«أنا محتارٌ بخصوص الخط الزّمني للقصّة. متى غادر السّارد منزله؟ كم من المدّة قضى في مخيّم اللاجئين؟ والأثاث، هل تم إرساله إلى المخيّم ليكون بمعيّته، وكيف وصل؟ وحارس المخيّم المذكور، أهو هناك لحراسة النساء وإطلاق النار على الحيوانات التي قد تهدّد سلامتهم؟ والمخيّم، هل هو مُقامٌ في تلك البقعة منذ وقت طويل؟ وكيف يتحرّك قاطنوه، سويًّا أم فُرادى؟»
هكذا علّق أحد محرّري المجلّة الأدبيّة الأميركيّة التي أتعاون معها لنشر ملفٍّ أُشرف على إعداده سنويًّا من الأدب العربيّ المترجم إلى الإنجليزيّة، على بعض قصص الملفّ، فاتحًا أمامي كشفًا لم أنتبه إليه سابقًا يتعلّق بالسياقات الكليّة للكتابة، والقراءة، والفهم، وتصوّر الوجود، بين شمال العالم وجنوبه، أو لنكون أكثر دقّة، بين التصوّر الأورو-أميركيّ وفهمه للعالم، وبين بقيّة التصوّرات، والموقع الأعلى الذي يُسبغه على نفسه ذلك التصوّر الأولّ، باعتباره التصوّر الأفضل والأنسب، وبالتالي: التصوّر الكونيّ المعياريّ.
ورغم أن «القيم الأورو-أميريكيّة» تركّز على ما تُسميّه «التنوّع والتعدّد والإدماج»، يبرز «التنوّع» و«التعدّد» هنا لا بوصفهما مسارات وسياقات متعددة متساوية الأهميّة، تغني بعضها بعضًا، لفهم الوجود وتفسير عناصر أساسيّة فيه (مثل الزّمن، وتتالي الأحداث، والمكان، والفراغ، والمساحة، ومكانة الإنسان والجماعة فيها، وتصوّرهما لها)، والتعبير عن هذا الفهم المتعدّد أدبيًّا–فنيًّا بفعلين مركزيين هما الكتابة والقراءة؛ بل بوصفهما انخراطًا «مُلوّنًا»، انخراطًا لـ«آخرين» ليسوا «نحن»، ناقصًا ابتداءً، ومعوّقًا من المنبع، بل معوّقٌ نتيجةً لانبثاقه عن هذا المنبع، في منظومة الفهم الأورو-أميركيّ الأبيض لما يجب أن يكون عليه العالم، وتعريفات تلك المنظومة لهذا العالم وآليّات ترتيبها لعناصره، بما يحقّق شكل الإخضاع الأوضح والأكثر صدقيّة في المنظومة القيميّة المذكورة، وأقصد بها: الإدماج؛ أي إعادة تكييف الأشخاص والمجتمعات ومنتجاتهم الثقافيّة والإبداعية ليندرجوا جميعًا داخل المنظور الأورو-أميركيّ للعالم وينسجموا معه، آخذين موقعهم فيه، فتنتهي الحيرة، ويعود كلّ شيء «طبيعيًّا» ومعقولًا.
إخضاع الكتابة بالترجمة والتّحرير
تخضع الكتابة، حال انتقالها من لغتها إلى لغةٍ أخرى، لعمليّة جراحيّة تتمّ بمِبْضعين أساسيّين: الترجمة والتّحرير، وفي حال كان الانتقال من جنوب العالم إلى شماله، يتمّ -بهذين المِبْضعين- إفقاد الكتابة مفاهيمها المحليّة، وحشرها داخل منظومة الفهم والتصوّر الأورو-أميركيّ للوجود ونظام العالم، وكثيرًا ما يتمّ بتر الخصائص الفنيّة للكتابة عبر ترجمة المعنى وإلغاء أو تبسيط وإهمال الشكل الفنيّ الذي يحمل في طيّاته أقوى الطاقات والإمكانيّات التعبيريّة المتعلّقة بالمنظور والتصوّر والفهم. هذا البتر والإفقاد هما شرطا الفهم والقبول اللذين يؤدّيان إلى الإدماج، وهما شرطان إخضاعيّان يتم من خلالهما إعادة تشكيلٍ في المبنى (وأحيانًا كثيرةً: في المعنى)، في حال مرّت الكتابة حُرّة من مصفاةٍ أولى هي اختيارات الناشر أو المُحرّر، ومصفاةٍ ثانية هي اختيارات الكاتب نفسه لما قد يظنّه شكلًا-موضوعًا مناسبًا للمرور إلى الترجمة، أو لأغراض الحصول على الجائزة الأدبيّة، مسار الترجمة الأسرع هذه الأيّام.
ومثلما يشرح آنتوني آنجي في كتابه المهم الإمبرياليّة، السيادة، وصناعة القانون الدولي[1] عن الكيفيّة التي دخلت فيها الدول المُستعمَرة إلى مفهوم السيادة ومنظومة القانون الدوليّ، مُكبّلة سلفًا بقيودِ، ولصالحِ، مُستعمِريها السّابقين، تدخل كتابة جنوب العالم إلى شماله (في حال لم ينتبه مُحرّر التّرجمة غير الموجود فعليًّا في أغلب عمليّات الترجمة) مُعلّبة داخل منظورات هذا الأخير ومفاهيمه وتصوّراته، مُحوِّلة ما اصطلح على تسميته بـ«الجسور والتواصل بين الثقافات» إلى عمليّة إرسالٍ من الذات الأورو-أميركيّة الكونيّة إلى نفسها، في استمناء ذاتيّ لمفاهيم المركزيّة الأورو-أميركيّة وتصوّرها للعالم وترتيبها لأشيائه، وتأكيدٍ وتمدّدٍ لهيمنته عليها.
الزمن الأورو-أميركيّ المنضبط المنتظم، وزمن جنوب العالم السّائل اللامُتتالي
واحدة من أهم الفروقات في تصوّر العالم وفهم صيروراته بين شمال العالم وجنوبه هي الزمن، ومعناه، وشكله. ثمّة شرخ واسع يفصل بين سيولة الزّمن والتسلسل الزمنيّ في جنوب العالم، وتلازمه مع اللّايقين، وعدم الحسم، والانفتاح على الاحتمالات غير المعروفة سلفًا، وفوقها ما أسميّه: اللّامعقول المعقول، أي قبول ما قد يظنّ على أنه غير معقول وغير ممكن ومستحيل ولا يصدّق، باعتباره قابلًا للحدوث ومُمكنًا من ضمن المُمكنات[2] مقابل تتالي الزّمن وتراتبيّة الأحداث ضمن إطار واضح ومحدّد في شماله، والمعبّر عنهما بمنطقيّة الوقت المنضبط والمنتظم المأخوذ باعتباره مسلّمًا ضروريًّا يجب السّير على هديه لا لتكون الأمور واضحة للقارئ فحسب، بل ومنسجمة مع فهمه للحياة وتفاعلاتها، فيستطيع استيعابها، والتفاهم معها، وتبويبها، وتصنيفها، والتعاطف معها أو كرهها والاشمئزاز منها، أي: تطبيق منظومته المعياريّة عليها، والتّعامل معها انطلاقًا من تلك المنظومة بالتحديد.
بينما يأخذ قُرّاء العربيّة بشكلٍ بديهيّ مشهد الشخص المطرود من وطنه، السّائر في الزّمن بغير تحديد، والمُرتحل بشكل مستمرّ ومتتابع بغير هدف، حاملًا متاعه وما تيسّر من أثاث وعشوائيّات، شيء منها قد يعينه في مساره غير المحدّد، وشيء منها قد يعينه في مكان استقراره القادم غير المعروف، وشيء ثالث يربطه بوطنه وبيته المتروك، وبصورة جليّة لا تحتاج إلى تفسير (مثل المفتاح الفلسطينيّ الشّهير الذي صار رمزًا مزدوجًا للطّرد والإصرار على العودة)، مستندين إلى كمّ التجارب والصّور المتراكمة والمتراكبة والجرائم المرتكبة بحقّهم ومواطنيهم ومجاوريهم في هذا المجال،[3] يصعب على القارئ الأورو-أميركيّ مجرّد تصوّر مثل هذا النّوع من الوجود، ويعتبره لامعقولًا غير ممكن التّصديق، قد يفهمه داخل سياقٍ سورياليّ أو خرافيّ، لكن لا يمكن تصوّره ضمن سردٍ يرتكز أو يستند إلى بنية واقعيّة أو يحيل إلى الواقع؛ لهذا تنهال أسئلة المحرّرين الأورو-أمريكيّين الاستيضاحيّة حول «إمكانيّة» أو «معقوليّة» حدوث هذا أو ذلك، والتّشكيك فيه عن طريق طلب توضيحه وتحديد مكانه داخل التسلسل الزمنيّ «المنطقيّ».
لا يمكن لهؤلاء المحرّرين (المُعبّرين -إجمالًا- عن قرّائهم أيضًا) أن يفهموا كيف يسير شخص وأثاثه جنبًا إلى جنب في طريق الطرد واللجوء، فالأثاث «يُرسل» أو «يُشحن» (بالشاحنة أو الباخرة أو الطائرة) من مكان إلى آخر، إذ لا يوجد إطار مرجعيّ في ذهن القارئ الأورو-أميركيّ لصورٍ وتجارب، شاهدناها مئات المرّات وخبرها الملايين منّا في جغرافيّات مختلفة، لنازحين بأثاثهم، أو لمكانٍ لا تتوفّر فيها ملاجئ من القنابل،[4] أو لشخص أُخرج من بيته ويسير على غير هدًى إلى هدفٍ غير معلوم، لا يعرف فيه أحدًا، ولا إلى أين ستكون وجهته التالية.
«ثمّة خلل بنيويّ في بنية القصّة وصيروراتها، وترتيبها الزمنيّ، لا خللًا في تصوّري عن الواقع»؛ هكذا سيستنتج القارئ الأورو-أميركيّ إذ يقرأ سرديّة اللاجئ الملخوم السائر بصحبة أثاثه، مستندًا إلى راحتهِ/راحة المُستعمِر التاريخيّة، والمكاسب التي انتزعها ويرفل الآن في «نعيمها» و«يقينها»، بما في ذلك الإطار السياسيّ-القانونيّ-الأخلاقيّ والمنظومات المفاهيميّة التي بناها وطوّرها لتحكم علاقاته البينيّة الداخليّة، وعلاقاته مع ما هو خارجه، وتخضع كلّها لمسار تطوّري أثّرت فيه ما يسمّيه آنجي «المَوْقَعَة الاستعماريّة» (colonial encounter)، وتستخدم وتُجيّش بواسطته تنويعات على ثنائيّة مُتحضّر/ همجيّ (مُتقدّم/ مُتخلّف، مُتطوّر/ نامٍ، سَبّاق/ مُتأخّر، إلخ)، دون أن يفهم ذلك القارئ سيولة الزمن، ولايقينية الحركة والمآل، ومركزية ورمزيّة الأثاث المحمول باعتباره الوطن المهدور، ونقطة الارتكاز الوحيدة الماديّة اليقينيّة، والمرجعيّة الثابتة التي يشتقّ منها المطرود والمرتحل وجوده في الماضي (كان عندي بيت؛ لن أنسى البيت) والحاضر (ها أنا أحمل البيت معي) والمستقبل (سيكون عندي بيت؛ سأعود إلى البيت).
المكان كرحلة، وارتحال، ومؤقّت دائمٍ مُستمرّ
سأستحضر هنا لوحة «جمل المحامل» لسليمان منصور، وهي لوحةٌ صارت أيقونة تلخّص بكثافة هذه المرجعيّة المتناقضة السّائلة-الثّابتة للطّرد واللّجوء والفقدان، فالثابت الوحيد فيها هو اللاجئ نفسه الذي يشتقّ وجوده من رحلة الطرد وعدم اليقين، ومن حَمله أثاثه/وطنه على ظهره حيثما ارتحل، باعتبارها حمولة ماديّة-معنويّة مستمرّة في المكان والزّمان، مُنهيًا بذلك تراتبيّة الزّمن، فالماضي (الوطن الذي ارتحل عنه) هو الحاضر (وضعيّة اللجوء نفسها) والمستقبل (غير المحدّد؛ الخارج عن التصوّر وعن قدرته التأثير فيه)، وعلى المنوال نفسه: الحاضر هو الماضي والمستقبل، والمستقبل هو الحاضر والماضي، كلّها في آنٍ معًا، تمثّل الطرد واللجوء والاستقرار المعدوم والطموح لتحقيقه وأمل العودة، وبدون ترتيب محدّد.
هذه الحالة تُنهي تحديد المكان وتجزيئه إلى «هنا» و«هناك»، فالـ«هناك» (الوطن المتروك) حاضر «هنا» دومًا (محمولًا، ماديًّا ومعنويًّا، مع اللّاجئ/المرتحل على ظهره)، وكذلك الـ«هنا» (مسار الارتحال واللجوء ومواقع الاستقرار المؤقّتة) هي طريق قد لا ينتهي السّير فيه إلى الـ«هناك»، على اعتبار أن «الوطن» (أيًّا كان تعريفه) هو الهدف الاستراتيجيّ الماديّ و/أو المعنويّ للمسير؛ نهاية مسار اللجوء والارتحال.
ومثلما نجد عدم فهم عند القارئ الأورو-أميركيّ للزّمان غير الأورو-أميركيّ، نجد مثيل ذلك عندما يتعلّق الأمر بالمكان. فمخيّم اللجوء، بفهمنا العضويّ-التاريخيّ-المُمَارس، هو مساحة غير محدّدة، مؤقّتة، وسائلة، وتعكس في الواقع مساحةً لامكانيّةً أو فضاءً لامكانيًّا (a non-place space)[5] لا يمكن امتلاكه والانتماء إليه أو الاستقرار فيه، وإن طال العيش فيه سنينًا وعقودًا، مُشكّلًا حالة تسمّيها صبا عنّاب (في سياق وصفها لسياقٍ آخر مشابه يتعلّق بمدينة عمّان): «المؤقّتيّة الدائمة»؛[6] والمخيّم، بالإضافة لكونه «مساحة انتظار لوصولٍ لا يتحقّق» يتم فيه تطبيع المؤقّت باعتباره حالة دائمة لكنّها غير مضمونة كما تقول أوديتّا بيزينجريلّي،[7] هو أيضًا مجموعة بشريّة متحرّكة، هلاميّة الشكل إذ تزيد وتنقص، تتحرّك في المكان والزمان، قد تستقرّ حينًا، وتنتقل حينًا، وقد يمارس أعضاؤها أمورًا تشي بالاستقرار، لكنّها لا تؤكّده، مثل تربية الدّجاج مثلًا، أو تكوين الصّداقات العميقة، أو استبدال الخيم بإنشاءات أكثر ديمومة مثل البركسات أو المباني الإسمنتيّة؛ وتتحرّك هذه المجموعة في الحجم والمكوّنات، إذ قد يغادرها البعض، وينضمّ إليها البعض، وهكذا، وبينما يُعتبر هذا المُؤقت المستمرّ الذي لا يقين فيه آليّة من آليات التحكّم السلطويّ،[8] إلا أنني أراه أيضًا منبعًا من منابع تحدّي السلطة والاصطدام معها في اللحظات الحاسمة، فالمؤقّت هو ليس الحالة الدائمة، أو الهدف، رغم كلّ شيء.
هكذا تصبح الأبعاد والمسافات الفاصلة، والوجود نفسه، مشوّشًا، وهذا التشوّش، وفقدان التركيز، يطبع المشهد بعناصره جميعها، فلا نعود نعرف بالضبط والتحديد إن كنّا في هذا الزمان أو ذاك، هذا المكان أو ذاك، أو إن كان صاحب الفعل هو هذه الشخصيّة أو تلك، أو إن كان الحدث نفسه قد وقع بالفعل أو أن الشخصيّة تخيّلته أو تمنّت وقوعه.
لا يستطيع التصوّر الأورو-أميركيّ أن يفهم حالة وجوديّة معلّقة ومطوّلة ومشوّشة من هذا النوع، لا خطوط كهرباء فيها، ولا تمديدات للماء، ولا بيوت ثابتة أو راسخة في الأرض والزمان والمكان لا تتحرّك هي الأخرى، وإن ثبتت فهي عالقة، تنتظر قَدَرًا سياسيًّا أكبر منها يدفعها، أو يسمح لها بالمرور، إلى المرحلة التالية. وعلى العكس من ألعاب الفيديو التي تُحدّد فيها مهارة اللاعب إمكانية عبور المراحل، ينتظر مخيّم/مجتمع اللجوء محصّلات قوى تتفاعل على مستويات أكثر تعقيدًا، لا تتضمنّهم بأيّ حال من الأحوال، حتى عندما ينفجرون ويحتجّون،[9] فالمؤقّت حالة تضمّ الطرفين، المُقيم ومحلّ المُقام، وهذا الأخير يمكن سحب امتيازاته وإعادة المُقيم المؤقّت بعد التركيز على وضعيّته تلك والإضاءة عليها والشحن ضدّها.
الانحشار، والبُعد والمسافات الفاصلة، والجماعة المُتضامنة أمام الفرد المُطلق
يحيلنا هذا إلى اختلافات ثلاثة أخرى في التصوّر، أوّلها يتعلّق بالجماعيّة في جنوب العالم، يُعلي من شأن التكافل والتضامن والتعاون، ويرى الفرد جزءًا صغيرًا من مجتمع يُشكّله ويتفاعل معه ويحميه،[10] لا كائنًا مُطلقًا مُنبَتًّا يتشكّل خارج/فوق المجتمع ويتناقض معه ويحتاج حماية منه كما في المفهوم الأورو-أميركيّ وتعريفه لحقوق الإنسان باعتبارها معازل لفصل أفراد المجتمع وحمايتهم من بعضهم البعض في دوائر حدودية تتعرّف بالانفصال لا بالتداخل، إذ تنتهي حريّة الفرد عندما تبدأ حدود الأفراد الآخرين. لذلك كثيرًا ما يتحدّث الفرد داخل (وخارج) النصّ الأدبيّ المكتوب في جنوب العالم بصيغة «النّحن»، وكثيرًا ما يتحرّك ماديًّا ومعنويًّا، فعليًّا أو رمزيًّا، بهذه الصيغة، وفي أحيان، تكون هذه الـ«نحن» جمعيّة على اتّساع، كليّة، قد لا تكون متعلّقة بمجموعة بعينها أو بواقعة محدّدة، بل بـ«نحن المرتحلين» أو بـ«نحن المُضطهدين» أو بـ«نحن المظلومين» في العموم، ينضم إليها الفرد كي لا يكون عاريًا من مجتمع ما، واقفًا وحده بلا سندٍ أمام القوى الغاشمة التي تتحكّم بمصيره.
والثاني هو تصّور لمفهوم «البُعد»، أو المسافة الفاصلة، إذ بينما سيُحسّ القارئ الأورو-أميركيّ بالارتباك أمام السّيولة وعدم التحديد المُستحكِمَين في هذا التصوّر الذي يحمل معاني نفسيّة ومعنويّة متعدّدة ومُركّبة، لا ماديّة فقط، يأتي الأمر طبيعيًّا جدًّا ومألوفًا للقارئ من جنوب العالم إذ خبر هذا البُعد مرارًا: البُعد عن الأهل، البُعد عن المكان الذي أتى منه، البُعد عن المكان الذاهب إليه، البُعد عن المحيطين به والذين (وإن شاركوه تجربة البُعد والارتحال واللجوء) إلا أنهم قادمون من خلفيّات أخرى، بُعد آخر، يضاف إلى كلّ ذلك: البعد باعتباره ترجمة مشاعريّة-مفاهيميّة-ماديّة للحواجز والعوائق في الطريق: البحر، الحدود، التأشيرات، توفّر المال، ما يؤدّي بمفهوم «البُعد» إلى ما هو أهم من كلّ ذلك: الأحلام والآمال التي تبدو، من ذلك الموقع السائل المتقلّب غير المحدّد ولا المضمون، بعيدة جدًّا.
والثالث ثيمة وجدتها تتردّد وتمرّ وتُقرأ دون كثير عناء في العربيّة، بينما عانى من تصوّرها المحرّرون بالإنجليزيّة، وأحيانًا: المترجمون، هي «أن تكون عالقًا»، محشورًا، غير قادر على التحرّك إلى الأمام أو التقهقهر إلى الخلف، في المكان والزمان. من أبرز الأعمال الفنيّة المعروفة التي تتكثّف فيها هذه الفكرة فيلم «الحدود» الذي كتب نصه محمد الماغوط وأخرجه دريد لحّام، وتتمثّل في ظواهر حادّة أخرى مثل «البدون» في الكويت، أو الغزّيّون في مخيّم غزّة في الأردن، أو حقيقة أن أغلبيّة حاملي جواز سفر دول جنوب العالم لا يمكنهم السّفر والتحرّك بسهولة إلى خارج بلدانهم، والعمل فيه، لدواعي ماليّة من جهة، ولكن، الأهم، أن الدول الأخرى تضع قيودًا على سفرهم وتشغيلهم وتأهيلهم العلميّ: وثائق كثيرة وكشوفات حساب بنكيّة ودعوات ونماذج للتعبئة وفترات انتظار تمتدّ لأشهر للحصول على تأشيرة يُرفض إعطاؤها في كثير من الأحيان، وامتحانات وإجراءات تسجيل معقّدة، بعكس حامل جواز السفر الأورو-أميركي الذي يستطيع أن يضع نفسه في أيّ لحظة داخل طائرة ويسافر (خصوصًا مع انتشار خطوط الطيران منخفضة التكلفة)، ويدخل البلدان معزّزًا مكرّمًا دون تأشيرة، أو بتأشيرة يحصل عليها فور وصوله المطار، بل ويستطيع العمل أيضًا دون كثير تعقيد. كيف يمكن لهذا الأخير أن «يتصوّر» فكرة الانحشار في المكان وعدم القدرة على الحركة؟
يساهم هذا الاحساس بالانحشار والعُلُوق المُطوّليّن، خصوصًا لشخص يريد الرّحيل أو الانتقال عبر حواجز صعبة ومميتة (كالبحر الأبيض المتوسّط)، بسيولة الزمان والمكان وتشوّش ترتيب الأحداث والرؤية والمنظور، فالجسد عالق في مكان، والعقل في مكانٍ آخر؛ الماضي والحاضر في مكان، والمستقبل المأمول في مكانٍ آخر؛ والمكان الأوّل لا يطيقه الشّخصُ ولا أمل له فيه، والمكان الثاني لا يطيق الشّخصَ ولا يريد تواجده فيه.
تقريب الفهم باعتباره لامبالاة مزمنة بوجودٍ ليس أورو-أمريكيًّا
عدم فهم مفهوم مركزيّ مثل «الانحشار»، يدلّ أيضًا على لا مبالاة تتعّق بمصير العالقين من جنوب العالم وفيه، فصيرورات حياتهم ليست بذات أهميّة، هم ليسوا أورو-أميركيّين، والأحداث التي حدثت، وتحدث، ويمكن أن تحدث لهم، هي جزءٌ من ذلك العالم الحيوانيّ-الغابيّ-المتوحّش الذي له (لا)قيمًا و(لا)قوانين أخرى تختلف عن «القيم الأورو-أميركيّة» وقوانين «الوجود المتحضّر» وتتباين معها، إذ تتعلّق بالبقاء الفجّ وصراعه في الطبيعة، وحيث البحر المتوسّط، أو الحدود الشماليّة للمكسيك، أو تركيّا، هي الحدّ الفاصل بين ضفّتين: ضفّة الحضارة والرقيّ الإنسانيّ، وضفّة الهمجيّة والوحشيّة الحيوانيّة، وعلى الأسيجة الماديّة والمعنويّة أن ترتفع لصدّ الهجرات والتنقلات والمرور من تلك الضفّة إلى هذه، وردع التوحّش عن التسلّل إلى الحضارة، حتى ولو كان هذا التسلّل من خلال الأدب، فتكون إساة الفهم، أو عدم الرغبة في الفهم أصلًا ومن ثمّ إعادة الصياغة والتأطير، هي الحاجز الصادّ للمرور.
«تأخذ الترجمة دور السكّين الحادّة من جهتيها؛ فهي إمّا أداةٌ لإخضاع المنظورات وتكييفها بما يتناسب ومقاييس المركزانية الأورو-أميركيّة، أو أنّها أداة لتحديّ النسق هذا من داخله، وإبراز تلك المنظورات».
في قصّة دارت حول بعض تفاصيلها أسئلة عدم الفهم، يُنقل مهاجرون إلى مخيّم مؤقت في مدينة الزاوية الليبيّة ليتم تهريبهم إلى أوروبّا. ثمّة حارس في المخيّم، وقسم للرجال وآخر للنساء، وحديثٌ بين المهرّبين عن حيوانات وضفادع وإطلاق نار. لم يخطر في بال المحرّر الأورو-أميركيّ أن الحيوانات مدار الحديث هم اللاجئون أنفسهم، وأن الحارس موجود لا لشيء إلا لإطلاق النار على هذه الحيوانات البشريّة التي قد تحتجّ أو تشاغب أو تهرب، وأن المخيّم المؤقّت نفسه هو معتقل مُصغّر يَعتقل فيه المهرّبون زبائنهم/بضاعتهم في ظروف بالغة الفظاعة إلى أن تحلّ ساعة المغادرة.
في الفهم الأورو-أميركيّ، ثمة إحالة في رحلة الهجرة واللجوء عبر التّهريب إلى مفهوم «الخدمة مدفوعة الثمن»، حيث المهرّبون مقدّمو خدمة يسهرون على راحة زبائنهم، ويوفّرون لهم الحماية والنقل والمسكن الملائم إلى حين إيصالهم إلى أرض الميعاد الأوروبيّة، بينما ببحث بسيط، أو متابعة لأخبار اللاجئين إلى بلدانهم، سيعرفون أن الزبائن هنا هم أسرى مقدّمي الخدمة، وأن مستوى الخدمة ليس متدنيًّا فقط، بل مقلوبٌ رأسًا على عقب. يفهم القارئ العربيّ، أو قارئ جنوب العالم، ودون كثير عناء وشرح، تجربة الهجرة كتجربة مأساويّة تتعلّق بالموت وفظاعات أخرى مرافقة، قد تصل إلى الاختطاف والتعذيب والاغتصاب والقتل، في جرائم تساهم أوروبّا نفسها في صناعتها وازدهارها وانتشارها عبر «تصعيب الطريق»، وتحفيز بلدان العبور على القيام بدور الشرطيّ الوكيل البديل عنها، لكن القارئ الأورو-أميركي سيسيء الفهم ويستغرب الموضوع فيعيد تركيب الوقائع نتيجة لخللٍ في التصوّر، مصدره الرّاحة والاسترخاء، وعدم المتابعة واللامبالاة، والرّكون إلى كونيّة مُتخيّلة ومُطَمْئِنة للقيم الليبراليّة.
خاتمة: الحيوانيّة معكوسةً، والترجمة كمساحة لتثبيت المنظورات «الأخرى»
من المستغرب، ولكن المفهوم، أن تتصادى فكرة «الحيوانيّة» في كثير من نصوص كتّاب جنوب العالم، خاصّة وأن المجموعات الحاكمة في الكيانات السياسية ما بعد الاستعماريّة استعارت هذه «الحيونة» لتستخدمها ضد معارضيها أو ضد المجموعات الاجتماعية أو السياسيّة التي لا تستجيب لرغباتها ونزواتها.
أحيانًا، ومن خلال تبنّي المفهوم نفسه (الانتماء للطبيعة ونسبة النّفس إليها)، يقدّم كتّاب جنوب العالم منظورًا وجوديًّا نقيضًا لاستعلاء الحداثة الأورو-أميركيّة على الطبيعة وحيواناتها البشريّة، في إشارة لوجودهم الأسبق الذي دمّرته تلك الحداثة، أو ما زالت تسعى لتدميره بواسطة الاستعمار والإرهاب والقتل والإخضاع والابتزاز: أدوات «الحضارة» الأورو-أميركيّة المفضّلة عبر تاريخ الإبادة الذي لم ينتهِ بعد، وآخر ضحاياه غزّة.
تبرز كتابة جنوب العالم والمستعمَرين السابقين كأداة أساسيّة من أدوات صياغة المنظورات غير المندرجة في سياق العلبة الأورو-أميركية التي يجب أن يُحشر فيها كلّ شيء ليصبح مقبولًا، من معايير الجمال إلى شكل الاستهلاك ونوعيّته وصولًا إلى طريقة وصف وتنظيم الوجود بعناصره المركزيّة: الزمان والمكان والحدث. أما الترجمة، فتأخذ دور السكّين الحادّة من جهتيها: هي إمّا أداةٌ لإخضاع هذه المنظورات وتكييفها بما يتناسب ومقاييس المركزانية الأورو-أميركيّة، أو أنّها أداة لتحديّ النسق هذا من داخله، وإبراز تلك المنظورات. يبقى أن أقول إن المنظورات وأشكال الفهم أو تحديد الواضح والغريب والشاذّ تعمل على مستويات عميقة ولا واعية، وتبرز بشكل «تلقائيّ» و«بديهيّ» وبشكل شبه أتوماتيكيّ دون تفكير، أو بتدخل مباشر من الناشر الذي لم يفهم ولم يستوعب، ومن هنا يأتي دور محرّر الترجمة (غير الموجود فعليًّا) ليلتقط مثل هذه الاختلالات العميقة التي تحوّل الترجمة من فعل تعرّف، إلى فعل نفي، ومن فعل فهم، إلى فعل إخضاع.
هذه المقالة هي التقديم العربي لملفّ «قصص بالعربيّة من إفريقية غير العربيّة: التشاد، إريتريا، جنوب السودان»، الثامن من ضمن الملفّات التي يُعدّها ويشرف عليها كاتب هذه المقالة سنويًّا منذ عام 2016، لتقديم الإبداعات العربيّة ذات السويّة الفنيّة الرفيعة البعيدة عن السّائد والرّائج والدّارج والمبتذل والمُعقّم والاستشراقي، مترجمة إلى الإنجليزية على يد فريق من أفضل المترجمين الأدبيين، في مجلة «ذي كومون» الأدبيّة التي تصدر من جامعة آمهيرست في الولايات المتّحدة.
-
الهوامش
[1] Antony Anghie, Imperialism, Sovereignty and the Making of International Law (Cambridge University Press, 2007).
[2] أمثلة على اللّامعقول المعقول: قصف صدّام حسين لـ«إسرائيل» بالصواريخ عام 1991، وهجوم حماس على «إسرائيل» يوم 7 أكتوبر 2023، ومجزرة «إسرائيل» الأخيرة في غزّة، ورد فعل الحكومات عربيًّا ودوليًّا عليها.
[3] آخرها المشاهد المؤلمة داخل مساحةٍ لا تتعدّى الـ365 كلم مربّع لمئات آلاف الغزّيين المَقتولين والمُصابين والمُجوّعين والمُرحّلين والمهجّرين عدّة مرّات من قبل المستعمرة الأورو-أميركيّة في منطقتنا المسمّاة: «إسرائيل».
[4] مثلًا: يتطلّب الأمر تقريرًا موسّعًا مثل هذا في موقع سي إن إن، لشرح الفكرة البسيطة، المفهومة ضمنًا في سياق عربيّ-فلسطينيّ، المتعلّقة بعدم وجود ملاجئ ضد القنابل يلجأ إليها الناس في غزّة أثناء القصف.
[5] بحسب تعريف مارك أوجي، «اللامكان» هو مساحات يَعبرها الأفراد ويبقون مجهولين فيها ولا يشكّلون روابط معها كالمطارات ومحطات القطارات وغرف الفنادق. أنظروا: Marc Augé, Non-Places: An Introduction to Supermodernity (Verso, 2007, 2nd edition)
[6] صبا عنّاب، ««المؤقتيّة الدائمة» في عمّان: هجران وسط المدينة حتى بالعودة إليه»، مجلة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 92، خريف 2012، ص.ص. 142 – 157؛ وقد استخدم هذا المصطلح عدّة مؤلفين وباحثين وفنّانين للإشارة إلى تجربة مخيمات اللجوء الفلسطينية.
[7] Odetta Pizzingrilli and Zaid Awamleh, «Spatial Behavior and Self-perception in a State of Permanent Temporariness: The Gazan Refugees in Jordan and the bidūn in Kuwait,» seminar presented on December 13, 2021, in Amman (5:00-7:00 pm CET)
[8] بيزينجريلّي، المرجع السابق.
[9] أتذكّر هنا حادثة قيام لاجئين من دارفور بالاحتجاج أمام مقر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في عمّان، فأقاموا مخيّمًا للاعتصام أمام مقرّها، فما كان من قوى الأمن الأردنية إلا أن نقلت سكّان هذا المخيّم (الاحتجاجيّ) مباشرة منه إلى المطار، ومن هناك تم إرسالهم إلى السودان، المكان الذي لجؤوا منه أساسًا، على مرأى ومسمع من المفوضيّة «السّامية» بالذات، ما أدى إلى تشتّت وتفرّق الكثير من العائلات، أزواجًا وزوجات، آباءً وأبناء، بحكم تواجد البعض في المخيّم الاحتجاجيّ، وتواجد البعض الآخر خارجه. للمزيد عن الحادثة، انظروا هذا التقرير المصوّر: دانة جبريل، «ما بعد الترحيل: كيف ترك الأردن لاجئين سودانيين للموت والشتات»، حبر، 17 آب 2017.
[10] في هذا السياق، انظروا كتاب: (Gish Jen, Tiger Writing: Art, Culture, and the Interdependent Self (Harvard