«نحو التجريب والإبداع»: أن نعيد التفكير في الفن وأدواته

الإثنين 27 كانون الثاني 2025
من جداريات معرض نحو التجريب والإبداع.

في صباح الثامن من كانون الثاني عام 1988، تلقى الفلسطينيون النداء الثالث للانتفاضة الأولى، وهو واحد من عشرات النداءات التي خاطبت فيها منظمة التحرير الفلسطينية الشعب الفلسطيني. في ذلك الوقت كان الفنان سليمان منصور يعمل مسؤول إخراج فني في مجلة العودة، والتي تصلها البيانات بشكل مباشر لارتباطها الوثيق بقيادة الانتفاضة آنذاك. قرأ سليمان في النداء المُوقع من قِبل القيادة الموحدة: «يا جماهير شعبنا من كافة الفئات والطبقات .. لنبدأ منذ اليوم بمقاطعة شراء السلع والمنتجات الإسرائيلية والتي تُنتج مثيلاتها مصانعنا ومشاريعنا الوطنية».

حتى قبل ذلك البيان، كان سليمان يفكر بالحاجة إلى أدوات جديدة من الطبيعة لينتج منها فنه، وسط تخوّف من عدم تقبل جمهوره لهذا التغيير، وهو الذي أحبه بلوحاته الزيتية الشهيرة التي وجدت نسخها طريقًا لجدران بيوت الفلسطينيين حول العالم. جاء البيان بمثابة تشجيع لمنصور على إحداث هذا التغيير في عمله، وهنا فكر بمادة طبيعية ليستعملها مادة أساسية في فنه، ليحضر الطين جليًّا في ذهنه لتاريخه معه. في طفولته، كثيرًا ما ساعد منصور جدته في عملها اليومي في الأرض، ولذا عندما قرر استعمال الطين مادة لفنّه ذهب إلى الأرض التي يحفر فيها الناس عميقًا أساسات بيوتهم ليجد طينًا من نوع محدد يُسمى «الحُوّر»، يقول إن الفلاحين يعرفونه جيدًا. يُنظّف الطين من الشوائب، يصبغه أحيانًا أو يتركه على لونه، ثم يُجففه في النهاية، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من التعامل مع تشققات وتكسر على السطح الطيني، الأمر الذي قرر لاحقًا أن يحافظ عليه كجزء أصيل من العمل، ليحمل في طياته فلسفة جمالية خاصة ترمز لعلاقة الفلسطيني مع الأرض من جهة، وتفتت الجغرافيا الفلسطينية بفِعل الاحتلال من جهة أخرى.

وفي هذه المرحلة ذاتها، بدأ ثلاثة فنانين آخرين، سيشكلون مع سليمان قريبًا مجموعة التجريب والإبداع، اللجوء لمواد فنية محلية لتشكيل فنّهم، فلجأ نبيل عناني للجلد، والذي يحمل في ذاكرته مكانه خاصة، إذ كان يتذكر مصنع الجلد الذي كان يمرّ به رفقة والده في رحلاتهما من حلحول إلى الخليل، أما تيسير بركات فبعد عودته تلك الفترة بشهادة في الفنون الجميلة من مصر، قرّر أن الوقت قد حان للتخلي عن الألوان الاكريليك واستبدالها بالتجريب بمواد أخرى كقطع الخشب والخردة. وأخيرًا كانت فيرا تماري، الوحيدة بين أفراد المجموعة التي ستواصل عملها بالسيراميك بوصفه أداة لفنّها، وكانت متحمّسة لهذه التجربة الجديدة التي فرضتها المرحلة، فقد نضجت التجربة الفنية للفلسطيني وأصبح وجود لغة بصرية جديدة للتعبير أمرًا مُهمًا. عملت المجموعة -وآخرون من الفنانين والحرفيين في فلسطين- بتأثير من دعوات المُقاطعة تلك، انطلاقًا من شعورهم الوطني أولًا، وإيمانهم بدورهم لإحداث التغيير من زاويتهم الخاصة كفنانين ثانيًا.

مجموعة التجريب والإبداع. من اليمين: سليمان منصور، تيسير بركات، نبيل عناني، فيرا تماري.
المصدر: كتالوج المعرض المشترك في مؤسسة خليل السكاكيني الثقافية في القدس عام 1989.

مساحة أوسع للتعبير

يقول الفنان نبيل عناني إن شراء الفنانين المنتجات الإسرائيلية من ألوان وكرتون وقماش كان لِزامًا، فلا مواد محلية أو عربية بديلة عنها في السوق، مما اضطر أفراد المجموعة التي أطلقت على نفسها اسم «نحو التجريب والإبداع» لإحداث تغيير جذري في لغتهم الفنية، والانتقال بالعمل الفني من أسطح اللوحات المُسطحة إلى مساحة جديدة أوسع وأكثر حرية في التعبير. بعد عام من التجارب المُنفردة، عُرضت الأعمال في معرض مشترك في مؤسسة خليل السكاكيني الثقافية في القدس عام 1989، بدعوة من نقابة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين وبدعم من مصانع محلية. أطلقت المجموعة خلال المعرض بيانًا وضعت جمهورها في صورة هذا التغيير وأسبابه، موضحة أسباب اعتقاد المجموعة أن هذا التحرك العفوي مرشح للنجاح، رغم العزلة المفروضة على الفنان الفلسطيني وقتها.

أُعيد عرض تلك الأعمال في السنوات اللاحقة في كل من ألمانيا وإيطاليا، وفي المتحف الوطني للفنون الجميلة في عمّان عام 1993. وفي الذكرى السابعة والثلاثين للانتفاضة الأولى أعاد المتحف الفلسطيني إحياء هذه التجربة من خلال إطلاق أربع جدرايات لفناني المجموعة، تحت العنوان القديم ذاته «نحو التجريب والإبداع». هذه الجداريات الأربعة هي تدشين لمجموعة المتحف الدائمة التي سيتم إطلاقها في تشرين الثاني من العام 2025.

تُعبتر الجداريات الأعمال الفنية الأكبر حجمًا بين كل الأعمال التي أنتجها الفنانون الأربعة خلال سنوات عملهم، ونُفذت بمساعدة مجموعة من الفنانين الفلسطينيين الشباب، لنقل التجربة بشكل تطبيقي لجيل أصغر من الفنانين، بحسب ما يقوله العزيز عاطف، وهو فنان شاب شارك سليمان منصور العمل، ويضيف إن هذه التجربة عمّقت فهمه لكيفية التحام الفنان مع قضايا شعبه، وتفاعله معها بعضوية تامة بعيدًا عن الشعارات والطُرق التقليدية.

الجداريات في المعرض. المصدر: موقع المتحف الفلسطيني.

عند دخولك المتحف من بابه الرئيسي، يتلقفك عمل سليمان منصور «على جناح ملاك» وهو عبارة عن طين الأرض مُعلقًا على مساحة 13 مترًا على الجدار، في وسطه خريطة القدس القديمة. خلفك مباشرة يقف التاريخ على شكل قطع صغيرة من الخشب المحروق تُشكل فسيفساء ضخمة، تحمل رموزًا وأجسادًا تقف بصمت لتُناظر الماضي وتعود بك إلى بدايات الأشياء، وإلى «أول الكتابة .. وأول شعائر العبادة .. أول الحب.. أول الكلام..»،[1] وهو عمل تيسير بركات بعنوان «البحث عن الأرجوان على شواطئ المتوسط». في الجهة المقابلة تنتصب «حارسات الأرض»، وهن عبارة عن ما يقارب 3500 شجرة زيتون صغيرة شكلتها فيرا تماري من السيراميك، يقفن حدادًا على أرواح كل الأشجار التي أزهقتها يد الاحتلال خلال سبعين عام. ويختم المعرض بجدارية نبيل عناني التي تُمثل الإنسان؛ شخصيات عملاقة الحجم تتخللها تفاصيل لرموز تحمل حياة الفلسطيني وصموده.

يقف المتفرج في منتصف القاعة، متوسطًا الأعمال، محاطًا بالأرض والبشر والتاريخ والشجر. يقول عامر شوملي، مدير المتحف الفلسطيني، إن دور المتحف هو نقل هذه الحالة للفلسطينيين من خلال الفن، أي أن تُرجِع لهم ما يربطهم بهذه العناصر جميعها، وما يربطهم بالتالي ببعضهم. ويضيف أن المفارقة في الإصرار على هذه الجداريات الآن تحديدًا تكمن في توقيتها، في الوقت الذي نشهد فيه حرب إبادة وحشية في غزة، ونستيقظ على لافتات تخبرنا أن لا مستقبل لنا على هذه الأرض في الضفة الغربية.

التمرد على المركزية الغربية في الفن

حالة النضال الشعبي في الانتفاضة الأولى لم تجعل أمام الفنانين خيارًا سوى الاتكاء على هذا الجرح الكبير والعمل بصدق، بحسب تعبير الفنان تيسير بركات، لتأخذ هذه الحالة الفنانين إلى بحث جمالي نتج عنه ما يحتضن الفكرة التي لم يكن الرسم التقليدي ليحتضنها ويعبر عنها بالصورة الكافية. فرضت طبيعة المواد حالة من التجريد على شكل الأعمال (منذ بدء استخدامها في الثمانينيات وحتى اللحظة). يقول سليمان منصور إن التجربة لم تكن ممتعة لهم كفنانين فحسب، بل كانت ممتعة للمُتلقين كذلك، فقد كان زوار المعرض يقتربون من الأعمال للمسها وشمها. أمّا من حيث الموضوع، فقد بدأت مع الانتفاضة مرحلة جديدة من التعبير الخلّاق في الفن الفلسطيني.

جانب من المعرض. المصدر: موقع المتحف الفلسطيني.

رغم استثنائية تجربة «التجريب والإبداع» على مستوى التطبيق، إلا أنها في أساسها حالة من الرجوع للأصل يعي فيها الفنان كونه جزءًا من شعبه ولا تنفصل ممارسته عن نضالهم، بل تكون جزءًا منها. يتحدث نبيل عناني أن هذه الممارسة في بدايتها ذكرته بطفولته، حين مارس مع أصدقاء الطفولة فن الأرض (land art) قبل أن يعرف أن هذا فنٌ أصلًا. حينها صنعوا ألعابهم من الحجارة وأغصان الأشجار والأسلاك والخشب. «مش مضطر أفكر فيه كفن مُعاصر زي اللي بأوروبا، أنا بدي أفكر فيه ببساطة». يصف عناني بأن الفنان المُلتزم بقضيته ومسار شعبه، من الطبيعي أن يعكس فنه بشكل مباشر مجتمعه. في السياق ذاته يؤكد شوملي ضرورة النظر لتاريخ الفن الذي ندرسه بعين ناقدة دومًا، فيقول بأن واحدًا من أهم أسباب فقداننا الثقة بفننا هو محاولتنا المستمرّة البحث عن مكان لنا في تاريخ الفن الغربي، مضيفًا أننا قضينا سنوات طويلة ننتج فنًا عربيًا يعتمد على التجريد والأنماط الهندسية، وبعد تغيير الظروف السياسية في العالم بدأنا نحن بالرسم الحر بطرقه الأكاديمية في وقت بدأ فيه الغرب بالتوجه للمُمارسات المُعاصرة والتجريد والإنشاء (Installation) وغيره. وبالتالي إذا سلمنا لدراسة الفن من وجهة نظر الغرب، يقول شوملي، نصبح نحن خارج التاريخ، مضيفًا أن وجود هذه الجداريات في المتحف، الملاصق لكلية الفنون في جامعة بيرزيت، نموذج للطلبة ليحرروا فكرهم من هذه المركزية ومن معايير الغرب، وأن يعودوا ليكتبوا تاريخهم بطريقتهم الخاصة.

لا يُعتبر رد فعل مجموعة التجريب والإبداع رد الفعل الثقافي الأول في التاريخ الفلسطيني. نماذج عديدة لتحركات ثقافية سبقت هذا التحرك ولم تقتصر عليه. في النكبة مثلا حملت الفنانة صوفي حلبي، برفقة شقيقتها آسيا، مسؤولية تدريب الفتيات والنساء اللاجئات في مشغلهنّ على ممارسة حرف يدوية عديدة، بهدف تمكينهن من إسناد أنفسهن وأسرهن ماديًا في ظروف اقتصادية عامة صعبة. في هذا الفعل -كمثال- تخطت صوفي إصرارها على أن يكون فعلها محصورًا في ممارستها الأساسية (الرسم)، وتخطتها لتُفكر بتحرّك ثقافي ساهم في إحداث تأثير أكبر. يُمثل هذا النموذج صورة عن أهمية تقدير الفنان للدور الذي يمكن أن يلعبه، والكيفية التي سيُحدث فيها التغيير. وهو ما يصفه شوملي بقراءة التحرك الثقافي في سياقه التاريخي، وإعادة النظر بفكرة الفن الثوري. «لما تصير الثورة حقيقة أمامك، مش مضطر تعبر عنها بقبضة مرفوعة وسلاح، بدك تفكر بطريقة تحرك ثورية تتناسب مع الحدث وتخدمه».

  • الهوامش
    [1] يمكن الاطلاع على النص المرافق للعمل هنا.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية