إلى الزيف واللاواقعية. لكن آرمسترونغ تقول إنه من الخطأ اعتبارها «نمطًا متدنيًا من التفكير»، فالقيمة التي ما تزال الأسطورة تحتفظ بها هي قدرتها على الإضاءة  على «إمكانات جديدة حول سؤالنا: ماذا لو؟ وهو السؤال الذي حفزنا على إنجاز بعض أهم مكتشفاتنا في الفلسفة والعلم والتكنولوجيا».

الوجيز في تاريخ الموت

دوغلاس ج. ديفيس، ترجمة محمود منقذ الهاشمي
الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2014

«إن تاريخ الموت هو تاريخ لتأمل الذات».

ينطلق المؤرخ الويلزي دوغلاس ج. ديفيس من الأسئلة الخالدة حول ما يحدث للإنسان حين يموت وإلى أين يذهب بعد الموت، ليستعرض كيف أجاب البشر على هذه الأسئلة عبر عصور وثقافات وأديان مختلفة، وإن ظل تركيزه منصبًا بشكل أكبر على المسيحية.

لكن ديفيس يتناول في كتابه أيضًا كيف تعامل البشر مع الموت على المستوى النفسي والعاطفي من حيث كونه تجربة مشحونة دومًا بالانفعالات: الخوف والفقد والحزن والشك، سواء تعلق بموتنا نحن أو موت أحبائنا. ويتتبع ديفيس استجابات البشر لهذا الامتحان الحتمي، وأساليب تكيفهم وتعايشهم معه، مستعرضًا دور الأمل والإيمان في هذا الإطار. كما يناقش كيف يحضر الموت كسؤال متعلق بالحياة، أي كيف يجب أن نحيا إن كان الموت نهاية أكيدة، سواء من حيث التحضر للآخرة، أو من حيث إيجاد معنى للفترة القصيرة التي تمنح للإنسان على الأرض. 

يتعامل الكتاب أيضًا مع الجوانب «العملية» للموت، أو ما يسميه «إزاحة الموتى»، حيث يناقش طقوس الدفن أو الحرق والجنائز، والدور الذي تلعبه هذه المراسم في تشكيل وعينا بالموت وتكيفنا معه.

موجز تاريخ الجنون

روي بورتر، ترجمة ناصر مصطفى
هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة)، أبوظبي، 2012

ينطلق روي بورتر، المؤرخ البريطاني المختص في تاريخ الطب، في هذا الكتاب من الإقرار بأنه لا يسعى إلى تعريف الجنون. إذ يضيء بداية على أن حقل الطب النفسي والعقلي شهد وما يزال يشهد جدالات واسعة حول طبيعة المرض العقلي، بل ما إذا كان هذا المرض حقيقة موضوعية فعلًا أم بناءً ثقافيًا كرسته شبكة من الممارسات الطبية والاجتماعية والإدارية، كما حاجج ميشيل فوكو. لكن بورتر يضع هذا الجدل جانبًا ليقر سلفًا بأن كتابه لا يتعمق في طبيعة المرض العقلي، ولا يتوسع في تتبعه في ثقافات مختلفة، وإنما يسعى لعرض صورة موجزة لتاريخ الجنون، تحديدًا في العالم الغربي.

يركز بورتر في كتابه على أسئلة: من الذي عُرّف بوصفه مجنونًا؟ ولماذا صنّفه الناس على هذا النحو؟ وكيف جرى التعامل مع من اعتبروا مجانين، سواء بالعلاج أو الإيواء أو الاضطهاد؟ وينطلق في سعيه للإجابات من الروايات الدينية المبكرة، التي اعتبرت الجنون قدرًا أو عقابًا، مرورًا بتحوله إلى محنة يمكن التطهر منها، ثم اعتباره رديفًا للعبقرية وملاصقًا للإبداع، وصولًا إلى «عقلنته» مع ولادة الطب، ليصير مرضًا يمكن على الأقل السعي لمعالجته.

هنا، يبدأ التعامل مع الجنون بأخذ أشكال أكثر مؤسسية. فتولد المصحات كمراكز لحجز المجانين وإبعادهم عن الفضاء العام، وتصبح هذه المؤسسات ذات سلطة علمية في تحديد اللازم من أجل «إعادة المجنون إلى رشده»، ويولد معها الطب العقلي بصورته الحديثة. لينتهي الكتاب إلى ما يسميه «قرن التحليل النفسي»، أي عصرنا الحالي الذي باتت فيه الصحة النفسية جزءًا من الثقافة العامة، مع ما حمله ذلك من اتجاهات متعددة في صيانة هذه الصحة، وتكاثر تعريفات الاضطرابات النفسية، ومعها انتشار الأدوية والمهدئات، وهو ما أوصلنا في نظر بورتر إلى نقطة باتت معها ثقة الناس في الطب النفسي تضمحل.

السعادة: موجز تاريخي

نيكولاس وايت، ترجمة سعيد توفيق
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2013

يبحر أستاذ الفلسفة الأمريكي نيكولاس وايت في هذا الكتاب عبر 25 قرنًا من البحث الفلسفي عن معنى السعادة والسبيل إليها. وليس هذا المدى الزمني وحده ما يجعل موضوع الكتاب شاسعًا، فتاريخ السعادة، كما يقول، يمكن أن «يرتبط بكل شيء يتعلق بالموجودات البشرية أو حتى بغيرها»، لأن التأمل في فكرة السعادة يتطلب أن نأخذ بالحسبان كل ما قد يعد مرغوبًا أو جديرًا بالاهتمام.

وسط هذا التاريخ المديد، يتقصى وايت مفهوم السعادة وأسئلة أساسية حوله من قبيل: ما الذي يجعلنا سعداء؟ وهل يجب أن تلعب السعادة دورًا طاغيًا إلى هذا الحد في حياتنا؟ وكيف نوفق بين العوامل المتضادة التي تسعدنا؟ وما العلاقة بين السعادة ومفاهيم أخرى كالفضيلة والتناغم واللذة والمنفعة؟

من أرسطو إلى كانط ومن نيتشه إلى سبنسر، يبحث الكاتب عن إجاباته بين الفلاسفة دون أن يلتزم بترتيب زمني محدد. إذ يتقافز ذهابًا وإيابًا من الجدالات التي خاضها فلاسفة الإغريق، التي تحتل جزءًا وازنًا كتابه، إلى نقاشات عصر النهضة الأوروبي، إلى المقاربات الحديثة في مجالات مختلفة، من السياسة علم النفس السلوكي.

الحب: مقدمة وجيزة

رونالد دي سوزا، ترجمة رندة بعث
هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، 2018

قد لا يكون هذا الكتاب كتابًا محضًا في التاريخ، فالفيلسوف الكندي السويسري رونالد دي سوزا يوضح منذ البداية أنه يقارب موضوعه من منظور فلسفي. بيد أنه في تلمّسه للمعاني العديدة التي اتخذها ويتخذها الحب، يمر حكمًا بتاريخ المفهوم ويتتبعه عبر عصور مختلفة.

ينطلق الكتاب من الإقرار بحيرتنا أمام الحب والتناقضات التي يحملها: «الحب غيريّ، الحب أناني. الحب رؤوف، الحب قاسٍ. الحب متقلب، الحب أبدي. الحب نعيم، الحب جحيم». لكن دي سوزا يبتعد عن محاولة فهم الحب بوصفه انفعالًا أو شعورًا، فهو قد يجر على المحب طيفًا واسعًا من المشاعر المتباينة، من الفرح إلى الأسى ومن الخوف إلى الغضب. وإنما يقاربه من حيث هو «نمط معقد من الأفكار والسلوكيات والانفعالات الكامنة التي تنزع إلى أن تعمل معًا».

يتأمل دي سوزا هذه الوجوه المتعددة للحب، مستحضرًا أمثلة عليها من التاريخ والأدب في أزمنة عدة، من أفلاطون إلى شكسبير، ومن أرسطوفان إلى فرويد. كما يتناول أسئلة الحب عبر علاقاتها بمفاهيم أخرى، كالرغبة والحرية والإيثار واليوتوبيا، عارضًا التعقيدات الإضافية التي تجلبها محاولات تحليل الحب أو فهمه من منظور علمي.

البيئة: تاريخ الفكرة

بول وورد، ليبي روبن، سفوركر سورلن، ترجمة سعيد منتاق
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2023

يبدو التساؤل عن مفهوم البيئة غريبًا، نظرًا لكونه قادرًا على شمول كل ما يحيط بنا. إلا أن الكتّاب الثلاثة يحاولون تبديد هذه الغرابة بالإشارة إلى حداثة المفهوم كطريقة للإشارة إلى العالم الطبيعي والشبكات المترابطة التي يتكون منها، لافتين إلى أنه ولد أساسًا لمساعدتنا على وصف نطاق وحجم التأثير البشري في العالم. وبذلك، جعلت ولادة مفهوم البيئة «الكوكبَ مرئيًا بطريقة جديدة تمامًا».

يتتبع الكتاب هذه الفكرة التي ولدت وسط أجواء صبغها الخوف من قدرة الإنسان على تدمير العالم، ليعرض كيف تحولت إلى أداة للخيال والقياس سمحت بخوض نقاشات جديدة وطرح أسئلة حول المسؤولية البشرية تجاه الطبيعة: هل العالم مريض؟ وهل تزداد البيئة تحسنًا أم سوءًا؟ كيف نقيس هذه التغيرات؟ ومن يملك سلطة الحديث باسم البيئة؟

عبر تقصي تغير المعاني التي حملها مفهوم البيئة على مدى سبعة عقود، ينقل الكتاب النقاشات الأكثر إلحاحًا في تلك الأزمنة بما يتصل بالبيئة والعالم الطبيعي، بما يعكس تغير الأولويات من زمن لآخر، والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تحديد هذه الأولويات، من الخطر النووي، إلى ثقب الأوزون، إلى أزمة الغذاء، إلى الاحتباس الحراري المتزايد. ونظرًا للأزمة البيئية التي لم يعد بالإمكان إنكارها، فإن سؤال المستقبل يبقى حاضرًا على مدى صفحات الكتاب، ففي عالم يزداد حرارة، يقول الكتّاب، لا يكفي أن يكون البشر أشخاصًا صالحين، بل عليهم أن يكونوا «أسلافًا صالحين، ويأخذوا في الاعتبار كيف سيكون العالم بعد سبعة أجيال من الآن».

الليبرالية: تاريخ مضاد

دومينيكو لوسوردو، ترجمة ناصر إسماعيل
الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2024

يسعى المفكر الإيطالي دومينيكو لوسوردو في كتابه إلى سرد تاريخ الليبرالية عبر سلسلة من المحطات التي كثيرًا ما تظل خارج التأريخات الاعتيادية لها، أو تحتل الهامش فيها في أحسن الأحوال. إذ ينطلق من سؤال المفهوم نفسه: ما هي الليبرالية؟ مضيئًا على الأفكار والممارسات التي تتناقض مع التعريفات المدرسية لها باعتبارها تقليدًا فكريًا يضع حرية الفرد في قلب اهتماماته.

ليس كتاب لوسوردو بحثًا في تاريخ الأفكار المجردة التي تشكل في مجموعها هذه المدرسة الفكرية، وإنما تأريخًا لهذه الأفكار كما حضرت في الواقع الملموس، عبر تتبع أثرها في الحركات الاجتماعية وعلاقتها بمفاهيم وظواهر تاريخية عدة، من العبودية، إلى الاستعمار، إلى الثورات وغيرها، على مدى ما يزيد عن قرنين من الزمان.

عبر هذا التتبع الذي يشمل المرور على أبرز مفكري الليبرالية خاصة من الإنجليز والأميركيين، يطرح لوسوردو مرارًا السؤال حول من هو الليبرالي؟ ومن هو المجتمع الليبرالي؟ متناولًا الحضور الفعلي لبعض أبرز المفاهيم المحورية في الليبرالية، كالحرية والاعتراف والوعي والديمقراطية.

تاريخ الكذب

جاك دريدا، ترجمة رشيد بازي
المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2016

يسعى الكتاب، الذي يستند إلى محاضرة ألقاها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا عام 1997، إلى تقديم أطروحة حول تاريخ مفهوم الكذب تؤسس لما يمكن أن يعد شروطًا لتحقق فعل الكذب، عبر استعراض حضوره وحضور نقيضه الصدق أو الحقيقة في أعمال فلاسفة مختلفين، دون أن يزعم تقديمه أحكامًا ناجزة ونهائية بهذا الشأن.

أحد أهم هذه الشروط في نظر دريدا هو القصدية، أي اعتزام الكذب على الآخرين أو تضليلهم وخداعهم، بمعزل عن صحة المقولة ذاتها، فالكذب «يرتبط بفعل القول واعتزام القول، لا بما قيل». وبحسبه فإن الحديث يتضمن دومًا وعدًا ضمنيًا بقول الصدق، لذا فإن الكذب هو حكمًا حنث بالوعد.

عبر تمارين فكرية من أزمنة متنوعة، يعرض دريدا حضور الكذب ومعانيه ووظائفه في السياسة والإعلام والمجتمع، مضيئًا على المساحة الواسعة التي تقع بين النقيضين الكذب والصدق، من الخطأ إلى الخرافة إلى التخيل.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية