تظهر كلمة ألمانيا (DEUTSCHLAND) من بين السحب، وتصل الموسيقى ذروتها كما للإشارة بأن هذه الكلمة أهم من تشيكوسلوفاكيا أو بلغاريا أو غيرها من الكلمات السابقة. يحتل العلم النازي الشاشة ومن ثم تهبط الكاميرا من الأعالي نحو السهول والأنهار، برلين، والملعب: صرح إهليلجي عملاق بصفوف من الأعمدة وعشرات الآلاف ممن اجتمعوا لمشاهدة الألعاب الأولمبية لعام 1936.
لم تعكر شكوك اللجنة الأولمبية صفو الحدث ولا الدعوات الدولية لسحب المشاركات أو تغيير البلد المضيف، رغم العسكرة والعنصرية المتصاعدتين في ألمانيا وما نتج عن ذلك من توتر متصاعد مع دول الجوار. فأدولف هتلر في السلطة منذ ثلاثة أعوام، وكان قد علق آمالًا كبيرة على الحدث وأشرف شخصيًا على بناء الملعب، كما طلب من المخرجة ليني ريفنشتال صناعة فيلمها هذا، «أوليمبيا» (1938)، مستخدمةً أحدث تقنيات عصرها.
كل الدول الإمبريالية لديها فخفختها، مبانيها الضخمة وحشودها وموسيقاها وآلاتها الدعائية، لكن المخيف في أولمبياد 1936، كما في الإيديولوجية النازية عمومًا، كان نجاحها في استخدام تكنولوجيا حديثة جدًا لتدعيم جماليات وقيم رجعية جدًا، ولا مناسبة أفضل من الألعاب الأولمبية بتاريخها الإغريقي القديم. تنزلق الكاميرا على سكك مخصصة لتصور معبد الأكروبوليس في أثينا، ويحول المونتاج تمثال رامي القرص الإغريقي إلى رياضي ألماني أبيض، تقنيات مبتكرة تعبر عن السوية الجديدة التي وصلتها ألعاب عام 1936 في استعراضها للفوقية الآرية التي شرعنت ذاتها مرورًا بالإغريق القدماء، وعن تحقيق النازية، بفضل التكنولوجيا، لتلاحم غير مسبوق بين الجسد البشري والعمارة وعدسة الكاميرا.
مشهد من فيلم «أوليمبيا» (Olympia)، 1938، من إخراج ليني ريفنشتال. المصدر: Cultura na Rua.
كان الملعب البطل الأساسي في تجسيد ذلك التناقض، حيث مزج أحدث تقنيات الخرسانة المسلحة بجماليات كلاسيكية مستوحاة من العمارة الإمبراطورية الرومانية، فجاء بشكله الإهليلجي وصفوف أعمدته تلميحًا علنيًا إلى الكولوسيوم في روما، وإلى طموحات هتلر الإمبريالية، والنتيجة كانت مفهومًا غريبًا عن الوقت والتاريخ. فإن كان الوقت منذ عصر الأنوار وعلمانيته قد قام على أمل صعود مستقيم من الماضي نحو المستقبل مرورًا بالحاضر، فإن النازية قد عبثت بذلك التخيل الحداثي بابتكارها لثقافة بصرية تمزج الأزلي بالأبدي، بحيث يظهر الرايخ الثالث كامتداد طبيعي للتاريخ الأوروبي القديم وكقدر طبيعي للعالم. كأن المستقبل هو التاريخ، وبالعكس.
اكتسب مفهوم الوقت الملتوي ذاك تعبيره الجمالي والنظري الأكثر اكتمالًا على يد المعماري ألبيرت شپير، العضو في الحزب النازي منذ عام 1931 ومدير مكتب البناء الرسمي للرايخ الثالث منذ عام 1934. لكن دور شپير في الملعب الأولمبي جاء لاحقًا، ففي البداية، كلف هتلر المعماري ڤيرنر مارش ببناء الملعب في منطقة شارلوتنبرچ غرب العاصمة، أو بالأحرى إعادة بنائه على بقايا ملعب قديم أكثر تواضعًا. بعد بضعة سنوات من العمل على مبنى خرساني حديث الهيئة، قرر هتلر ساخطًا إقالة مارش واستبداله بشپير، طالبًا منه أن ينفض التصميم عن بكرة أبيه بهيئة تليق بجلالة الرايخ. بالفعل، ذكاء شپير مكنه من فهم طموح هتلر مباشرةً، بل وربما تذكر ذلك المقطع من كتاب «كفاحي» (1925) الذي يذكر فيه هتلر الكولوسيوم بالإسم، مقارنًا هيبته بغياب الصروح عن المدن الألمانية. وعليه، قام شپير بتلبيس الملعب الخرساني بالحجر الجيري مموهًا أي أثر للدعامات المعدنية، كما صمم الواجهة النيوكلاسيكية برواق طويل معمّد أحاط بالمبنى.
الملعب الأولمبي، برلين، صور مأخوذة عام 2004. المصدر: ويكيميديا.
الأهم هو أن التعديلات هذه جاءت مصحوبة بأجندة فريدة من نوعها في تاريخ العمارة عرفت بـ«نظرية قيمة الخراب» (Ruinenwerttheorie)، وهي نظرية قال شپير أنها ولدت يوم مروره بورشة بناء وملاحظته أن موادًا مثل المعدن والخرسانة تشيخ بسرعة وببشاعة، لأن «قيمة خرابها» منخفضة، بعكس الحجر، الذي يعمر طويلًا ويحافظ على نبله حتى بعد خرابه. طور شپير بذلك فكرًا معماريًا يمزج البنى الخرسانية المسلحة بتشكيلات كلاسيكية وواجهات ناصعة من الرخام والجرانيت وغيرها من الأحجار، وطبق تلك الأفكار في معظم مبانيه، أشهرها حلبة زيپلين في نورنبرچ، وهي استيحاء مضخم عن بقايا مذبح پيرچامون الإغريقي المحفوظ في برلين. الهدف هو ألا تكتفي العمارة النازية بهيبتها الحاضرة، بل أن تخطط لهيبة مستقبلية حتى بعد خرابها، بحيث تدخل التاريخ بأفضل صورها كما دخله الإغريق والرومان.
في خطاب ألقاه في نورنبرچ في الخامس من أيلول عام 1934، تبجح هتلر أنه «لن تكون هناك أي ثورة أخرى في ألمانيا لألف سنة قادمة»، جملة تبناها شپير في كتابته، مؤكدًا أن مباني الفوهرر أيضًا ستدوم لآلاف الأعوام. تتكرر كلمة «ألف عام» في كتابات الاثنين، وهي ظاهرة مقلقة في زمن مثل الثلاثينات كان أهم المعماريون خلاله يعملون لحل مشاكل الحاضر بعمارة حديثة مركزها الإنسان، تعتمد على المواد والبُنى الخفيفة وسريعة الاستخدام، عمارةٌ أثبتت لاحقًا هشاشتها أمام مرور الوقت. خاضت أفكار شپير عكس هذا التيار، وبانسجام مع طموحات هتلر الألفية، نحو عمارة تسحق الإنسان وحاضره بضخامتها وثقلها في سبيل أبدية غريبة مركزها الصورة لا الإنسان، صورة النازية أمام التاريخ وصورة صروح بعظمة أطلال روما وأثينا. المدهش في عنجهية النازيين أكثر من استباقهم لفنائهم هو عملهم على أن يكون هذا الفناء قبل كل شيء تجربة جمالية.
صورة للرواق المحيط بالملعب الأولمبي، برلين. المصدر: موقع ديفيد كلارباوت.
انتهت الحرب وهُزمت ألمانيا، وبعكس الغالبية الساحقة لمباني شپير التي دُمرت تحت القصف أو هُدمت لاحقًا لمسح ذاكرتها المؤلمة، ظل الملعب الأولمبي واقفًا، بل وجرى ترميمه وتوسيعه بداية الألفينات ليستضيف مباريات رياضية وحفلات موسيقية من جديد. لكن الفنان البلجيكي المعاصر دافيد كلارباوت اهتم بسيناريو مختلف: ماذا لو فنت البشرية بين ليلة وضحاها وظل الملعب متروكًا للطبيعة بدون ترميم أو عناية أو تقليم للأعشاب البرية؟ فقصد شپير في الأصل بنظريته لم يكن التخريب العسكري أو المتعمد (ألم يكن من المفترض للنازية أن تبقى بسلام لألف عام بلا ثورات ولا حروب؟) بل الخراب الطبيعي الناتج عن الهجر وعن تقهقر بنية المكان. أراد كلارباوت مواجهة نية شپير حرفيًا، لكن فكرة الألف سنة تتجاوز إدراكنا وقدرتنا على التحكم، وتشكل وقتًا «إيديولوجيًا» لاإنسانيًا بحسب تعبير كلارباوت، يدخل في صدام مع الوقت «البيولوجي» المتواضع الذي نعيشه كأفراد.[1]
التجهيز معروضًا في مركز كيندل للفن المعاصر، برلين، 2016-2017. المصدر: موقع ديفيد كلارباوت.
أراد كلارباوت التعبير عن هذا الصدام بين مفهومين مختلفين عن الوقت، واستنتج بذكاء أن المرادف الأقرب اليوم للزمنية الأيديولوجية الألفية هي زمنية الآلات، فأخذ بالتعاون مع مصممي برامج مختصين لإنتاج عمل فني بلا شبيه أطلق عليه اسم «أوليمبيا (اضمحلال ملعب برلين الأولمبي إلى خرائب بالوقت الحقيقي على مدى ألف سنة)». العمل هو برنامج مصمم مثل محرك لعبة فيديو، يتضمن نسخة دقيقة عن الملعب نُفذت حجرًا بحجر عبر مسح تصويري للمنشأة، يخضعها الفنان إلى مجموعة خوارزميات للتنبؤ بعوامل طبيعية كالمطر والرياح ونمو النباتات بحيث يحاكي البرنامج خراب المنشأة شديد البطء، وذلك بالتوقيت الحقيقي، أي دون أي تسريع أو استباق، وبالاعتماد على معلومات دقيقة عن الطقس وعن أصناف النباتات البرية التي تنمو في المنطقة. النتيجة هي برنامج مصمم للعمل خلال 1000 عام.
ديفيد كلارباوت، «أوليمبيا» (اضمحلال ملعب برلين الأولمبي إلى خرائب بالوقت الحقيقي على مدى ألف سنة). بداية عام 2016، إسقاط فيديو مزدوج القناة بالوقت الحقيقي، ألوان، صامت، 1000 سنة. المصدر: موقع ديفيد كلارباوت.
أُطلق العمل عام 2016، بعد ثمانين عامًا من أولمبياد عام 1936 على شكل تجهيز فيديو. يدخل المشاهد إلى صالة مغرقة في الصمت، ويجد ذاته مقابل شاشتين واحدة كبيرة والأخرى صغيرة، موصولتين إلى البرنامج ذاته. تنقل الشاشة الكبيرة وجهة نظر مشاهد يحوم ببطء في أروقة وباحات الملعب المهجور، بينما تتناوب على الشاشة الصغيرة تفاصيل ثابتة، مثل شق في حجر أو تمثال أو عشبة تنمو من البلاط. يعمل البرنامج مثل رزنامة إلكترونية، أي أنه يحسب مرور الوقت حتى عندما لا يشاهده أحد، مما يعني أن كل مرة يُعرض فيها العمل في متحف أو صالة ما، يكون المبنى قد تدهور بعض الشيء، ربما بشكل غير ملحوظ. الأكيد هو أن الفيديو ذاته لن يتكرر مرتين وأن العوامل الجوية ستكون مختلفة كل مرة، وكأن العمل هو شباك على عالم موازٍ لعالمنا، يسير على إيقاعه وبشروطه.
رؤية التجهيز ليست تجربة سهلة على مشاهدين اعتادوا السينما والمونتاج السريع، فـ«أوليمبيا» ليست عملًا روائيًا تتسلسل فيه الأحداث، بل هي أقرب إلى طيف إلكتروني ميت. الفنان ذاته قال بأنه جزء من جيل MTV وفيديوهاتها القصيرة من أربع دقائق، وأنه قد أراد لهذا السبب البحث عن زمنية أكثر طولًا وحثنا على اختبارها.[2] يمكن أن نضيف إلى ذلك تشخيص مؤرخ الفن بوريس چرويس الذي يرى أن الكثير من الفن المعاصر، خصوصًا الفيديو، يتمحور حول تجربة الوقت الضائع، الممل، وغير المنتج، وهو ما يميز علاقتنا ما بعد-الحداثية مع التاريخ، بعكس الحداثيين الذين تعاملوا مع مرور الوقت كعملية يجب تسريعها ومراكمتها لتقود إلى نتيجة مفيدة ما: «لقد توقف الحاضر عن كونه نقطة عبور من الماضي إلى المستقبل ليصير بدلًا من ذلك موقعًا لإعادة كتابة مستمرة للماضي والمستقبل، لتكاثر السرديات التاريخية».[3] تتضمن صالة عرض «أوليمبيا» مخدات يمكن للمشاهد الاستلقاء عليها كي يسلّم بجسده وإدراكه إلى قدرات العمل التنويمية، لعله ينجح في تمديد إحساسه البيولوجي بالوقت قدر الإمكان ومماهاته مع إيقاع الصرح الألفي، أي أن يقارب التوقف.
التجهيز معروضًا في مركز كيندل للفن المعاصر، برلين، 2016-2017. المصدر: موقع ديفيد كلارباوت.
إضافةً لمجابهته زمننا البيولوجي بزمن النازية الإيديولوجي، يتضمن عمل كلارباوت مواجه ثانية أدهى، بين زمنية النازية وزمنية البرنامج، تاركًا المشاهد يتساءل عن الفائز. فالتبعات الحقيقية لفكرة «الألف سنة» لا تظهر في الخطابات ولا في المجازات بل في التفاصيل العملية الصغيرة. عند إطلاق البرنامج عام 2016، وقّع استديو الفنان اتفاقًا قانونيًا بأن يتولى مهمة برمجة أول 25 سنة، حتى لو توفي الفنان، وأن يتم توريث البرنامج لاحقًا إلى استديوهات أخرى تتولى إكمال الطريق. لكن التراجيديا التي تخيّم على صميم العمل (والتي اعتبرها كلارباوت من البداية جزءًا واعيًا منه) هو الاحتمال المرجح بأن يخرب البرنامج قبل انتهاء الألف سنة، أن يصير قديمًا لدرجة ألا يستطيع أي كومبيوتر تشغيله، بينما يبقى الملعب الحقيقي قائمًا. هكذا يُسائل الفنان النازية والتكنولوجيا معًا، فالإثنان قد أدعيا القدرة على برمجة المستقبل لألفية قادمة، نظريًا، لكن لن يرقى أيًا منهما إلى الوعد فيزيائيًا. «أوليمبيا»، يقول الفنان هي عبارة عن منظومة معلوماتية قبل كل شيء يمكن للكومبيوتر فهمها وتنفيذها عبر قراءة شيفرتها. يوم نفقد قدرتنا على قراءة شيفرة ما، تتحول المنظومة وراءها إلى خراب، يقول الفنان، مختتمًا بمجاز صاعق: «مثل اليوتوبيا».[4]
منطاد هيندنبرج فوق الملعب الأولمبي، برلين، صورة مأخودة من كتاب (Die Olympischen Spiele).
-
الهوامش
[1] GREEN, Erica and BROWN, Gillian, 2020 Adelaide // International, Anne & Gordon Samstag Museum of Art University of South Australia.
[2] FIEDLER, Andreas, David Claerbout: Olympia, the real-time desintegration into ruins of the Berlin Olympic Stadium over the course of a thousand years, Sternberg Press, 2017.
[3] GROYS, Boris, «Comrades of Time», in What is Contemporary Art?, Sternberg Press, 2010.
[4] FIEDLER, Andreas, idem.