الهواء المسموم في ساحة فريديريك
في مدينة ألمانية بمواصفات كاسل (صغيرة ومبعثرة وبلا ملامح تذكر)، يقبع متحف الـ«فريديريكانوم» في الساحة المركزية بعمارته الكلاسيكية وأعمدته الأيونية مثل طفرة. في الساحة المطلّ عليها، شهد أهل المدينة إحدى محارق الكتب التي أقامها النازيون في أرجاء البلاد عام 1933، وبعد الحرب عام 1955، وفي محاولة لمصالحة كاسل مع ماضيها (وإغاظة جيرانها الشيوعيين في ألمانيا الشرقية)، أُعلن أن تلك المدينة الهادئة ستضيف من الآن فصاعدًا معرضًا للفن البصري المعاصر، سيقام مرة كل خمس سنوات في مبنى الفريديريكانوم. ومع بداية القرن الحادي والعشرين، أخذ معرض «دوكومنتا»، كما سُمي، يتمدد في أرجاء المدينة، لتصير مقصد عشرات الآلاف من حجاج الفن المعاصر.
لكن هذا العام، دوكومنتا 15 ليست كغيرها. فقبل افتتاح المعرض بأشهر نشرت مدونة «تحالف كاسل ضد معاداة السامية» مقالًا اتهمت فيه المعرض بمعاداة السامية بناءً على توقيع بعض الفنانين المشاركين على عريضة داعمة لحركة المقاطعة BDS أو علاقتهم بمركز خليل السكاكيني الثقافي في رام الله، والذي اتهمه المقال (هو وخليل السكاكيني شخصيًا) بالعنصرية. تبين لاحقًا أن هذا «التحالف» مكون من شخص واحد لا علاقة له أصلًا بيهود المدينة، لكن لا هذا ولا ركاكة وزيف المحاججات المستخدمة حال دون تسرب الاتهامات إلى كبريات الصحف الألمانية، لتواجه دوكومنتا أكبر حملة تحريض في تاريخها. حاولت إدارة المعرض الفنية احتواء الأزمة بتنظيم سلسلة محاضرات تسبق افتتاح المعرض، هدفت من خلالها لفتح حوار عن الاتهامات وعن العلاقة بين الفن والعنصرية، إلا أن المحاضرات أُلغيت في اللحظة الأخيرة بضغط من منظمات يهودية ألمانية ومن وزارة الثقافة، تلتها رسالة مفتوحة ردت من خلالها الإدارة الفنية على الاتهامات بلعب ذات الإسطوانات التي تُكرّر منذ عقود؛ معاداة الصهيونية لا تعني معاداة السامية، «إسرائيل» تخرق القانون الدولي، إلخ.
لا يمكن عزو الحالة الهستيرية تلك إلى الأثر التضخيمي لوسائل التواصل الاجتماعي فحسب، فاتهامات المدونة لم تظهر من العدم، بل جاءت من مناخ مشحونٍ على الأقل منذ عام 2019، حين أصدر البرلمان الألماني قرارًا غير إلزامي يصنّف حركة المقاطعة BDS كمنظمة معادية للسامية، موصيًا بعدم التعامل معها أو مع أي جهة مرتبطة بها. وفي نيسان من هذا العام، هاجمت شرطة برلين مظاهرة موالية لفلسطين، تلاها منع نهائي لأي تظاهرات يوم النكبة، ومن ثم تضييقات متزايدة على مؤسسات وأفراد عرب، منها سحب معهد چوته في هامبورچ دعوته لمحمد الكرد للمشاركة في إحدى فعالياته أو التشهير بالباحث طارق بقعوني بعد محاضرة له حول فلسطين والهولوكوست في برلين.
الغريب هو أنه قد سبق وشارك فنانون فلسطينيون في دوكومنتات سابقة (إيميلي جاسر في دوكومنتا 13 أو منى حاطوم في دوكومنتا 14). هل هي مجرد مصادفة إذن أن تستعر اتهامات معاداة السامية على هذه الدوكومنتا بالذات، وهي النسخة الأولى التي لم يصغ أجندتها الفنية قيم فني (curator) واحد بل تجمع من القيمين؟ تجمعٌ، فوق هذا، ليس أوروبيًا، بل إندونيسي وذو لمسة يسارية قوية؟ قد يكون ذلك جزءًا كبيرًا من السبب، فللمرة الأولى في تاريخ دوكومنتا، غلبت التجمعات الفنية على الفنانين الأفراد، وغلب حضور دول الجنوب على دول الغرب، كما تضمنت قائمة المشاركين الدائمين 12 فرد وتجمع من العالم العربي من أصل 76، مقابل خمسة من أصل أكثر من 160 في الدوكومنتا الماضي، دون ذكر الفنانين المدعوين والمشاركات الموسيقية. إضافة إلى ذلك، غلبت نبرة يوتوبية غير معهودة على أجندة دوكومنتا 15، حيث استُوحي تنظيمها من حظائر الأرز الإندونيسية التقليدية المسماة «لومبونچ»، والتي رأى فيها قيّمو المعرض نموذجًا لمجتمع تشاركي يتقاسم موارده بحسب حاجة كل من أفراده. وعليه، قسّم تجمع «روانچروپا» الإندونيسي، القيّم على المعرض، الجزء الأكبر من الميزانية المعطاة إليه على عدة تجمعات (بعضها فني وبعضها أقرب للبحث أو النشاط السياسي) استخدم كل منها حصته كما يريد، فقام بعضهم بتنفيذ أعمال فنية جديدة، بينما قسّمها البعض الآخر على فنانين من محيطهم لتنظيم معارض صغيرة داخل المعرض الكبير أو استخدمها لاستئجار مبانٍ وتنظيم نقاشات أو حتى لإنشاء مطعم وحلبة تزلج ومطابخ جماعية، والخلاصة أن دوكومنتا 15 جاءت بعيدةً عن صيغة المعرض التقليدي، لتصير مساحة تجريب تربط الفن بمختلف الممارسات الاجتماعية، وتدعم فيها التجمعات الفنانين الصغار وحتى الهواة، بعكس منظومة الفنانين النجوم التنافسية، التي تعتمد عليها المعارض الدولية عادةً.
قد يكون ذلك المزيج من الكلمات الأجنبية والطابع اليساري هو ما أثار ذعر كاتب المدونة، حيث لم تمنعه حميته للدفاع عن اليهود من إطلاقه نكات عنصرية ضد تجمع «روانچروپا» وإدانته لأخذ العالم الثالث كل تلك الأولوية في المعرض مقارنة بالغرب. كما سبق وأشار الباحث سامي الخطيب، فإن المشاعر اليمينية تلك ومن يرعاها هي المستفيد الأول من تصنيف حركة المقاطعة BDS كمعادية للسامية، والتي صارت مناسبة لتصيد وإقصاء المهاجرين العرب والمسلمين أكثر فأكثر، وكأن مهمة الدفاع عن أقلية يهودية لم يعد لها وجود أصلًا في ألمانيا ما هي إلا غطاء لرغبة متزايدة في قمع الأقليات الجديدة الموجودة فعلًا اليوم. ليلة 27 أيار، قبل أقل من شهر على الافتتاح، انتقلت تلك الرغبة إلى الأرض باقتحام مجهولين المبنى المُخصص للتجمع الفلسطيني «مسألة التمويل»، الذي كانت المدونة قد هاجمته بالاسم، ورشّوا على جدرانه شعارات ربطتها الصحافة مباشرةً بحركات يمينية متطرفة.
الحفرة الإثنوغرافية
بدأت قصة «مسألة التمويل» عام 2019 على هامش مركز خليل السكاكيني في رام الله، حين اجتمع بضعة فاعلين ثقافيين فلسطينيين محبطين من اعتمادهم على المنح والتمويلات الغربية. بدأ التجمع عملًا ممنهجًا بشقيّن، أولهما بحثي يهدف للتحري عن آليات التمويل التي تغذي الفنانين والمؤسسات الفنية الفلسطينية (من أين تأتي ميزانياتها، ما هي روابطها الدولية وكيف تؤثر هذه الروابط على المشهد الفني الفلسطيني). أما الشق الثاني، الأكثر عملية، فيهدف إلى التفكير في بُنى اقتصادية بديلة ومستدامة تساهم في تجاوز اقتصاد ما بعد أوسلو المغرق بالأموال الأجنبية، مثل نظام «الدايرة» الذي يطوره التجمع خلال هذه الدوكومنتا، والذي يعتمد على تقنية البلوكشاين لخلق اقتصاد تشاركي يسمح للمجتمع بالحفاظ على ثرواته.
«مسألة التمويل»، مقطع من فيديو توضيحي، 2022.
في كاسل، عرض تجمع «مسألة التمويل» بضعة فيديوهات توضيحية عن عمله وقصصًا مصورة عن الموارد الفلسطينية، كما اتخذ صالةً استقدم إليها مجموعة «التقاء»، وهي مجموعة من الفنانين الغزيين العاملين في القطاع بمعزل عن الدعمين الحكومي والأجنبي، بهدف إنشاء فسحة فنية مستقلة تدعم الفن المعاصر. تتراوح الأعمال المعروضة بين صور ضوئية للحياة اليومية في غزة ولوحات بأساليب فولكلورية أو تجريدية من القرن الماضي أو حتى كولاجات رقمية تمزج لوحات لفنانين أوروبيين كلاسيكيين (ديلاكروا، فان جوج) بمشاهد من فلسطين. الانطباع العام في حضرة تلك الأعمال هو نوع من عدم الراحة. فأن يتمكن فنانو غزة من الاستمرار بالعمل تحت الحصار لا يمكن إلا أن يكون مدعاة للإعجاب، لكن عرض تلك الأعمال في محفل فن معاصر يستقبل ألمع فناني العالم قد لا يكون الطريقة الأكثر عدلًا لتمثيل الفن الفلسطيني المعاصر أو لتكريم أولئك الفنانين الغزيين، والذين تظهر أعمالهم في سياق دوكومنتا أقل من عادية ومكررة. يزيد من حرج الموقف طريقة تأطير «مسألة التمويل» لتلك الأعمال، حيث تعج الصالة بعشرات النصوص التي تشرح النموذج الاقتصادي لـ«التقاء» وتفصّل حياة الفنانين ورواتبهم والصعوبات التي يتعرضون لها وحتى قصص حياتهم (من تزوج من، من عمّر بيته، وما إلى ذلك)، بحيث يدرك الزائر مباشرةً أن الغرض الأساسي للمعرض ليس الأعمال الفنية بحد ذاتها، بل الحياة اليومية لأفراد «التقاء»، وكأن تجمع «مسألة التمويل» يحاول صرف نظر المشاهد عن الضعف الفني لتلك الأعمال بتحويلها إلى عيّنات دراسة سوسيولوجية، دراسة قد تكون جيدة، بل وضرورية، دون أن يكون مكانها الأمثل معرض فن معاصر عالمي يقودها للتعثر بالحفرة ذاتها التي لطالما أوقعت مبادرات فنية فلسطينية، ألا وهي المراهنة على استعطاف الجماهير بناءً على «فلسطينية» الفنانين ومصاعب حياتهم، لا لتفرّد فنهم.
نظرة من معرض «التقاء»، تصوير يزن اللجمي، 2022.
غلب ذلك الخطر على الكثير من مشاركات دوكومنتا 15 العربية وغيرها، والتي انزلق بعضها من السوسيولوجي إلى الإثنوغرافي. يمكن لزوار الفريديريكانوم مثلًا، افتراش سجاجيد شرقية كما في خيمة بدوية لمشاهدة فيلم «الأشجار الوحيدة» من تنفيذ «كومونة أفلام روجاڤا»، والذي يظهر فيه غناء فلاحون من الجزيرة السورية، أضيف إليه إيقاعات إلكترونية. يمكن للزوار أيضًا استراق النظر إلى تجهيز من تنفيذ «منصة سيوى» يحاكي غرفة معيشة فقيرة من منطقة الرديف التونسية، لا ينقصها إلا سكانها لتشابه حدائق الحيوانات البشرية التي تمتع بزيارتها أبناء العواصم الأوروبية في القرن التاسع عشر للتفرج على حياة مستعمراتهم.
أما الفنان التركي پينار أُغرنجي، فقد عرض ساترًا من محارم ورقية مخيطة «صنعتها نساء عانت خلال الأحداث التركية الكردية»، كما تنبه الورقة قرب العمل، وكأن دوكومنتا هو مناسبة للفرجة على الحياة اليومية لمعذبيّ العالم الثالث، بدل أن تكون مناسبة لإسقاط الضوء على أصوات فنية مختلفة ومعاصرة بحقّ في طروحاتها. ففي وقت يُطلب فيه من الفنان الغربي مستوى فني وفكري مرتفع أكثر وأكثر للمشاركة في معارض دولية مثل دوكومنتا، يكفي على الفنان الشرقي أن يلعب دوره المعتاد كضحية أو كغرض غرائبي كي يجد مكانه في معرض فن معاصر، أو أن يُغرق الأعمال بالشروحات والتبريرات المكتوبة التي تتكلم بالنيابة عن أغراض باهتة عاجزة عن فرض حضورها بلغتها الخاصة، مضفيًا على زيارة المعرض شيئًا من رتابة درس في علم الاجتماع.
«كومونة أفلام روجاڤا»، «الأشجار الوحيدة»، فيلم من عام 2018، تجهيز من عام 2022. تصوير يزن اللجمي.
بالمقابل، قدم تجمع «الورشة» التونسي نموذجًا مختلفًا لفن ملتزم قائم على العمل مع المجتمعات المحلية لا عليها، وبهدف وضع خبراته الفنية والتصميمية لتحسين ظروفها. منذ انطلاقه عام 2016 في وسط العاصمة التونسية، عملت «الورشة» مع سكان الحي على تصميم وتركيب أثاث حضري يحسن من نوعية الفضاء العام والتفاعلات الاجتماعية ضمنه، غالبًا باستخدام قطع رخيصة وإعادة تدوير مواد موجودة في مكان العمل ذاته، مثل الصناديق البلاستيكية أو الكراسي المكسورة. في هذه الدوكومنتا، عرضت «الورشة» نماذج من تلك الأعمال، منها مقاعد منمقة مصممة لإجلاس أكثر من شخص بوضعيات مختلفة، أو قارب سينمائي صنعه التجمع للمرة الأولى في بلدة الكرم شمال تونس.
أما البديل العربي الآخر عن النموذج الإثنوغرافي في دوكومنتا 15 فقد كان النموذج الوثائقي، حيث عرضت الفنانة مروى أرسانيوس الجزء الرابع من عملها «من يخاف من الأيديولوجيا؟»، وهي سلسلة أفلام وثائقية ابتدأتها عام 2017 للتطرق إلى العلاقة بين مجتمعات هامشية مختلفة (المقاتلات في شمال سوريا، عمال مقالع الحجارة اللبنانيون) وبين القوى الحكومية التي تتنازع معهم للتحكم بالأرض ومواردها.
أما تجمع «صدى» العراقي، فقد قدم خمسة أفلام قصيرة، كل منها عبارة عن سيرة ذاتية يروي من خلالها أحد أفراد المجموعة ما آلت إليه حياته بعد الغزو الأميركي، فيُظهر مثلًا فيديو «داخل المدينة» للفنانة سارة منيف مشاهد من حياتها في المنفى برفقة قصص تحكيها بصوتها، لكن سرعان ما يكتشف المشاهد أن ما يسمعه هو رسائل صوتية كانت قد أرسلتها الفنانة من هاتفها، وتبدأ نوافذ إشعارات بالتراكب فوق صورة المدينة لنقل أخبار العالم، لتجعل من العمل بورتريه تلفوني عن حياة اللاجئ، وعن دور الموبايل كوسيط بينه وبين أحبائه وعوالمه السابقة.
أحد تصميمات «الورشة». تصوير إينا فاسبيندر. أ ف ب.
الحوار الذي لن يحدث
عُرض في إحدى صالات الفريديريكانوم عمل تجمع عربي آخر هو «أرشيف نضالات النساء في الجزائر»، مجموعة تأسست عام 2019 بالتوازي مع الحراك الشعبي من أجل دراسة ورقمنة وثائق متعلقة بالنضال النسائي منذ استقلال الجزائر حتى اليوم، بهدف إتاحة هذا التاريخ إلى عامة الناس وعرض أرشيفاته. يقلّب الزائر بين منشورات مختلفة من فترة الثمانينيات (مجلات وكتيبات وملصقات) تركز على مسائل مثل دور النساء في العمل وفي المشاركة السياسية أو الاختلاط في المدارس. ككثير من الممارسات الأرشيفية البديلة الشائعة اليوم في الفن المعاصر، لا يسعى «أرشيف نضالات النساء في الجزائر» فقط وراء المعلومة التاريخية، بل يحاول حث المشاهد على النظر إلى تلك المنشورات بعيون معاصرة «تسلط الضوء على الروابط بين النضالات السياسية السابقة والحالية»، بحسب وصفه.
لكن تحريك السياقات عبر التاريخ والجغرافيا ليست لعبة آمنة، فمع افتتاح دوكومنتا في حزيران، اكتشف كل من تأمل بانتهاء فيلم معاداة السامية أنه بالعكس قد بدأ لتوه. أُزيل الستار في ساحة فريديريك عن جدارية كبيرة بعنوان «عدالة الشعب» مثّل فيها تجمع «تارينچ پادي» الإندونيسي القرن العشرين بطريقة قيامية تذكر بمداخل الكنائس الوسيطية: عالم الخير على جهة، والشر على الجهة الأخرى، وفيه قوى عسكرية واقتصادية مسيطرة مثل ديكتاتورية سوهارتو ومجموعة مجندين بوجوه شريرة، من بينهم عنصر موساد بنجمة داوود ووجه خنزيري. لم تتوانَ الصحافة الألمانية طبعًا عن انتقاء ذلك التفصيل لشن هجوم جديد أدى إلى إسدال ستارة سوداء على العمل بعد ثلاثة أيام من الكشف عنه، تبعها استقالة المديرة العامة لدوكومنتا وسط تموز. بعد ذلك ببضعة أيام، اكتشف أحد المقلبين في «أرشيف نضالات النساء في الجزائر» كاريكاتورات مشابهة بقلم ناجي العلي وبرهان كركوتلي كانت قد نُشرت أيامَ الانتفاضة الأولى، ظهر فيها جنود إسرائيليون بأنوف معقوفة ووجوه روبوتية بشعة. تناقلت الصورَ على تويتر حساباتُ أفراد ومنظمات حقوقية، وردّ المجلس المشرف على دوكومنتا بإزالة الرسومات دون موافقة الفنانين، مما خلق شرخًا في فريق دوكومنتا بين المجلس الإداري والرئاسة الفنية والفنانين الذين نشروا رسالة جماعية أدانوا فيها رقابة المجلس عليهم، وصرحوا عن مجموعة مضايقات عنصرية ومعادية للإسلام والمثلية تعرض لها بعضهم في كاسل.
من صالة عرض «أرشيف نضالات النساء في الجزائر»، مجموعة وثائق حول حقوق النساء الجزائريات والتجمعات والجمعيات النسوية، يعود تاريخها إلى التسعينيات، تصوير هشام مروش.
بعكس التهجم على «مسألة التمويل» الذي كان من البداية افتراءً بافتراء، من المتوقع تمامًا أن تصعق هذه الرسومات المشاهد الألماني العادي، وألا تفيد محاولات الفنان العربي للشرح بأن «معاداة السامية» و«السامية» مفاهيم غربية لا عربية، أو أن الهولوكوست لم تمر من دمشق ولا القدس، أو أن الصهيونية بعرقيتها وأصوليتها ما هي إلا الوجه الآخر للنازية، وأن «إسرائيل» استحقت في مخيلة شعوبنا صورة الوحش ذاته التي استحقتها النازية في مخيلة يهود أوروبا، لن تفيد تلك التبريرات لأن الصور تكفي لتذكير المشاهد الألماني بسياق آخر تمامًا، بعقدة ذنب جمعية، وربما بجدّ نازي أو خال أب عمل في آوشفيتز أو تريبلينكا. سيدخل الطرفان في صراع على حق تأويل الصورة، كما لو أن لمعناها جوهرًا منزّهًا عن التاريخ. أما مؤرخو الفن، فيعرفون أن انتقال أعراف تصويرية معينة من فضاء ثقافي إلى آخر لا يعني بالضرورة انتقال ارتباطاتها الأصلية، وأن معنى الصورة محكوم بالتغيّر مع تبدل علاقات القوى والسياقات التاريخية. فقد كبرنا جميعًا في مجلات وكتب الأطفال العربية على كاريكاتورات ظهر فيها الإسرائيليون، غالبًا الجنود منهم، بوجوه خنازير وأنوف معقوفة بشعة، والحقيقة هي أن تلك النمطيات لم تكن لا من إبداع كركوتلي ولا ناجي العلي، بل تسربت إلينا عبر تصويرات غربية عنصرية في أصلها، لكن ذلك لم يمنعها من أن ترتبط في السياق العربي بمعنى مختلف عن معنى نشوئها في الغرب، بحيث لم تعد تعبيرًا عن كراهية لليهود بسبب طبيعتهم كعرق، بل عن مقاومة لإيديولوجيا صهيونية.
المؤسف هو أن الفنانين ومؤرخي الفن هم من يحتل الموقع الأمثل للقيام بعملية التوسط هذه بين السياقات المختلفة، لكن أحداث دوكومنتا أثبتت استحالة نموّ عمليات من هذا النوع في مناخ تجييش شعبوي، ورقابة وارتياب وسوء ظنٍ تجاه كل ما هو عربي. بل قد تكون المفارقة التي تثقل دوكومنتا هي أن يرتبط أحد أهم معارض الفن «المعاصر» ببلد لا تزال مؤسساته ورأيه العام عاجزة عن تكوين نظرة معاصرة بحقّ تجاه مأساة الفلسطينيين، مفضّلين بأنانية اختصار عرب وإسرائيليي القرن الحادي والعشرين بالأدوار التي تناسب أشباح ثلاثينياتهم هم. المؤسف كذلك هو أن تولد شهرة مجموعة لا تزال في أول مسيرتها، مثل «أرشيف نضالات النساء في الجزائر» على شكل فضيحة. لكن الحادث الذي قد يبدو تعكيرًا على الغاية الأساسية من المجموعة يصب في الحقيقة في تلك الغاية، ألا وهي نبش التاريخ ومواجهة تراثه البصري بأسئلة لم نألفها سابقًا لكن صار من الضروري طرحها اليوم، أسئلة حول راهنية أو تعتّق مفرداتنا في سياق معولم مثل دوكومنتا، وحول الحاجة ربما لمفردات أكثر بلاغة وحدّة من شياطين القرون الوسطى أو كاريكاتورات مجلات الأطفال، مفردات تناسب طبيعة الصراع اليوم.
راهنية الحداثة العربية
جهود «أرشيف نضالات النساء في الجزائر» لإحياء ومساءلة سرديات تحررية وحداثية من القرن العشرين ليست حالة فردية أبدًا، بل قد تكون إحدى أهم تيارات الفن العربي اليوم.[1] بين عامي 2006 و2011، أقامت الفنانة ياسمين عيد صباغ، في مخيم برج الشمالي للاجئين الفلسطينيين قرب صور، حيث جمًعت بالتعاون مع سكان المخيم أرشيفًا رقميًا كبيرًا من الصور العائلية استخدمته في كاسل في عملها «سجالات فوتوغرافية» (Frictional Conversations)، عبر ممارسات صوتية ومطبخية تعيد تجسيد تلك الصور وسياقاتها. أما تجمع «تحريض للأفلام» فقد عرض مجموعة أفلام وثائقية مدهشة عن فلسطين، كانت قد غرقت في النسيان قبل أن يعيد التجمع اكتشافها في مستودع مهمل لأحد التجمعات اليسارية اليابانية الفلسطينية في ضواحي طوكيو.
عبوات الأفلام الأرشيفية التي جمعها تجمع «تحريض للأفلام»، 2022
بذات النَفَس الأرشيفي، قد يكون العمل الأكثر إبهارًا في دوكومنتا 15 هو تجهيز «وجوه مستعارة رقم 2» من تنفيذ «فهرس الممارسات النشرية». أسس التجمع هذا في برلين ثلاث فنانين سوريين مغتربين، هم سامي رستم وكنان درويش وعمر نقولا، هدفوا من خلاله إلى التركيز على «علاقة النشر بكتابة تاريخ الفن العربي المعاصر، العلاقات المتداخلة بين الثقافات المُسيطرة والمُسيطر عليها، ودور الترجمة كأداة للتضامن والتبادل في تفكيك الاستعمار ومواجهة الهيمنة الثقافية». في عملهم «وجوه مستعارة رقم 1» من عام 2019، والذي نُشر على شكل «فوتورومان»، أو رواية مصورة، مستوحاة من القصص المصورة العربية للسبعينيات، حبك الفنانون قصة ثلاث مثقفات عربيات متخيلات، يلعب أدوارهنّ الفنانون الثلاثة متنكرين. تلتقي البطلات في بيروت عام 1960، وتأخذهنّ المغامرات نحو الدهاليز الخلفية لدور النشر، حيث يلتقين بشخصيات حقيقية ووهمية، وبكمية من الكتب والأيديولوجيات التي وزّعت الإنتاج الثقافي العربي والحداثة العربية عمومًا بين المعسكرين الشرقي والغربي.
في الجزء الثاني من العمل، والذي أخذ هذه المرة شكل تجهيز توزعت فيه الصور على ألواح كبيرة في الصالة، تتابع البطلات الثلاث مشوارهنّ في مؤتمر روما للأدب العربي عام 1961، ومع ممثلين عن منظمة تضامن الشعوب الإفريقية والآسيوية في القاهرة، حيث تلتقين بأديبات مثل بنت الشاطئ ونازك الملائكة، وتكتشفن المزيد من خبايا عالم النشر وأجنداته. كما في الجزء الأول، يعجّ العمل بوثائق وصور حقيقية من أواسط القرن العشرين، ينتشلها «فهرس» من غبار الأرشيف كي تتفاعل معها شخصيات القصة وتنسج أراءها حولها. لكن أهم ما في «وجوه مستعارة» هو ابتعادها عن تمثيل الشخصيات والأماكن بدقة تاريخية، فكل «صفحة» من القصة هي لوحة فوتوغرافية مدروسة بوضعيات شخصياتها وملابسهم وديكوراتهم المثقلة بالتلميحات، والأهم، بالتصنع المقصود، فالأحداث تجري في غرف فاقعة الألوان من ديكورات ورقية تلعب فيها الشخصيات الذكرية ممثلات نساء وبالعكس، بحيث تبدو القصة وكأنها آتية من حلم غريب لا هو في الستينيات ولا هو في 2022، كون موازٍ تتلاقى فيه النضالات النسائية للستينيات بالنضالات الكويرية اليوم، وجهود مكتب المرأة الإفريقية الآسيوية بالنسوية التقاطعية، وجماليات الحداثة بجماليات فن الپوپ ما بعد الحداثي. باختصار، يمزج «فهرس» الجمالي بالسياسي للنظر إلى أواسط القرن العشرين، لا من منظور حنين إليه أو احترام لمصونيته، بل من منظور راهنيته اليوم، مثل مخزون بارود يجب إخراجه من المتحف، وتفكيكه وبعثرته وإشعال فتيل فيه علّه يدفع بتفكيرنا قدمًا عبر تساؤلات وإحباطات ما بعد الربيع العربي.
«فهرس الممارسات النشرية»، مشاهد من تجهيز «وجوه مستعارة رقم 2»، 2022
ازدهرت المعارض الفنية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية بازدهار الخطابات الحداثوية والإنسانية التي رأت في الفن المعاصر صلة الوصل بين الشعوب، وبازدهار التجريد الذي تبناه الفنانون عبر العالم، وسمح لكل منهم بالتفاعل مع مخزونه الثقافي دون القلق حول «رسالة» يجب إيصالها إلى مشاهد آخر. لكن تراجُع التجريد لصالح عودة الرغبة بالسرد أدخل المعارض الدولية في أزمة قد تكون دوكومنتا 15 هي ذروتها، ألا وهي أن استقدام أعمال عربية أو غيرها إلى ألمانيا، بشروحاتها وترجماتها، قد لا يكون كافيًا لخلق لقاء بين ثقافتين مختلفتين وسردياتهما، فاللوحات الغزيّة وكاريكاتيرات الانتفاضة وبيوت سكان الرديف قد تتحرك بسهولة عبر الحدود، لكن سياقاتها لا تتحرك معها بذات السهولة كي تضمن أن المشاهد الألماني أو الصيني أو المكسيكي سينظر إليها بذات الطريقة.
لإنقاذ نموذج المعارض الدولية في القرن الحادي والعشرين، تشير المشاركة العربية في دوكومنتا إلى ثلاثة حلول ممكنة: إما الاعتماد على صور نمطية ومريحة، أو ابتعاد العمل الفني عن خصوصيته البصرية وأدواته للتحول إلى درس تاريخ أو جغرافيا هدفه شرح السياق بطريقة تعليمية. لكن الحل الأجدى، كما تظهر تجارب «الورشة» و«صدى» و«فهرس»، قد لا يكون بتبسيط السياق العربي (عبر الكليشيهات أو الشروحات) بل بتعقيد العمل الفني بحيث يجتذب كل مشاهد بحسب خلفيته، ودون أن يستطيع المشاهد الاكتفاء بما يجتذبه دون بذل جهد للمرور عبر طبقات العمل الأخرى والتقرب من سياقاتها، بدلًا من أن تتقرب هي منه. يفترض ذلك طبعًا سياق عرض صحّي وحرّ. أما في سياق سوء الظن الغالب تجاه المشاركات العربية في دوكومنتا 15، فلا شيء يضمن أن تلك الاستراتيجية ستحمي العمل الفني من التهجم وإساءة الفهم.
-
الهوامش
[1] «راهنية الحداثة في الفن العربي للقرن الواحد والعشرين» هو عنوان رسالة الدكتوراه الحالية للكاتب، والتي أُخذت منها بعض أفكار هذا المقال.