لا جديد على الشاشة: لماذا نعود نهاية الأمر إلى ذات المسلسلات؟

الثلاثاء 05 تشرين الأول 2021
مشهد من مسلسل «فريندز».

يعود أحدهم مساء كل يوم إلى منزله بعد نهار عملٍ طويل في الخارج. وبعد فترة قصيرة يخصصها ليستريح، يبدأ بتحضير الطعام. ليواجه بعدها خيارًا آخر بات يشبه الطبق الجانبي على المائدة، يتمثل في انتقاء حلقة أو أكثر من مسلسلٍ ألفه ليشاهدها أثناء تناول الطعام. ليست هذه المرة الأولى التي يمر خلالها على هذه الحلقات، واليوم لم يعد يتابعها بشكلٍ متسلسلٍ حتى، بل ينتقي بعضها بحسب مزاجه، فيما يشبه اختيار موسيقى خلفية لحدثٍ ما. قد يقع الاختيار على مجموعة حلقاتٍ من مسلسل «فريندز» مثلًا أو مسلسل كوميدي آخر، وقد يترافق ذلك مع الاستعداد للخلود إلى النوم أيضًا. 

هذا الفعل ليس فريدًا اليوم، وقد يكون حتى ظاهرةً عامة. يمكننا أن نعلم ذلك لأننا دخلنا بأنفسنا هذا الشكل الدائري من البث، أو لأننا سمعنا عنه من أشخاص ضمن دوائرنا الاجتماعية، أو لأننا بحثنا في أنماط سلوكٍ كهذه في أماكن أخرى من العالم. فما الدافع وراء اختيارنا الدخول مرة أخرى في دورة مغلقة من المشاهدة قد نكون حفظناها عن ظهر قلب، رغم وفرة الخيارات الأخرى؟

المنتَج والفورمة السحرية

ليست إعادة مشاهدة الأعمال التلفزيونية ظاهرة حديثة بالمعنى النسبي للكلمة، إذ يمكن تتبعها حتى خمسينيات القرن الماضي، حين كانت مرتبطةً بـ«إعادة البث» الذي هو وسيلة أساسية لملء الثغرات في جداول البث التلفزيونية أو إتاحة بعض الأعمال ذات الشعبية للمشاهدة مرة أخرى. وتبدو الظاهرة ملازمة لوجود التلفاز بحد ذاته، كما يوضح ديريك كومبار في كتابه «أمة إعادة البث»، ولا تنحصر الظاهرة بنوعٍ درامي واحد كالكوميديا. مع ذلك، فإن هذا الجزء من الصناعة التلفزيونية يعيش مرحلة مزدهرة اليوم، وإن كانت البيانات تخبرنا بشيءٍ ما، فهو أن الأعمال الكوميدية تتمتع بحصة وفيرة فيه، إذ يحتل «فريندز» المرتبة الأولى كأكثر عملٍ أعيدت مشاهدته خلال العام الماضي، وفقًا لمسحٍ أجري على قرابة 2700 مشاهد حول العالم. وبينما تدخل أعمال تنتمي إلى أنواعٍ أخرى هذه القائمة، إلا أن مجمل إعادات المشاهدة تكون من نصيب مسلسلات تنتمي إلى قالب السيتكوم الأمريكي، مثل «ذا أوفيس» بنسخته الأولى و«ساينفيلد» و«بيغ بانغ ثيوري».

والواقع أن هذه المحاصصة ليست عشوائية أو وليدة مصادفة. فبالنسبة للمنتجين، لا ينحصر نجاح العمل التلفزيوني بأثره المباشر الذي يحتمل أن يحققه وحسب، بل بما يسمى احتمالية الإعادة. ولم لا؟ إذ لا يزال مسلسل مثل «فريندز» يدر أرباحًا سنوية تقدر بمليار دولار لشركة «وارنر بروس»، ويلعب دورًا مهمًا في حرب منصات البث، كما يثبت لنا ذلك انتقاله من «نتفلكس» الولايات المتحدة إلى «إتش بي أو ماكس» العام الماضي. 

بالنسبة للمنتجين، لا ينحصر نجاح العمل التلفزيوني بأثره المباشر الذي يحتمل أن يحققه وحسب، بل بما يسمى احتمالية إعادة مشاهدة العمل.

عند هذا الحد، لا بد من التساؤل عن الفورمة المثالية لصناعة عملٍ كلّما حاول التاريخ نسيانه عاد بطريقةٍ أو بأخرى، ولماذا يبدو نوع السيتكوم ملائمًا له. ليس «فريندز» سوى واحدٍ من هذه الأعمال، إلا أنه أقرب ما يكون إلى الأمثولة ضمن نوعه، كما تدلنا على ذلك محاولات محاكاته العديدة (دون أن نغفل في هذا السياق ما يقوله البعض بشأن الاستعارات المريبة لفريندز ذاته من مسلسلات أخرى). لذا، سيكون من المفهوم أن نركّز على هذا العمل بشكل رئيسي أثناء محاولة فهم هذه الوصفة. 

بكل بساطة، تكمن قوة مسلسلٍ مثل «فريندز» في العالم الذي يدّعي العمل تقديمه، سواء العالم الواسع الذي يكون المدينة غالبًا، ولا يحظى -ربما- بزمن عرض طويل على الشاشة لكنه يقدم الخلفية والأساس للعالم الثاني الضيّق والمباشر والمحدد بين شخصيات العمل الرئيسية، والحيّز الخاص الذي تتفاعل الشخصيات فيه.

ثمة الكثير ليقال عمّا إذا كانت أعمال السيتكوم وسيطًا مناسبًا لدراسة مكانٍ ما في لحظة معينة من الزمن، بما يشمله ذلك من تفاصيل دقيقة، كمتوسط مساحة المنازل التي تبدو أوسع في هذه الأعمال قياسًا بتلك التي تحضر في المدن الحقيقية، وتكاليف الإيجار التي لا يمكن لذات الشخصيات في العالم الحقيقي تحملها، وغير ذلك من الشروط التي لا بد من التلاعب بها لضرورات درامية، ولأن تفاصيل بعينها تبدو أكثر أهمية للصانعين من غيرها. 

مع ذلك، فإن الطابع البهيج للأعمال العائدة من أزمانٍ ولّت -كالتسعينيات- يحمل في طياته شيئًا من الدقة التاريخية، وإن كانت دقةً انتقائيةً بعض الشيء. فرغم المغالطات التي تتعلق بالتفاصيل المعيشية أو المدن ذاتها، شهدت تلك الفترة ازدهارًا اقتصاديًا في الولايات المتحدة الأمريكية خلال رئاسة بيل كلينتون، وازديادًا في معدل الوظائف والإنتاجية، ونسب تضخم منخفضة. ورغم أن التطرق إلى هذه المواضيع بشكلٍ واضح سمة غائبة عن أعمال السيتكوم، إلا أن هذا المناخ العام تسلل إلى هذه الأعمال وأثر بشكلٍ أو بآخر على العوالم التي تقدمها، وتشابك معها لتصبح النتائج مرئية في عالمنا الحقيقي، كما جرى مع ازدهار ثقافة «المقهى» في ذات الفترة، مدفوعًا بالمناخ الاقتصادي العام وعرض مسلسل «فريندز».

أما العالم الثاني، الذي تنشأ حدوده وتتغير تبعًا للشخصيات الرئيسية وعلاقتها ببعضها البعض، فيمضي على وفاق مع العالم الأول الأوسع، المرتبط بالمدينة. قلنا سابقًا إن العالم الكبير الذي يفترضه مسلسل كـ«فريندز»، وفي هذه الحالة يكون نيويورك، يبدو أكثر بريقًا مما هو عليه في الواقع. لكن ذلك لا يعني خلوه من الصراع بأي حال، إذ يصعب تخيل دراما دون عنصرٍ كهذا. ستمرّ شخصيات السيتكوم بمشاكلها إن كانت عاطفية أو مهنية أو شخصية، لكنها -ضمن هذا النوع بالتحديد- ستجد نفسها في نهاية اليوم ضمن محيطٍ «حميمي» ملؤه الدعم والمساندة، أو كما تقول شارة «فريندز»: «سأكون هناك من أجلك». تحدد الباحثة الأمريكية جيليان سانديل أعمالًا مثل «فريندز» ضمن سياقها التاريخي، باعتبار أنها تبعت اتجاهًا جديدًا قائمًا على اختيار أبطالٍ من الشباب البالغين، الذين يعيشون سويةً ويشكلون ما تسميه «عائلةً بديلة». وفقًا لساندل، فإن التلفاز يعمل على عرض قلقنا ومخاوفنا الجماعية ومن ثم إيجاد حلٍ متخيلٍ لها. فإذا كانت الأعمال التلفزيونية السابقة قد اهتمت بالأسرة بمعناها التقليدي، أو بمكان العمل، فإنها ضمن هذه الموجة خلقت كيانات بديلة تتلاشى ضمنها حدود الصداقة والحب والرعاية. وتصبح هذه العلاقات، التي تغذيها أكواب القهوة وحس السخرية بوصفه طريقة للمواساة، الداعم لهذه الشخصيات في مواجهة مصاعبها الشخصية أو المهنية، أو تلك التي تواجهها مع أسرها البيولوجية أو التقليدية. 

أكثر من ذلك، يقول سيمون نوكس وكاي شويند في كتابهما «فريندز: قراءة في السيتكوم»، إن الشرط الحميمي ضمن عالم المسلسل أحد مكونات هذه الفورمة الناجحة التي تقوم ببناء صلة عميقة مع المشاهدين. وإن كان تجنّب المواضيع الجدلية، كالاقتصاد والطبقة والعرق، أحد شروط استراتيجية صناعة الحميمية -كما يسميها المؤلفان-، فإنه يُتبَع بشروط أخرى مثل الاعتماد على عدة كاميرات لتصوير العمل -على خلاف أعمال السيتكوم المصورة بالكاميرا الواحدة-، إضافةً إلى شغل الدفء والصداقة والقرب والألفة المساحة الرئيسية من العمل بشكلٍ قصدي، كي يتجنّب القائمون عليه ما يسمى بالإقصاء الثقافي -الذي يُضعف من قيمة عملٍ ما خارج حدود ثقافةٍ معينة، وينجحوا في صناعة عملٍ صدّر كمنتجٍ عالمي، وظهر بطابعٍ بسيط رغم التعقيد الهائل الكامن وراء إنتاجه وطريقة بناء الكوميديا فيه، وهي نقطة يذكرنا المؤلفان بسهولة ملاحظتها عندما تُعزَل بعض الحلقات عن شرائط الضحك المعلبة فيها ويصبح تأويلها مختلفًا بالمرة، أو مرعبًا أحيانًا أخرى. 

المستهلك والمسار الدائري

إنّ كل ما سبق يمكن أن يوفر إجابة جزئية فقط عن سؤالنا الأساسي، إذ يمكن لخصائص هذه الأعمال أن تدفع لمشاهدتها للمرة الأولى، لكن ما الذي سيدفع المشاهد لإعادة العمل أكثر من مرة؟ للحصول على إجابة على هذا السؤال، علينا أن ننظر كيف يتلقى المشاهد هذه العوالم الحميمية، وما الذي يجري في عالمه الحقيقي، ولماذا يفضل في نهاية اليوم أن يعيد ما يعرفه مسبقًا.

يبدأ البحث حقيقةً من الفورمة التي مررنا عليها في القسم السابق. إذ يُعد السيتكوم الأمريكي النوع الأكثر ملائمةً لإعادة المشاهدة لأسبابٍ مختلفة، كسهولة دخوله الأسواق العالمية لعقودٍ تلي لحظة إنتاجه -مقارنةً بالإنتاجات الأخرى-، وطريقة بناء الحلقات التي تسمح مدتها القصيرة بإدراجها بسهولة ضمن خطط بث القنوات الناقلة من جهة وضمن جدول حياة المشاهد من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك، تسمح البنية السردية لهذه الأعمال بمتابعتها دفعةً واحدة، أو على انقطاع، عكس أعمالٍ من أنواع أخرى قد تتطلب شرط متابعة مختلف أو أكثر التزامًا، وهي -في نهاية الأمر- مبهجة وتحمل لمشاهدها قدرًا من السعادة. 

توفر الإجابة السابقة مدخلًا يتعلق بالسيتكوم كنوعٍ درامي وجهوزيته لإعادة العرض، إلا أن إجابةً أكثر راهنية لا بد أن تنطلق من الطريقة التي نشاهد بها هذه الأعمال، أي وسيط المشاهدة، خاصةً في عصرٍ يتسّم بغزارة الإنتاج والخيارات. فاليوم يجد المشاهد نفسه على بعد ضغطة زرٍ واحدة من كمٍ هائل من المسلسلات والأفلام المختلفة. وإن كانت إعادة المشاهدة مرتبطة حكمًا فيما مضى بـ«إعادة البث» وخطط القنوات التلفزيونية، أو بتوافر نسخ من الأعمال على شكل شرائط أو أقراص رقمية، فإنها اليوم متاحة ويمكن الشروع بها في أي لحظة، حالما يقرر المشاهد بداية الماراثون. 

إن هذا التغيير أثر بدوره على أنماط المشاهدة ومتوسط ساعات الفرجة اليومي الذي تزايد بدوره، وصار مصطلح «المشاهدة المفرطة» (Binge-watching) شائعًا للدلالة على هذا النمط الجديد. والحقيقة أن هذا التغيير لم يجر بطريقة عفوية، سواء مع شيوع إصدار المواسم دفعةً واحدة مع بعض المنصات الجديدة، على عكس الشكل الكلاسيكي لإصدار الأعمال الجديدة بمعدل حلقة كل أسبوع، أو عبر الأساليب التي تتبعها هذه المنصات لإبقاء المشاهد لأطول فترة ممكنة بالاعتماد على البيانات لإضفاء الطابع الشخصي على تجربة المشاهدة، دون أن تهتم -أو تُجبَر على الاهتمام- بالآثار المحتملة لهذا النمط. 

ورغم أن هذا النموذج يعتمد بشكلٍ كبير على معدل إنتاجٍ مرتفع للأعمال الجديدة، ما يعني أنه قد لا يرتبط بعمليات إعادة المشاهدة مباشرةً، إلا أن الأعمال القديمة تلعب دورًا هامًا فيه. إذ تعد إعادة تغليفها وتقديمها ضمن قالب نوستالجي، أو من خلال حلقات لم الشمل، وسيلة مهمة لموازنة العرض والطلب بتكاليفٍ معقولة قياسًا بما يتطلبه إنتاج أعمالٍ جديدة. كما أن الوفرة المفرطة بالأعمال بحد ذاتها تضع المشاهد أمام مفارقة الاختيار -كما تسمى في علم النفس-، التي تدفعه للعودة إلى القديم والمجرّب أحيانًا. أكثر من ذلك، عندما نتحدث عن الوفرة في الخيارات لا يمكننا إغفال البنية التحتية الأوسع التي مدتنا بهذه الوفرة وأثرها علينا. إذ تبدو العلاقة وثيقة بين العيش في عالمٍ يزخر بالمعلومات وزيادة الحمل الإدراكي الذي نصاب به. وفي هذا الشأن فإن بعض الباحثين يعتقدون أن العودة إلى أعمالٍ مألوفة واحدة من آثار زيادة الحمل الذي نعيشه، والذي تضاعفت آثاره بعد جائحة كوفيد. ولذا، يبدو من الطبيعي أن تزداد ساعات المشاهدة (وإعادة المشاهدة) خلال فترات الحجر التي عشناها.

إن إعادة تغليف المسلسلات القديمة وتقديمها ضمن قالب نوستالجي، أو من خلال حلقات لم الشمل، وسيلة مهمة لموازنة العرض والطلب بتكاليفٍ معقولة قياسًا بما يتطلبه إنتاج أعمالٍ جديدة. 

لكننا نعرف أن هذا الولع بالإعادة يسبق هذا الظرف الطارئ، وبالتالي يتعلق بأسباب إضافية. خلال استبيان أجري لفهم دوافع وأشكال إعادة الفرجة عبر الوسائط المختلفة، وشمل عينة قوامها 150 مشاركًا، اتضح أن الأعمال التلفزيونية لا تزال تجاري الأشكال الأحدث -كمقاطع اليوتيوب- من حيث نسب إعادة المشاهدة (على التلفاز أو الحاسوب، والهاتف الذكي بدرجات أقل). المشاركون بدورهم عدّدوا بضعة أسباب للقيام بذلك، كالشعور بالراحة وتخفيف القلق، أو التآلف العميق مع المحتوى الذي يتابعونه، أو كجزءٍ من «الفرجة الاجتماعية» التي تتعزز بوجود أشخاص آخرين وقد تحدث أحيانًا لتشجيعهم على متابعة أحد هذه الأعمال، أو بسبب الخوارزميات التي تقترح هذه الأعمال مرة أخرى.

بينما تجمع دراسة أخرى أسباب إعادة استهلاكنا هذه وتقسمها إلى أربعة أسباب؛ أولها متعلق بالتفضيل الشخصي وتقديرنا لهذه الأعمال، أما ثانيها فيتعلق بالنوستالجيا، سواء أعادت المشاهدين الأكبر سنًا، الذين ولدوا بين منتصف الستينات وأوائل الثمانينات، إلى لحظة متابعتهم الأصلية وحيواتهم حينها أو أولئك الأصغر سنًا كجيل الألفية الذين ترتبط هذه الأعمال لديهم بمرحلة الطفولة. أما السبب الثالث فيمكن تسميته بالعلاجي، إذ تساهم معرفتنا بنهاية هذه الأعمال -وطبيعتها الحميمية بالدرجة الأولى- بإدخالنا في حالة من تنظيم المشاعر، حيث لا نشعر بالخيبة أو نخشى المفاجآت. وأخيرًا، ثمة سبب وجودي وراء تفضيلنا لهذه المسارات الدائرية؛ إذ تعمل إعادة عرض مواد ذات صلة بماضينا على إعادة تفكيرنا ومراجعتنا للتجارب المرتبطة بها من منظور اليوم، لا لهذه الأعمال فحسب.

تقترح ريبيكا ويليامز سببًا آخر لبقاء هذه الأعمال، وهو ما تعرّفه بـ(Post-object fandom)، أو ما يمكن أن نسميه بحالة الإعجاب التي تلي نهاية الأعمال وتمنع موتها بعد الحلقة الأخيرة. إذ ساهم ظهور «مجتمعات المعجبين» بفعل الإنترنت، في زيادة العمر الافتراضي للعمل التلفزيوني والدفع نحو إعادة مشاهدته بشكلٍ فردي أو عبر الماراثونات، إضافةً إلى تجدد النقاشات حول هذه الأعمال وتأويلاتها وبالتالي بقائها راهنةً، ما سمح أحيانًا بإعادة إنتاج جديدة لبعض هذه الأعمال القديمة كـ«فتيات غيلمور» و«ويل وغريس». 

وبعد المرور بشكل مقتضب على تغيّرات أصابت وسائط العرض، والجمهور وخصائصه، ومفهوم قاعدة المعجبين حتى، يجب أن نسأل: هل لهذه الأعمال قيمة أو جوهر ثابت؟ أم أن تأويلاتها ومضامينها تتغير هي الأخرى بتغيّر العالم، بالمعنى الواسع للكلمة؟ مع التغيّر الذي شهده قطاع الترفيه في السنوات الأخيرة، والاهتمام المتزايد بقضايا كالتعددية والتمثيل الثقافي على الشاشة، بدت بعض الأعمال قاصرة عن مواكبة تغيرات هذا العصر، لذا نرى أن أعمالًا مثل «بيغ بانغ ثيوري» أو «ساينفيلد» نالت انتقاداتٍ تتعلق بقضايا العرق والطبقة والجنس والهويات الجنسية مؤخرًا، إلا أنها نجحت أيضًا في ترسيخ مكانها بسبب خصائص أخرى لهذا العصر. 

يعتبر نوكس وشويد أن الحميمية التي تميّز أعمال السيتكوم هذه تحظى بأهمية مضاعفة اليوم، فمع الازدياد المستمر لدور الوساطة التكنولوجية في جوانب حياتنا، تبدو شخصيات السيتكوم شبيهة برجال الكهف، من منظورنا نحن اليوم، بالطريقة التي يعيشون تجاربهم وعلاقاتهم عبرها، بالشكل المباشر والشخصي ضمن حيّز ذي حدودٍ واضحة، الأمر الذي نفتقده بعد تماهي الخطوط الفاصلة بين العام والخاص اليوم، وهو ما يعطي هذه الأعمال قيمةً مضافة اليوم. ويصبح بذلك «فرايزر» أو «ذا أوفيس» أو غيرها مكونات أساسية لعصر تلفاز الراحة، كما يسميه الصحفي ريتشارد غودين، الذي يوفر -عبر إعادة أعمالٍ تنتمي إلى فترةٍ أخرى- مهربًا من مآزق اللحظة الراهنة وضغوطاتها التي يواجهها متفرّج اليوم، وهو ما قد تعجز الأعمال الجديدة عن توفيره أحيانًا بحكم ارتباطها بشكلٍ أو بآخر باللحظة الراهنة ذاتها. أي أن الدافع هنا قد لا يكون الرجوع نحو ماضٍ ما، سواء عاشه المتفرج أم لا، بقدر ما يصبح متعلقًا بإيجاد فسحةٍ لا تشبه الحاضر.

عودة إلى العالم الرحب

يوضح هذا التقديم أن الجواب عن السؤال المطروح بداية المقال ليس مرتبطًا بما يجري على الشاشة وحسب بل بالحركة العامة التي تجري خارجها أيضًا. 

والواقع إن تصوّر عالمٍ أبسط، أو «أكثر براءة»، كما وصفه -بشكلٍ ملفت للنظر- كثير من المشاركين في الاستبيانات السابقة، يبدو بالفعل، ولكل الأسباب المنطقية، غاية لا يمكن تحقيقها إلا عبر خيالٍ ما، وفكرة تعجز عن جسر الهوة بين الرغبة وإمكانية التحقيق. والأجدى ضمن هذا الظرف هو النظر إلى جذر المسألة، في الحاضر بكل تعقيده، وبما اتُفِق على اعتباره المنطقي اليوم. فباستثناء بعض العوامل المفهومة، كالتفضيلات والروابط الشخصية، والتي تُحقَق بشكل طبيعي تبعًا لعوامل تختلف من شخص لآخر، نستطيع أن نلمس فيما سبق بعض الآثار للتحولات التي تجري في هذا الحاضر وتطال وحداته التقليدية، حتى تمتد إلى أكثر جوانبنا خصوصية وفردية، لاغيةً الحدود الفاصلة بين هذه الجوانب وتلك العلنية، التي لا ترتبط علنيتها بـ«عموميتها» اليوم، وتبدو أقرب إلى مساحات مسلّعة ومراقبة، يستلزم الخوض فيها تخيّل كل أشكال الانسحاب أو الاستراحة الممكنة، أو البحث عن بدائل معقولة للطريقة التي تسير بها اليوم.

Leave a Reply

Your email address will not be published.