بحسب الرواية الرائجة فإن الصدفة وحدها ما يقف وراء كتابة وتلحين أوبريت «الليلة الكبيرة»، وذلك عندما زار الشاعر صلاح جاهين منزل صديقه المطرب والملحن سيّد مكّاوي في حي السيدة القاهريّ، وتزامنت الزيارة مع إحياء ذكرى مولد السيدة زينب، فدوّن جاهين بوحيٍ من الاحتفالية شيئًا من خواطره، ولحّنها مكاوي، قبل أن يذهبا سويًا إلى الإذاعة لتسجيل أغنية طولها عشر دقائق ستذاع أول مرة عام 1958. ولعلّ النسيان كان ليطوي هذا الأوبريت الإذاعي القصير لولا أن الفنان التشكيلي ومصمم العرائس، ناجي شاكر، استدعى كاتبه وملحنه بعد إذاعته بعامين من أجل تحويله إلى مسرحية للعرائس مدتها أربعون دقيقة تقريبًا عرضت للمرة الأولى عام 1960.
مرّت ستة عقود على إنتاج «الليلة الكبيرة»، ظلّ خلالها أوبريت العرائس الأشهر والأكثر جماهيرية، وصار واحدًا من الكلاسيكيات المسرحية في مصر والعالم العربي. فبالإضافة إلى النسخة التلفزيونية منها التي أخرجها محمود بيومي، وتم تلوينها في الثمانينيات، وظلّت تعرض دوريًا في التلفزيونات العربية لتشكّل جزءًا لا يمحى من ذاكرة وخيال أجيال متتالية من الأطفال، فقد أعيد إنتاج الليلة الكبيرة عدة مرات في قوالب فنية متنوعة منذ مطلع الألفية، من ذلك مثلًا تقديم الأوبرا المصرية عام 2001 عرضًا للباليه مُستلهمًا من الأوبريت الأصلي، وتقديم فرقة «فابريكا» المسرحية الغنائية نسخة من العرض بممثلين بدلًا من العرائس، وكانت قد أعلنت «جيرافيكس ستوديو» المصرية العام الماضي عن تحويل الأوبريت إلى فيلم رسوم متحركة ستطلقه عام 2022.
لكن، ما السر وراء هذا النجاح الكبير للأوبريت وجماهيريته العابرة للأجيال؟ يدفعنا هذا السؤال إلى محاولة فهم سياق إنتاج العرض، وما سبقه من تأسيس أول فرقة لمسرح العرائس في مصر بين عامي 1957 و1958، والأفكار التي دارت في أذهان مبدعي «الليلة الكبيرة» وجمهورها آنذاك، والأيديولوجيا التي ألهمت أجهزة الدولة الناصرية القائمة على إنتاج العرض وتمويله، وطرق تأطيرها لأدوار العروسة المسرحية ومفاهيم الطفولة، وعلاقة كل هذا بالمجتمع.
وقبل التطرّق للنقاط السابقة، ينبغي تقديم وصفٍ موجزٍ للأوبريت في حال لم تواتِ القارئ فرصة مشاهدته. لا تستعين «الليلة الكبيرة» بأي حبكة درامية، إنما تسير المسرحية في مسار خطّي، أو ربما دائري حيث ينتهي العرض إلى النقطة التي بدأ منها، في أجواء الليلة الختامية لمولد أحد الأولياء غير محدد الاسم، مستعرضةً أنماطًا شعبية للشخصيات من باعة جائلين ينادون على بضائعهم (الحمص والسمك المشوي والطراطير)، إلى فنّاني الاستعراضات وألعاب الترفيه؛ كالراقصة ومروّض الأسود والأراجوز والمنشد والنيشان بالبندقية.
ولا يتجاوز مشهد الشخصية الواحدة أكثر من دقيقةٍ أو اثنتين، فيقتصر دور بعضها على النداء على بضاعته، أو تجري حوارًا غنائيًا قصيرًا جدًا مع شخصية أخرى، فيما تتنوع موسيقى مقاطع الأوبريت لتناسب كل شخصية وتتوزّع على طيف واسع من النماذج الممثلة لأصناف موسيقية أو مناطق جغرافية؛ ففيها إيقاعات الذكر وموسيقى المزمار الصعيدي والإنشاد الإسلامي وقالب الأغنية الإذاعية المصرية ومزيكا حسب الله وغيرها. هكذا يبدو الأوبريت كتالوجًا كرنفاليًا لكل ما هو فلكلوري وحديث، منتميًا إلى عالم المولد واحتفالات الشارع والحياة اليومية للطبقات الشعبية المصرية، وبنصٍ خفيف الظل وساخرٍ مع مفردات وإيقاعات مألوفة وسوقية حميمة.
طفولة حديثة وخبيرات رومانيات
لن تضرب ابنك بعد الآن.. ولن يضيع وقتك وأنت تحاول إقناعه بأن الكذب حرام.. ولن تهرش رأسك وأنت تبحث عن أجوبة لعشرات الأسئلة الغريبة التي يوجهها إليك في مراحل حياته المختلفة: من أين جئنا؟ وأين سنذهب؟ ما شكل الجنة؟ ومن الذي سيدخل النار؟ إذا أردت أن تتهرب من كل هذه المآزق التي سيضعك فيها طفلك الصغير فعليك بإرساله إلى مسرح العرائس.
الاقتباس أعلاه من مقالٍ منشور في جريدة الأخبار المصرية في مارس 1959 بمناسبة افتتاح أول مسرحية لفرقة العرائس في الإقليم الجنوبي للجمهورية العربية المتحدة (التسمية الرسمية لمصر إبان الوحدة مع سوريا). تحمل هذه الفقرة القصيرة سلسلةً من الافتراضات حول دور مسرح العرائس، فالنصّ الدعائي موجه إلى البالغين، لا الأطفال، وإلى رب الأسرة بصيغة المذكر بالطبع، وهو يؤطّر الطفولة باعتبارها معضلةً أو «مأزقًا» مستمرًا على طول المراحل المختلفة من حياة الطفل. على هذه الخلفية، تتدخل الدولة بشكل حاسمٍ وعمليّ، بالنيابة عن الأسرة النووية ولصالحها، وأداتها المستحدثة في ذلك هي مسرح العرائس.
في هذا السياق، لا تقدّم العرائس ترفيهًا أو تسلية، بل واحدة من أدوات الدولة للتدخل في الحيز الخاص للأسرة، ووسيلة حديثة للتربية وضبط الطفولة تجُبّ ما قبلها من وسائل التأديب التقليدية والرجعية التي عفا عليها الزمن كالضرب، وتعمل على غرس القيم الأخلاقية وإجابة الأسئلة الروحية والوجودية عن الحياة والموت. هكذا يبدو مسرح العرائس التابع لوزارة «الثقافة والإرشاد القومي» مؤسسة بيروقراطية يتقاطع نطاق تخصّصها مع المؤسسة الدينية، إلى جانب مؤسسة الأسرة والمدرسة.
الجدير بالذكر، أن العرض العرائسي الأول للفرقة، التي تأسست بناء على أوامر شفهية من الرئيس جمال عبد الناصر عام 1958 (أو قبل ذلك بعامٍ بحسب بعض المصادر)، كان يحمل عنوان «الشاطر حسن»، وهو من تأليف صلاح جاهين، وألحان علي إسماعيل، فيما صممت العرائس خبيرتان رومانيّتان هما دورينا تانسيسكو ويوانا كونستانتينسكو، اللتان استقدمتهما الحكومة المصرية بعد عرض لفرقة العرائس الرومانية «ساندريكا» في القاهرة كان حضره عبد الناصر قبل عامٍ. صمّمت الخبيرتان العرائس بناء على دراستهما للحياة الشعبية في القاهرة، وكانت إحداهما التقت بالمطرب عبد المطلب، وبحسب تصريحات صحفية فقد أعجبها ملبسه والطربوش على رأسه وحركاته أثناء الغناء، فسجّلت حركاته وصوته ثم صمّمت عروسةً تشبهه. تكوّن العرض من أربعة فصول يمثّل فيها الشاطر حسن الرجل المصري، مع خليط من حكايات أمّنا الغولة والجن الأزرق وأبو رجل مسلوخة والعفريت الأحمر وجنية البحر، وأضيفَ إلى التراثيّ ما هو حداثي ممثلًا في شخصية الرجل الميكانيكي، لتكون الرسالة أن كل هذه الكائنات والقوى تخضع للإنسان، ما يعني ألّا يخشاهم الأطفال.
هكذا، بدا استلهام التراثيّ والغيبيّ والخرافي موظفًا لإلغاء نفسه ولترسيخ فهم عقلاني وإنساني للعالم. عُرض كل هذا على خلفية من جداريّات فرعونية وصورٍ من الريف المصري وتمثال للكاتب المصري الشهير، لربط عظمة الماضي بالحاضر، وفي تصوّرات لا تبعد كثيرًا عن المخيلة الاستشراقية الرائجة التي وجدت نسختها المحلية في «الفرعونية الجديدة» منذ مطلع القرن العشرين. أما موسيقيًا، فيمرّ الشاطر حسن مع حماره على محطاتٍ غنائية وراقصة تخلط بين الشعبي المحلي من جهة، كفقرة الرقص الشرقي وغناء عبد المطلب، والعالمي -الغربي- من جهة أخرى مثمثلًا في عرض «باليه البجع» ومقاطع من موسيقى الجاز. ولا يصعب ملاحظة التشابه بين هذا العرض والليلة الكبيرة في ما يخص البنية المسرحية وعناصرها الفلكلورية.
كانت الأبعاد الأيديولوجية لجماليات العرض متوافقة مع الواقعية الاشتراكية، وركّزت على الفلكلور بوصفه روح الشعب.
ولم يقتصر دور الخبيرات الرومانيات على تصميم العرض الأول لمسرح العرائس المصري، بل درّبتا أيضًا 50 طالبا مصريًا على مختلف المهارات العرائسية من تصميم العرائس إلى تحريكها، فضلًا عن العمل الأنثروبولوجي والبحث التراثي المتعلق بدراسة الشخصيات وإنتاج العرض. وكان ناجي شاكر، الذي سيصمّم عرائس الليلة الكبيرة، أحد الطلبة الأوائل هؤلاء. وسيظهر التأثير الروماني بوضوح أكثر في الموسم الثاني لمسرح العرائس، ففي عام 1960 أنتجت الفرقة، بوجود خبيرتين جديدتين هما أوجيني بوبوفيتش وميوارا بوسكو، مسرحيتين جديدتين؛ الأولى «بنت السلطان» من تأليف بيرم التونسي وصلاح جاهين وألحان علي فراج، والثانية «الديك العجيب» من الأدب الروماني لمؤلفها إيوان كربانجا، وتمصير بيرم التونسي، والموسيقى التصويرية للروماني جول أورموزسكو، فيما أخرجها الخبيرتان الرومانيتان.
ويسهل تصوّر الأبعاد الأيديولوجية للجماليات والتقنيات التي وظّفتها الخبيرات الرومانيات، حيث جاءت متوافقة مع الأيديولوجيا الرسمية للإنتاج الثقافي لدول الكتلة الشرقية وواقعيته الاشتراكية، والتي وإن لم تكن متطابقة في كل البلدان الشيوعية، لكنها تشاركت بعض السمات من بينها التركيز على الفلكلوري توثيقًا ومعالجة فنية بوصفه روح الشعب، وكذلك توظيف التراث الفلكلوري في فنون «من أجل المجتمع»، لتوصيل رسالة الحداثة والاشتراكية الأممية ومناهضة الاستعمار، وفرز الرجعي والتقليدي في التراث، وقد توافقت تلك المبادئ بشكل كبير مع الخطاب الرسمي الناصري الذي كان في طور التكوّن حينها.
ومن مايو إلى أغسطس في العام نفسه، ستطوف عروض الفرقة بمسرحياتها الأولى مدن الإقليم الشمالي للجمهورية المتحدة، ويرجح أن تكون تلك الزيارة بداية تأسيس فرقة مسرح العرائس السورية أثناء الوحدة.
الناصرية لم تبدأ مع ناصر
بدأت في العقدين الماضيين عملية واسعة لمراجعة تاريخ الفترة الناصرية، ومن نتائج تلك المراجعات إعادة الاعتبار للحراك الوطني في النصف الأول من القرن العشرين، فقد نُسب إلى دولة ناصر الاشتراكية ما ثبت أنه بدأ قبل ثورة يوليو، أو على الأقل ترسّخ بشكل مطلبي قبلها بعقود خلال فترة الديمقراطية النيابية، ومن ذلك مطالب التعليم المجاني والدبلوماسية الثقافية في الأقطار العربية لمناهضة الاستعمار، بل حتى الإصلاح الزراعي وسياسات تمصير الوظائف.
في كتابه «مسرح العرائس في مصر» الصادر العام الماضي، يقدم المؤرخ المسرحيّ الدكتور سيد علي إسماعيل مراجعة مفصلة لنشأة مسرح العرائس، رافضًا الرواية المعتمدة التي تُرجع نشأته إلى زيارة فرقة العرائس الرومانية «ساندريكا» عام 1958، ثم قدوم الخبيرات الرومانيات إلى مصر. ففي واحدة من الإشارات الأولى التي يقدمها الكتاب عن استعراضات العرائس في إطار مؤسسات الدولة، أعلنت جريدة الوقائع المصرية (جريدة الدولة الرسمية) في مارس 1869 وعلى صفحة كاملة عن عروض فنية ستقدم في السيرك، ومكانها خلف الأوبرا الخديوية، متضمنة فرق المسرح المحلي والأجنبي («ألعاب تقليد تياترو»، «جاكمو: نوع تياترو أفرنجي»)، إضافة إلى عرض للأراجوز وخيال الظل («قرة كوز: وهو خيال الظل يلعب ألعاب مضحكات»).
أما الإشارة الأخرى التي يقدمها إسماعيل في كتابه، وهي شديدة الصلة بموضوعنا لأنها تتعلق بعروض الأراجوز في الموالد، فهي الوثيقة المؤرخة في يناير 1904 والتي تنص على التالي: «تصريح لفتح محل عمومي وقتي [أي مؤقت] لعلي السيد علي، وصناعته صاحب محل قره قوش، بمولد سيدي عبيد بقرية العكريشة». تقدم هذه الرخصة الحكومية دليلًا على المحاولات المبكرة للدولة المصرية لبقْرطة وتقنين فنون العرائس في الفضاء العام، وعلى مستوى دقيق يتعلق بمولد هامشيّ في قرية صغيرة، والأهم أنها تكشف عن عملية تقنين وضبط المولد نفسه إداريًا.
ويفرد الكتاب قسمًا معتبرًا من فصوله لفرَق العرائس الأجنبية التي زارت مصر نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومن بينها: فرقة هولدن الأمريكية (1890 و1897)، وفرقة إخوان براندي الإيطالية (1897)، والجوق السيموغرافي وهو إيطالي أيضًا (1899)، وفرقة الجراند جينول الفرنسية (1929)، وفرقة بتشولي الإيطالية (1931). ومن الواضح أن تلك الزيارات اكتسبت أهمية خاصة فالخديوي قد حضر أولها بنفسه، أما الإشارة لها في الصحافة المصرية فتراوحت بين وصفها بـ«المساخيط الخشبية» و«تماثيل الفنطوش» إلى تسميات تربطها بالحداثة التقنية كـ«الأراكواز الميكانيكي» و«ألعاب عرائس ميكانيكية»، وانبرت بعض المقالات في شرح دقة حركتها و«سر» عملها الذي «يقترب من المعجزات»، في تأكيد على عناصر «الصنعة» و«المزاولة» و«المهارة» في تصميم تلك العرائس وتحريكها.
وفي مارس 1940 تظهر أول إشارة إلى توظيف فنون العرائس في المؤسسات التعليمية الرسمية، أي قبل أكثر من عقد على ثورة يوليو، وذلك عندما أقنع الفنان العرائسي باسم علي شكري وزارةَ المعارف بإنشاء «قلم [إدارة] للأراجوز»، ليكون الموظف الوحيد فيها ويطلق على نفسه صفة «مفتش الأراجوز»، مقدمًا عروض عرائس القفاز في المدارس بطول القطر المصري وعرضه. وتشي عناوين المسرحيات التي قدمها بمضمونها السياسي؛ «الجلاء»، و«فرحة الأخوين» عن وحدة مصر والسودان، و«دعوة للاتحاد» عن التآخي بين المسلمين والأقباط، و«يا احنا يا همّا» عن مناهضة الاستعمار مرة أخرى. وقد استمر عمل القلم لأكثر من عقد حتى وفاة مفتّشه عام 1953، أي بعد عام واحد من صعود الضباط الأحرار إلى الحكم.
عرائسنا في بوخارست
في نوفمبر 1957 أعدّت سفارة تشيكوسلوفاكيا في القاهرة عشر عرائس من الكاوتشوك والماريونيت بناء على طلب الحكومة المصرية، لتشكيل أول فرقة للعرائس المصرية (تثبت هذه القصة إن فكرة تأسيس الفرقة كانت سابقة على زيارة الفرقة الرومانية في العام التالي). وقد كانت العلاقة المصرية التشيكية فريدة من نوعها، ففي العام 1955 اعتمدت الحكومة المصرية على وساطة براغ لشراء صفقة من الأسلحة السوفييتية في ما عرف حينها بأزمة «الأسلحة التشيكية» التي أثرت بشكل جذري على توازنات الحرب الباردة والصراع العربي الإسرائيلي، وعجّلت من تقارب القاهرة مع المعسكر الشرقي بشكل علني. لكن بعد عام واحد من العدوان الثلاثي عام 1956 لجأت القاهرة مرة أخرى للتشيكيين، لكن لاستجلاب عرائس مسرح -لا أسلحة- هذه المرة.
يؤكد ما سبق أنه كان للمصريين مطلع الستينيات احتكاكٌ مباشر وخبرة طويلة في مسرح العرائس، لا بوصفه مجرد تسلية بل كأحد المنتجات التقنية للحداثة الغربية، وباعتباره أداةً للتربية والتعليم الأخلاقي للنشء في مجتمع حديث، وساحةً لعمليات الضبط والتنظيم البيروقراطي للدولة، وإحدى أولويات الأجندة السياسية الخارجية والدبلوماسية الثقافية النشطة. وعلى هذا الأساس سيرى أوبريت «الليلة الكبيرة» النور كأول عمل مسرحيّ عرائسيّ عربي يكتسب صفة العالمية.
بعد انتهاء الموسم الثاني لـ«مسرح القاهرة للعرائس»، أعلنت الصحف المصرية عن مشاركة الفرقة في المهرجان الدولي الثاني لمسرح العرائس في بوخارست، في سبتمبر 1960، مع 27 دولة أخرى بينها الهند واليابان والاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية. كان الهدف من المشاركة في المهرجان، الذي يقام مرة كل خمس سنوات، هو الاحتكاك والتعلم، وقد انتقت الحكومة المصرية وفدًا من 18 فنانًا من مختلف التخصصات في الفرقة لمشاهدة تدريبات وعروض الوفود المشاركة والاطلاع على آخر التقنيات والجماليات في المجال. ويبدو أن المشاركة المصرية في المهرجان كانت حدثا هامًا تعامل معه الجميع بجدية، فقد كانت تلك المرة الأولى التي سيحرّك فيها فنانون عرب عرائسهم في الخارج أمام جمهور من جنسيات مختلفة. وأخذت تلك الجدية أبعادًا دبلوماسية، إذ سافر السفير الروماني في القاهرة إلى بوخارست للإعداد لوصول الفرقة واستقبالها في بلاده.
كانت «الليلة الكبيرة» تلخيصًا وتكثيفًا لكل ما يمكن أن تعنيه مصر الناصرية وإنجازاتها وعلاماتها الفنية البارزة.
وكانت إدارة الفرقة قد أعدّت مسرحية جديدة بعنوان «الليلة الكبيرة» من أجل المشاركة في المهرجان. ورغم أنه لم يكن العمل الأول للفرقة الذي يصمّم عرائسه ناجي شاكر، إلا أنه كان الأول له بدون إِشراف الخبراء الرومانيين؛ أول عمل مصريّ خالص. وإن كان شاكر تأثر بلا شكٍ بجماليات أساتذته من الكتلة الشرقية، لكن أسلوبه الخاص ظهر بشكل أوضح في عرائس الأوبريت الجديد. كان شاكر حينها معيدًا في كلية الفنون الجميلة، وهو أساسًا فنان تشكيلي، وقد اعتمد في تصميم العرائس أسلوبًا تجريديًا يلتزم بالتبسيط والاختزال، كما ركّز على الجماليات التشكيلية أكثر من الأبعاد الدرامية والمسرحية للشخصيات، أو عمليات الإبهار التقنية التي يمكن أن تضمنها حركات ملامح الوجه ومفاصل الجسد وتوافقها المعقد. وهكذا بدت عرائس «الليلة الكبيرة» منحوتاتٍ معاصرةً تنبع جمالياتها من علاقات الكتل والضوء، أما حركتها فكانت شديدة التجريد كذلك، بسيطة في عناصرها ومبالغًا بها في آن واحد، وملامح الوجوه ثابتة فيما كانت حركات الأجساد والفكوك ميكانيكية بشكل متعمد، مثل وجه راقصة «الليلة الكبيرة» حيث لها عينان برموش طويلة لكن مغلقتان، لماذا يصمم شاكر عروسة تغمض عينيها طوال العرض وهي ترقص؟
لم تلقَ عرائس «الليلة الكبيرة» إعجاب مدير الفرقة، فتصميمات شاكر بشكلها هذا لم تعبر عن «الواقع الشعبي للشخصيات» بحسبه. وكانت هذه التهم من افتقاد الواقعية وعدم التجذر في الشعبي كفيلة بإلغاء العرض ومشاركة المسرحية في المهرجان، لذا صدرت الأوامر للفنيين بالتوقف عن تصنيع العرائس. لكن لحسن الحظ تدخّل علي الراعي، الناقد الأدبي ورئيس هيئة الفنون والموسيقى في وزارة الثقافة حينها، وحسم الخلاف لصالح شاكر وتصميماته.
نجاح ساحق قبل العرض
فازت «الليلة الكبيرة» بالجائزة الثانية لمهرجان بوخارست في «تصميم العرائس والمناظر» في ذلك العام، وكان هذا حدثًا مفاجئًا لفرقة شاركت أساسًا من أجل الاحتكاك والاطلاع. وأحدثت الجائزة «ضجة كبيرة» بحسب وصف الصحف المصرية آنذاك، فكيف للفرقة العربية الأولى من نوعها، والتي تأسست قبل عامين فقط، أن تنافس في أهم حدث دولي لمسرح العرائس وتتربع على قمته بين عشرات الفرق ذات التاريخ الطويل في المجال والإمكانات والخبرات المتراكمة؟
حتى وقت الإعلان عن جوائز المهرجان، لم يكن الأوبريت قد عرض أمام جمهور مصري بعد. لكن الاحتفاء بالجائزة كان كاسحًا وضامنًا لنجاحها قبل عرضها على المسرح أمام الجمهور المحلي. اكتسب العرض منذ البداية صبغة العالمية، وتم تناوله كنموذج للفنون العربية الصاعدة، ولمبدعيها القادرين على التفوق على أساتذتهم الأوروبيين في الجماليات والتقنية والحصول على المراتب العليا التي تستحقها شعوب المنطقة في عصر ما بعد الاستعمار، إلى جانب الشعوب الأخرى التي سبقتها على مسار التقدم. كانت «الليلة الكبيرة» تلخيصًا وتكثيفًا لكل ما يمكن أن تعنيه مصر الناصرية وإنجازاتها وعلاماتها الفنية البارزة.
ولعل هذا يبدو كافيًا للإجابة بإيجاز عن الأسئلة التي انطلق منها المقال؛ عن نجاح الأوبريت في زمنه، وعن دوافع منتجيه ومرجعياتهم، وسياقه السياسي والإيديولوجي، لكن ماذا عن نجاحه المتواصل لأجيال تالية رغم تغير السياقات وتبدلها؟
بالطبع يمكن قول الكثير عن جماليات «الليلة الكبيرة»؛ الموسيقى وكلمات الأغاني، وتصميمات العرائس والديكور، وعن خفوت المضمون السياسي لصالح الفنيات، وعن تخلي شاكر بوعيٍ عن الواقعية في تصميماته، إلا أن السبب الرئيسي في ظنّي للوضع الفريد للأوبريت في الذاكرة الجمعية لأجيالٍ من العرب سيبدو -إلى حدّ محبطٍ- بسيطًا أكثر من اللازم، فالليلة الكبيرة كانت العرض العرائسي المسرحي الوحيد الذي عُرض على شاشات التلفزيون العربية بشكل دوريّ مرارًا وتكرارًا على مدى عقود. ماذا لو كنا شاهدنا «الشاطر حسن» و«الديك العجيب» أيضًا؟ ماذا لو عرضت التلفزيونات المسرحيات اللاحقة للفرقة كـ«حمار شهاب الدين» و«مدينة الأحلام» و«قيراط حورية»؟ أو لو خرجت مسرحيات عرائس فرقة شكوكو الخاصة من الأرشيف ومنها مثلا «السندباد البلدي»، أو فيلمه التسجيلي «الأراجوز في المعركة»، هل كانت ستستأثر الليلة الكبيرة بكل تلك المساحة من ذاكرتنا؟ وهل كانت ستظل هي مسرحية العرائس العربية بأل التعريف؟
-
مراجع1. «مسرح العرائس في مصر»، سيد علي إسماعيل، المركز القومي لثقافة الطفل، سلسلة دراسات وبحوث، 2020، القاهرة.
2. «ناجي شاكر: رحلة العطاء والريادة»، نيفين محمد خليل، جريدة مسرحنا، عدد 574، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2008، القاهرة.