«الذِّهنُ هو «ممكناته» وليس «ما فيه»، الذِّهنُ «تَوقٌ»، حنينٌ نحو مستقبل. ولكن إلامَ يتوقُ؟ وماذا يريدُ من تَوقه؟»
حسين البرغوثي
تحوّلات الأدب الفلسطيني: اغتراب الذات والمستقبل
«لماذا لم يَعُد الأدب الفلسطيني كما كان؟»،[1] يتساءل الناقد الفلسطيني فيصل درّاج في إحدى مقالاته، مُتحسّرًا على الأفق الفلسطيني الذي لا يُبشّر بإبداع الجيل الفلسطيني القديم؛ فما يُنتجه الحقل الإبداعي الفلسطيني اليوم بحسب درّاج، لا يُحافظ على تراث جبرا إبراهيم جبرا وغسّان كنفاني وإميل حبيبي في الحقل الروائي، ولا يضاهي إبداع محمود درويش في شبابه. أمّا المساهمات الإبداعيّة الأخرى مثل روايات سحر خليفة وقصص محمود شقير وشعر غسّان زقطان وغيرهم من الأدباء والأديبات، فيرى درّاج أنّها محض استمرار للإنتاج الإبداعي القديم الذي شقّ طريقه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولا يرتبط بما يفرزه الحقل الأدبي للجيل الجديد اليوم.
لعلّ الأمل الذي كان يتغذّى الأدب الفلسطيني عليه فيما سبق قد تحوّل إلى «خيبة» في مرحلة ما بعد أوسلو؛ إذ يعتقد درّاج أنّ ما جاء بعد «المنفى المُزهر» الذي احتضن الإبداع الفلسطيني فيما مضى ليس الوطن الذي يحلم الفلسطينيون به، وقد أثّر ذلك كلّه على المخيال الأدبي الخلّاق، وقدرته على خلق تصوّر ذهني للمستقبل الفلسطيني من جهة، وعلى تطلّعات جمهور القرّاء وأحلامه في ذلك المستقبل من جهة أخرى.
ولأنّ الأدب لا ينفصل عن ثقافة المجتمع وظروفه، يدرك درّاج أنّ تحوّلات الزمن والمجتمع تكاد تتماهى مع تحوّلات الأدب الفلسطيني وتوجّهاته. بالنظر إلى أدب الجماعة الفلسطينية الذي انبثق للحفاظ على الهوية والالتزام بالقضية الفلسطينية، فقد كانت قسوة المنفى والحاجة إلى الصمود خلال فترة الكفاح المسلّح وراء نَبذ الأدباء والأديبات «للنماذج الأدبيّة الجاهزة وخلق نماذجهم الجديدة».ورغم أنّ ما تمخّض عن المنفى الفلسطيني آنذاك هو أدب «تبشيريّ بسيط» على حدّ تعبير درّاج؛ فالرواية التي تبنّت السردية الفلسطينية كانت «رواية الأمل واليقين بالنصر وعودة الحق»، من أجل تعوّيض «بؤس الحاضر بنعيم المستقبل»،[2] إلا أنّها في دَأبها لخلق نهايات سعيدة ومتفائلة، استطاعت أن تحوّل المستقبلَ الفلسطيني إلى «استئناف للماضي السعيد»، لا يقوى على تحقيقه إلا البطل الفلسطيني الأسطوري الذي ينبثق من ذاته وينتصر، مثل بطل جبرا إبراهيم جبرا «في البحث عن وليد مسعود» بعد أن «جعل منه جبرا «سوبرمان» فلسطينيًا»، ومثل الصبي «المعجزة» الذي يتصدّى للعدو الصهيوني ويجمع شتات عائلته من جديد، كما بطل غسّان كنفاني في «ما تبقّى لكم».[3]
لذلك، لم يكن أمام «البطل الأسطوري» الذي أنتجه «أدب المقاومة» إلا أن يمتلك مأساته بالتعامل مع الحاضر على أنّه محض زمن واهن وفاسد، وأن يتبنّى عوضًا عنه ذلك الزمن الفاضل/ الداخلي الذي ينبثق من ذاته، مُستعيدًا به إرث جماعته الفلسطينية في الماضي، مؤمنًا بضرورة الاحتفاظ به والانتقال به إمّا إلى جنّة فلسطين في مستقبل ما بعد التحرير، أو جنّة السماء بعد الشهادة. في المقابل، ظلّت السردية الفلسطينية في أدب ما بعد أوسلو عالقةً في الماضي أو مستسلمةً إلى الزمن الحاضر-المُضطّرب/ الخارجي، ممّا ضيّق من حدود رؤيتها للمستقبل والحلم الفلسطيني.
في سياق مقارب لمرثيّة الأدب الفلسطيني بعد أوسلو التي يطرحها درّاج هنا، يعلن الناقد والأكاديمي إسماعيل ناشف عن «موت النصّ» الفلسطيني، عبر دراساته لإحدى التجارب الأدبية للجماعة الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948.[4] مفردة «الموت» التي يوظّفها الناشف هنا لا تأخذ من الموت صفة التوقّف عن الوجود؛ أي التوقف عن إنتاج نصوص أدبية فلسطينية بالمعنى الحرفي، بل تستمدّ صفاتها من مشهد الموت المتكرّر في السياق الفلسطيني، وحالة الفقدان المتكرّرة[5] التي يعاني منها الشعب الفلسطيني منذ النكبة حتى الوقت الحاضر.
وعليه، يتعامل ناشف مع «النص الفلسطيني» بصفته مرادفًا للجسد الفلسطيني الفردي المتداخل في نضاله مع جسد الأرض الجمعي، ليتشكّل بذلك مفهوم «الأنا الجمعيّة الفلسطينية» التي تعبّر السردية الفلسطينية عنها.[6] ونظرًا إلى أن اتفاق أوسلو قد أمعن في تشوّيه صورة الأرض المُتخيّلة في الوعي الجمعي الفلسطيني عبر تقطيعها، فقد أصاب «الأنا الجمعيّة» حالة من التشتت والانفصام في تعبيرها عن ذاتها، خلافًا «للأنا الجمعيّة» المتّسقة والموّحدة التي سعى «أدب المقاومة» لخلقها والتمسّك بها.
من هنا، يُقسّم ناشف أطوار السردية الفلسطينية[7] التي توظّفها الجماعة الفلسطينية للتعبير عن ذاتها إلى ثلاثة أطوار: «طور الضحية»، و«طور المقاومة»، و«طور الفقدان المتكرر»،[8] وقد تَراجَع «طور الضحية» الذي يتعامل مع الذات الجمعية بصفتها ضحية مُنكسرة ومُتشرذمة وعالقة في حنينها إلى الماضي، عند ظهور «طور المقاومة» الذي استردّ للجماعة الفلسطينية اعتبارها، وجعلها تتولّى زمام مأساتها بذاتها، بالتطلّع نحو المستقبل وحلم التحرير، إلا أنّ «طور الضحية» قد عاد إلى الظهور في تسعينيات القرن الماضي بعد أوسلو، وإن بأساليب أدبية مختلفة.[9]
أمّا «طور الفقدان المتكرر» الذي يناقشه ناشف من خلال أدب الأراضي المحتلة منذ عام 1948، فهو أسلوب أدبي- جمالي مختلف برز في تسعينيات القرن الماضي، يصوغ أساليبه بشكل منفرد ومغاير لطوري الضحية والمقاومة. إذ ينسحب هذا الأدب بالذات الفردية الفلسطينية بعيدًا عن الجماعة الفلسطينية، وينعكس ذلك في انشغالها بالهموم الفردية، و شعورها بالعزلة والاغتراب عن معنى الوطن الذي تقيم به، وعدم القدرة على التعايش مع الفقدان اليومي والمتكرر، بشكل لا يمكن فصله عن السياق الاستعماري/ الرأسمالي المتأخر.[10]
وعليه، فإن أدب «الفقدان المتكرّر» ينفصل بالذات الفردية عن «الأنا الجمعيّة» الفلسطينية، ويعجز عن التعبير عنها بشكل جمعي وصريح كما يعمل «طور المقاومة». ومع تراكم صور الفقدان على مدى الزمن، يلجأ الأدب في هذا الطور المتأخّر إلى الالتفاف والمراوغة بدلًا من مقاومة ومواجهة «الفقدان الأول»/ النكبة بشكل مباشر.[11] وعليه، تموت/ تتعطّل قدرة النص السردية في التعبير عن المأساة الفلسطينية الجمعية، ليصير النص المُغترب والمُتشظّي بحدّ ذاته تجسيدًا لتلك المأساة الفردية، عقب فقدان الجسد الجمعي للأرض والهويّة.[12]
فهل يعجز الأدب الفلسطيني اليوم عن الإتيان بأي شكل من أشكال المقاومة الجمعيّة؟ هل تبتعد الذات الفردية عن الذات الجمعية في أدب الجيل الفلسطيني الجديد؟ وهل يموت زمن المستقبل كما يموت النص الفلسطيني في آخر أطواره؟
الحركة المستقبلية الفلسطينية وأدب الخيال العلمي
«لا أمل في العودة إلى الطبيعي. هل ثمّة شيء «طبيعي» حتى نعود إليه؟»
مارك سينكر
في المهرجان الأدبي «فلسطين تكتب»[13] الذي كان من المقرر أن يُعقَد في شهر آذار عام 2020 في مدينة نيويورك، وعُقد بدلًا من ذلك -بسبب الجائحة- على الإنترنت في شهر كانون الأول من العام ذاته، طُرحت الحركة المستقبلية الفلسطينية و«الأدب التأمّلي» (Speculative Fiction)، بما يندرج تحته من أدب الديستوبيا والخيال العلمي، على جدول النقاش الذي جمع أدباء وأديبات من جنسيات مختلفة، من بينهم فلسطينيات وفلسطينيو الشتات في البلدان الغربية.
وعلى ما يبدو أن المهرجان الأدبي في طرحه للحركة المستقبليّة في سياق الأدب الفلسطيني قد جاء على خلفيّة صدور مجموعة قصصية بالإنجليزية بعنوان «فلسطين 100+: قصص بعد مرور قرن على النكبة» عام 2019، من تحرير بسمة غلاييني. حيث طُلب من مجموعة من الكُتاب والكاتبات من فلسطيني وفلسطينيات الشتات أن يكتبوا قصصًا تخييلية تستشرف مستقبل فلسطين، وتحديدًا في عام 2048. يأتي ذلك أيضًا على خلفية تلقّي الجمهور الغربي لرواية الكاتبة والصحافية الفلسطينية ابتسام عازم «سفر الاختفاء» على أنّها من «أدب الخيال العلمي»،[14] بعد أن ترجمها سنان أنطوان إلى الإنجليزية عام 2019، وكانت قد صدرت بالعربية أولًا عام 2014.
برزت عدة تساؤلات حينها عن سبب «تأخّر» الأدب الفلسطيني في الانضمام إلى الحركات المستقبلية البديلة،[15] خاصةً بعد ظهور عدة تجارب فلسطينية مستقبلية في مجال السينما والفنّ والموسيقى،[16] وسارع البعض حينها إلى ربط هذه الأعمال بالحركات المستقبلية الأصلانية، لا سيما المستقبلية الإفريقية (Afrofuturism) التي انطلقت مطلع تسعينيات القرن الماضي بوحي من الميثولوجيا والموسيقى والسينما السوداء في الشتات، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، لتشتهر عقب ذلك تجارب متنوعة في حقل الخيال العلمي الأسود[17] بعد أن ظلت الحركات المستقبلية حكرًا على المخيال الاستعماري الأبيض، ومرتعًا خصبًا لغزواته الفضائية رَدَحًا من الزمن.
يمتاز الأدب الفلسطيني الذي تُنتجه أجيال النكبة اللاحقة بأنّه يقتات على مخيّلة/ صورة الوطن المتشكّل في ذهن جيل النكبة الأول، فيعيد بسرديته إنتاج صورة عن هذه الصورة، وهذا فعل تراكميّ لا يمكن التشكيك بضرورته أو الانتقاص من شأنه.
في مقدمة المجموعة القصصية «فلسطين 100+»، تُرجع المحرّرة بسمة غلاييني «غياب أدب الخيال العلمي» عن المشهد الأدبي الفلسطيني لسببين: أولًا، ترى غلاييني أنّ أدبًا كهذا يُعتَبر محض «رفاهية لا يستطيع الفلسطينيون أن يهربوا إليها. إذ يُطبق الحاضر القاسي والماضي المليء بالصدمات قبضتيهما على الكُتّاب الفلسطينيين ويَمْنعانهم من استكشاف إمكانيات المستقبل».[18]
قد ينطبق تفسير غلاييني على الأدب الفلسطيني في «طور الضحية» الذي ذكرناه آنفًا، إلا أنّه يتناقض مع تطلّعات «أدب المقاومة»، فرغم تراجع «طور المقاومة» كما يطرحه الناقدان فيصل درّاج وإسماعيل ناشف، إلا أنّه لا يلغي الرؤية المستقبلية ولا التأمّلية في الأدب الفلسطيني على الإطلاق. المستقبل الذي ظلّ حلمًا مؤجلًا وضمنيًا، آمن «أدب المقاومة» بإمكانية تحقيقه يومًا ما، فلم يَلِج في تفاصيله الماورائية، ولم يذهب أبعد من ذلك في تخيّل الحياة بعد العودة وتحقيق النصر.
من جهة أخرى، لم يجرؤ الأدب المقاوم على استشراف نهاية كابوسية تلغي العودة إلى الوطن كليًا، إذ بدت مهمّة «أدب المقاومة» وكأنّها ستنتهي إلى حيث ينتهي ما/ من تقاوم ضدّه، فانحصرت أولويته في تخيل الطريق إلى المستقبل لا المستقبل نفسه، فما الغاية من أدب اليوتوبيا الذي ينشغل في تفاصيل المستقبل الفلسطيني مادامت النهاية الطوباوية السعيدة والمتفائلة مضمونة من منطق المقاومة، حيث العودة الأبدية إلى الأرض المقدّسة؟
قد يعود ذلك إلى أنّ مفهوم المقاومة السائد لا يشمل التفكير والتخطيط لزمن المستقبل الذي يسعى الفلسطينيون إليه، وينحصر عوضًا عن ذلك في الزمن الحاضر. يجادل فائق مرعي، في مقالة أنجزت ضمن مشروع «لفتا» المستقبلي،[19] أنّ التفكير الفلسطيني بالمقاومة ينحصر «في تصوّرها كأداة لدرء مخاطر آنية، والحؤول دون تقديم تنازلات وتهاوٍ أدنى للواقع السياسي»، لكنّه يرى أنّ جوهر المقاومة وغايتها أكبر من ذلك بكثير، أوجها هو التحرر من الاستعمار والعودة ، لكنّها فعليًا تمتدّ إلى ما بعد التحرير، عبر تصوّر شكل المجتمع الفلسطيني الذي نسعى إليه مستقبلًا.[20]
لا يعني ما سبق أنّ الكتّاب الفلسطينيين من جيل أدب المقاومة لم يتطلّعوا إلى المستقبل الفلسطيني ولم يفكرّوا به على الإطلاق، إلا أنّ انشغالهم المتفائل بتخييل أساليب المقاومة الراهنة سعيًا للوصول إلى المستقبل المنشود، جعل من اليأس والتشاؤم رديفًا للتراخي والتقاعس عن الكفاح المسلّح. لذلك، ليس مستبعدًا أن يعتبَر أدب الديستوبيا والخيال العلمي محض «ترف أدبي» لا وقت ولا متّسع له من منطق المقاومة. إذ يستوحي هذا النوع من الأدب مأساويةَ الحاضر، دون تجاهل إرث الماضي، ليحذّر من الحنين المُفرط إلى الماضي عبر الالتصاق به كصورة مقرّبة عن المستقبل النموذجي. وقد يضطر أدب الديستوبيا والخيال العلمي أحيانًا إلى التهام جزء من الأمل القديم الذي يتغذّى عليه الفلسطينيون يومًا بعد يوم، أو نسف جزء آخر من أحلام الماضي المتفائلة، أو تشويه صورة الوطن النموذجي/ المقدّس في الوعي الجمعي، ممّا يجعل هذا النوع من الأدب بمثابة انتقاص من قيمة التضحيات التي ما انفكّ الشعب الفلسطيني يقدّمها، أو صدمة أخرى تتكدّس في رصيد صدماتهم، خاصةً إذا ما تجرّأ على مواجهة الأسوأ، وظهر سوداويًا ومهزومًا وبعيدًا بشكل صارخ عن الوطن المفقود، بلا التفاف أو مراوغة.
ثانيًا، تعتقد غلاييني أنّ أدب الخيال العلمي ليس معروفًا عند الكتّاب الفلسطينيين لأنه يتميّز بوضع الحدود الفاصلة بين الأبطال والأعداء، أمّا في الأدب الفلسطيني فـ«تغيب فكرة «العدوّ» بشكل كبير، فالإسرائيليون لا يظهرون كأفراد في أدب التخييل الفلسطيني، وإن ظهروا فلا يُصوّرون على أنّهم أشرار تمامًا»، وتستشهد بشخصية الإسرائيلية «ميريام» في رواية غسّان كنفاني «عائد إلى حيفا» التي صوّرها كنفاني على أنها «حسّاسة، ومتعاطفة، تشعر بالعار ممّا فعله شعبها بالفلسطينيين».[21]
إنّ المثال الوحيد الذي تقترحه غلاييني كتبرير لغياب «فكرة العدوّ» بغياب «الفرد الإسرائيلي الشرير» لا يمكن تعميمه لا على أعمال كنفاني ولا حتى على الأدب الفلسطيني.[22] إذ تسلك «فكرة العدوّ» الصهيوني في فكر كنفاني المقاوم طريقها بأساليب متجدّدة، تمكّنه من تحديد عدوّه جيدًا في عدد من أعماله، وإن لم يشتغل على صقل شخصية العدو جيدًا فهذا لأنّه ليس من أولويات الحبكة السردية التي غالبًا ما تركّز على الشخصية الفلسطينية في المقام الأول لا الصهيونية، ولا يشير ذلك بالضرورة إلى غياب «فكرة العدوّ» لديه. فابتداءً من الجنود الإنجليز، «العدوّ» الاستعماري الأول، في مجموعته القصصية «عن الرجال والبنادق» عام 1968 (حيث نرى شخصية «أبو حسن» تشتبك اشتباكًا مباشرًا مع سيارة إنجليزية وتنجح في عرقلة سيرها) وانتهاءً بالعدوّ الصهيوني في رواية «ما تبقّى لكم»، والمواجهة المباشرة بين «حامد» والجندي الصهيوني في الصحراء (التي تنتهي بتغلّب الفلسطيني على الصهيوني)، يرسم كنفاني الحدود جيدًا بين البطل الفلسطيني المقاوم وعدوّه المستعمِر.
ما تغفل غلاييني عن ذكره هو أنّ «فكرة العدوّ» واضحة ضمنيًا في العديد من الأعمال الأدبية الفلسطينية، لا تحتاج إلى رسم حدود واضحة، وغياب الإسرائيليين كأفراد في الأدب الفلسطيني لا يعني غيابهم «كأعداء» بالضرورة، وإنْ لم يُصوَّر الإسرائيليون الأفراد على أنهم «أشرار»، فالجنود الصهاينة في الأدب الفلسطيني لم يظهروا بمظهر «الملائكة» أيضًا.
لكنّ ملاحظات غلاييني -على ما يبدو- تمهّد لإجراء مقارنة بين ظروف وأدوات الكتابة في الوطن وبين الشتات الفلسطيني، إذ تنتقل بعد ذلك إلى مناقشة مسألة الكتابة في البلدان الغربية حول الواقع الفلسطيني التي تجعل الكاتبة أو الكاتب أكثر «عرضة لاتهامات «معاداة السامية». وعبر النظر إلى أدب الخيال العلمي في السياق العربي، وتحديدًا الأدب المصري،[23] تحاول غلاييني أن تؤصّل لأدب الخيال العلمي «كضرورة» أدبية لما يؤدّيه من وظيفة رمزية، «تعيد تأطير الحاضر» بشكل موارب، لمواجهة أنظمة الرقابة القمعيّة.
تتطلّع غلاييني في مقاربتها هذه -رغم اختلاف مصادر الرقابة القمعية في السياقيْن العربي والغربي- إلى أدب الخيال العلمي بصفته وسيلة لتقديم القضية الفلسطينية بطريقة مغايرة. ما يُحيلنا إلى الجمهور الذي وُجّهت إليه هذه المجموعة القصصية منذ البداية، وهو الجمهور الغربي، وتحديدًا الجمهور في المملكة المتّحدة، الذي كان مُتحمًسًا للفكرة لدى طرحها،[24] ممّا يبرّر صدور المجموعة القصصية بالإنجليزية أولًا، علمًا بأن معظم القصص التي أُنجزت خصّيصًا للمساهمة في هذه المجموعة القصصية قد كُتبَت بالعربية.
يقول الكاتب والناقد الأمريكي الأسود صامويل ديلاني إنّ أدب الخيال العلمي هو «نوع من الأدب الذي لا يمكنك أن تجد كُتّابه إلا إذا وجدت قُرّاءه»،[25] ممّا يجعل من نظرية التلقي و نوعية الجمهور المتلقي محوريْن رئيسييْن في إنتاج هذا النوع من الأدب التأمّلي بالتحديد. فأين هو الجمهور العربي والفلسطيني من أدب الخيال العلمي؟ وهل غياب هذا الجمهور يبرّر غياب الخيال العلمي عن الأدب الفلسطيني؟ ما الذي يحلم أن يضيفه أدب الديستوبيا إلى الواقع الفلسطيني الأسطوري الديستوبي بحد ذاته؟ وأي فائدة سيضيفها العلم إلى الخيال الفلسطيني في الوقت الذي يسخّره الاستعمار الاستيطاني/ الرأسمالي لتصنيع أبشع الأسلحة التقنية والكيماوية وتجريبها على الجسد الفلسطيني، وابتكار أحدث الأدوات التكنولوجية لتشييء الفلسطينيين، ومراقبتهم، وتفحّص أدق تفاصيل حياتهم؟
بالرجوع إلى تحوّلات الأدب الفلسطيني وأطواره التي ناقشناها مسبقًا، يتبيّن لنا أن التوصّل إلى أدب الخيال العلمي بديهيٌ في زمن اغتراب الذات والمستقبل عن أدب المقاومة على حد تعبير دراج، وزمن «أدب الفقدان المتكرر» بعد أوسلو، وزمن «استحالة المعيش اليومي الجمعي» بشكل لا يمكن فصله عن السياق الاستعماري/ الرأسمالي كما يجادل ناشف،[26] وزمن اغتراب الأشياء عن طبيعتها/ أصالتها في السياق المُعولم إلى أن فقدت كثيرًا من معانيها.
«فلسطين +100»: بين المعرفة الأصلانيّة والرأسمالية المتأخّرة
«إذا كان الخيال العلمي بمثابة علم الأساطير (الميثولوجيا) في العصر التكنولوجي الحديث، فأسطورته مأساويّة إذن»
أورسولا لي جوين
تنوّعت تجارب موجة الخيال العلمي الجديدة التي برزت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الغرب، وذلك للارتقاء «بأدبيّة» و«فنّية» الخيال العلمي عبر الابتعاد به عن المجلات زهيدة الثمن «Pulp Magazines» إلى صفحات الكتب الأدبية، وكان لازمًا حينها الالتفات إلى مواضيع أكثر تعقيدًا، تُعالج عواقب الحروب على الأرض بدلًا من الفضاء، وتلتفت إلى المخاطر البيئية، وتسافر إلى عوالم الذات الداخلية لتسبح في الفضاء الداخلي بدلًا من أن تظلّ سابحةً في الفضاء الخارجي.[27]
مع ذلك، ظلّ البعض ينظرون إلى أدب الخيال العلمي بدونيّة باعتباره جزءًا من الثقافة الشعبية، ناهيك عن الاعتبارات التسويقية التي حوّلته إلى «سلعة» استهلاكية.[28] لكنّ اهتمام نقّاد ما بعد الحداثة، مثل الناقد الأدبي والمنظّر الماركسي الأميركي فريدريك جيمسون، بالتنظير لأدب الخيال العلمي بصفته استعارةً تحمل دلالات الصراع الطبقي التكنولوجي في ظلّ هيمنة الرأسمالية المتأخرة على العالم،[29] جعل من الخيال العلمي حقلًا أدبيًا جديرًا بإعادة الاستكشاف والدراسة.
بالعودة إلى النقاش الذي طُرح في المهرجان الأدبي الفلسطيني، يظهر أن بعضًا من الكاتبات والكُتّاب[30] رفضوا استخدام تصنيف «خيال علمي»، بعيدًا عن أي اعتبارات تسويقية، لما يستحضره في الأذهان من مشاهد إمبريالية غربية، تُقصي الآخر (غير الأبيض) وتُشيْطنه وتصوّره على أنّه «فضائي» من حقّها أن تدافع عن نفسها ضدّه. ممّا يحيلنا إلى الحركات المستقبلية الإفريقية والأصلانيّة البديلة التي استبدلت بهذا التصنيف النمطي نوعًا آخر أكثر قدرة على التعبير عن مآسي الجماعات المُهمّشة والمستضعفة في السياق الاستعماري، بالاتّكاء على المعرفة الأصلانية كأساليب لفكّ الاستعمار، والتمثيل المستقبلي المستقلّ للذات الجمعيّة ضمن السياق الأصلاني.[31]
تضمّ المجموعة القصصية «فلسطين +100» 12 قصةً، لعدد من فلسطينيات وفلسطينيي الشتات، بعضهم ممّن انتقلوا للعيش في الخارج في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى كُتّاب آخرين من غزة والضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948.
ورغم تنوّع عناصر الخيال العلمي التي وظّفها الكُتّاب والكاتبات في المجموعة القصصية، مثل المحاكاة، والسفر عبر الزمن، والأشباح ذات القوى الخارقة، والعوالم المتوازية، والسيطرة على القوى العقلية، وغيرها من العناصر التي تشغل حيزًا في فضاءات سيبرانية خارقة أو عوالم ديستوبية مظلمة وملوّثة وغير صالحة للعيش البشري، إلا أنّ الكتاب والكاتبات لم يتخلّوا عن دمجها بالمعرفة الأصلانية الفلسطينية، وما تشتمل عليه من المعاني المتداولة في الثقافة والوعي الجمعي، كالرموز الثوريّة الشعبية والموروث الديني والتاريخي.
تفتتح المجموعة القصصية بقصّة «أغنية العصافير» لسليم حدّاد، حيث يُسخّر الاستعمار الإسرائيلي الذاكرة الجمعية الفلسطينية وما تختزنه من أحلام لخلق عالم مبني على المحاكاة الرقمية، فيما يبدو واقعًا مغايرًا لمدينة غزّة. تعيش «آية»، الشخصية الرئيسية مع والديْها في هذا العالم الوردي المسالم، حيث البحر النقي غير الملوّث، تغرّد العصافير، وتمتدّ حقول الزيتون، ولا يبدو أنّ ثمّة ما يُعكّر صفو هذه الحياة سوى ذكريات «آية» حول أخيها «زياد» الذي انتحر قبل عام.
يوظّف حدّاد أحلام «آية» المتكرّرة بأخيها كمدخل إلى العالم الواقعي، فالموت كما يخبرها زياد هو بوابة الخروج من المحاكاة، ولا يمكن ذلك إلا من خلال مواجهة الحقيقة والتحرّر من النوستالجيا وذكريات الأجداد التي تطوّق الأجيال الشابة، لتحبسهم في «جنّة أبديّة» من أحلام الماضي لا أحلامهم المستقبلية. هكذا، نرى «زياد» يحذّر أخته «آية» عندما يزورها في أحد أحلامها:
«كلّ ما أقوله هو أنَ الأشياء ليست كما تبدوعليه دائمًا. أتذكرين ما كانوا يُعلّموننا في كتب التاريخ؟ كيف حرّرنا فلسطين وأنّ الاحتلال قد انتهى الآن؟ الاحتلال متقدّم جدًا، يملكون كلّ هذه التقنيات التكنولوجية، تكنولوجيا السيطرة والاستعباد. مدينتنا غزّة هي مختبر لتجاربهم، نحن العرب محتجزون في أحلام أجدادنا الوردية، نحن محض جيل آخر رهين لنوستالجيا آبائنا».[32]
كل ما يفعله والدا «آية» في عالم المحاكاة الذي يخلقه الإسرائيليون هو النوم، لأنّهم يدركون وَهم المحاكاة الرقمية ولكن لا يستطيعون مواجهته. فيما يبدو لحن العصافير الذي تسمعه «آية» في عالم المحاكاة بإيقاعه المتكرّر الرتيب مثيرًا للريبة؛ إنه لحن الحرية الرقمية الوهمية التي تظلّ الأجيال الشابة رهينة لها. لذلك، يحاول «زياد» أن يرفع من وعي «آية»، ويشجّعها على اتّخاذ القرار: إمّا الوهم والتعلّق بذكريات الماضي، أو الصحو من الأحلام والخروج من عالم اليوتوبيا الذي خلقته المحاكاة، والعودة إلى الواقع الديستوبي في غزّة، لمواجهة الفقدان الحقيقي.
يخلق حدّاد في نهاية القصّة مشهدًا مؤثرًا: «آية» في لحظة الصحوة، وهي تحملُ حقيبةً مليئةً بالحجارة على ظهرها، وتغطس في البحر. تستحضر الحجارة التي تُثقل عاتق «آية» -لتغرق وتموت بسرعة- رمزًا ثوريًا ذا معنىً متداولًا في الوعي الجمعي الفلسطيني وهو الحجارة، التي لا تستعملها «آية» للانتفاضة والمقاومة ضدّ الاستعمار بالشكل الذي نعرفه هذه المرة، بل تحملها كأداة مقاومة للوهم، وسلاح للتحرّر من عبء الماضي، من أجل العبور بالجسد نحو المستقبل.
تختتم المجموعة القصصية بالقصة الطويلة (النوفيلا) للكاتب الفلسطيني مازن معروف بعنوان «لعنة صبي كرات الطين»، متمثّلة في شخصية البطل الخارق المتناهي الصغر بحجم الميكروبات؛ «الفلسطيني الأخير» المُحتجَز في مكعب زجاجي لأن موته الوشيك قد يخلّف كارثة تودي بحياة الإسرائيليين جميعًا.
يبتكر مازن معروف عالمًا مستقبليا خاليًا من الفلسطينيين، فمن بقي منهم يعيشون في قطاع «جنوب فلسطا» الفقير، حيث تسرق «منظمة كيبوتس أهارون» الإسرائيلية خيالات الأطفال وأحلامهم، ثمّ تعيد توجيهها إلى الماضي عبر كوكب اسمه «دابريا» ويعني ملاك الموت. وبدلًا من أن يتخيّل الأطفال ما يحلو لهم، يُجبَرون على تخيّل ما تعيد المنظمة الإسرائيلية بثّه إلى مخيّلاتهم؛ وهو مشاهد النكبة على نحو متكرّر: «أطفال جياع، عراة، رؤوسهم حليقة، يعيشون في مخيمات».[33] ومع مرور الوقت واستمرار سرقة خيالات الأطفال واستبدالها كلّ ليلة يخلدون فيها إلى النوم، تبرز عظامهم، وتسقط أسنانهم، إلى أن يموتوا جوعًا.
يبرع الكاتب عبر خلق شخصيات بأسماء وعلامات فارقة مثيرة للسخرية في بناء عالم مستقبليّ يحمل الكثير من ملامح العالم النيوليبرالي الاستهلاكي والواقع الاستعماري الاستيطاني الحالي في آن معًا. بدءًا من شجرة الجوافة[34] التي تملكها جدّة «الفلسطيني الأخير» وتحمل جزءًا من روحها، لكن الجدار العازل قد أبعدها وأصبحت ملكًا لجارهم ذي الأصول اليهودية- الفلسطينية، وموظفة ال «NGO» التي تُقنع «الفلسطيني الأخير» أن يمثّل في إعلان لمعجون أسنان اسمه «الأمل»، لأنّ أسنانه لم تسقط بعد مثلما سقطت أسنان الأطفال الآخرين! وشخصية «زئيف» المسؤول عن حمل المكعب الزجاجي حيث يقبع «الفلسطيني الأخير» دون أن يفارقه المسدّس الذي كان أحد أجداده القدامى قد سرقه من جندي ألماني نازي، وشخصية الإسرائيلية «صوفيا بورنو» نجمة الأفلام الإباحية، وغيرها من الشخصيات والحبكات السردية الاعتباطية التي لا يُمكن تفسيرها إلا بالنظر إلى الحاضر الفلسطيني في السياق النيوليبرالي، بكلّ ما يصاحبه من خراب بيئي، وتسويق استغلالي، واستهلاك مثير للغثيان، وعنف تكنولوجي مُصنَّع ما انفكّ يتجّدد.
بأسلوب أقرب إلى الواقعية السحرية، يلاحظ سكّان الكيبوتس أنّ أشباحًا على هيئة أجساد «الفلسطا» تتجوّل في كل كيبوتس، وكل بلدة. تنتهي القصة بمشهد «زئيف» الذي يحمل «الفلسطيني الأخير» في مكعب زجاجي على دراجته، ويجول بها بين أطفال الكيبوتس، ويسألهم: «هل يستطيع أحد منكم أن يثبت أنّهم الأشباح ولسنا نحن؟»[35] سؤال يرعب الأطفال الإسرائليين ويجعلهم يشككون بحقيقة وجودهم، بينما يظلّ «زئيف»- البطل الإسرائيلي في نظر شعبه مُلازمًا «للفلسطيني الأخير» البطل الخارق في نظر نفسه، لا يتوقّف عن إطلاق النار عليه آملًا أن تضعف طاقته، حتى يتمكّن من سرقة فكرته عن البطل الفلسطيني الخارق الذي يتشكّل على هيئة ميكروب صغير مدمّر.
لا يبدو واضحًا من القصة بنسختها المترجمة إلى الإنجليزية دلالة كلمة «Mud Ball» التي يحملها عنوان القصة، ولكن في النظر إلى اختفاء كلمة «فلسطين» وتحوّلها إلى كلمة «فلسطا» في القصّة، يبدو أن الكاتب قد نزع كلمة «طين» وأعاد استخدامها بذكاء في شكل آخر: كرات الطين -التي يتحوّل إليها «الفلسطيني الأخير» قبل أن يتمكنوا من احتجازه في المكعب الزجاجي- والتي تتجسّد على هيئة صور هولوغرافية ثلاثية الأبعاد، تعكس خيالات «أطفال فلسطا» المسروقة. وبذلك، يوظّف الكاتب كلمة «فلسطين» المجزّأة لتكون مجازًا للخيالات المسروقة، في إشارة إلى أهمّية استمرار وتجدّد المُخيّلة الأصلانية كشرط لوجود المستقبل الفلسطيني.
يُعلي مازن معروف بأسلوبه البارع من شأن الخيال الفلسطيني في قصته، بحيث تصبح أصالة الأفكار الخيالية شكلًا من أشكال المقاومة الفكرية ضدّ النظام الاستعماري/ النيوليبرالي؛ ضدّ كل ما هو مسروق، ومُقلّد، واستهلاكي، وإباحي في القصة. يموت الأطفال الفلسطينيون جوعًا عندما تُسرَق خيالاتهم، أمّا «الفلسطيني الأخير» فقد ظلّ على قيد الحياة/ الانفجار لأن لديه فكرة أصيلة نابعة من خياله الطفوليّ الخصب، باستطاعتها أن تسبّب دمارًا شاملًا «لإسرائيل الكبرى».
تتنوّع الثيمات وعناصر الخيال العلمي في المجموعة القصصية، وتتقاطع بعض القصص في توظيفها أجناس أدبية أخرى كالواقعية السحرية ( أشباح وأرواح الماضي). وهكذا توظّف عناصر الخيال العلمي أجزاءً من المعرفة الأصلانية والذاكرة الجمعيّة في إطار النموذج الرأسمالي المعولَم، سعيًا لتخييل المستقبل التكنولوجي في فلسطين. يتضّح هذا على سبيل المثال عبر العودة بالزمن إلى الشخصيات التاريخية والوطنية وبعثها إلى الحياة المستقبلية مجددًا من خلال الواقع الافتراضي التكنولوجي، مثل شخصية «عزّ الدين القسّام» كما في قصّة «بطل شخصي» لعبد المعطي مقبول. بينما يُؤثِر بعض كتّاب المجموعة القصصية الاحتفاظ بالرموز الشعبية والثورية الفلسطينية، كما في قصة «المفتاح» لأنور حامد، حيث يكتب عن عودة الفلسطينيين مستقبلًاعلى هيئة أشباح، يحملون مفاتيحهم للهجوم على بيوت الإسرائيليين. في المقابل، يبدو أنّ التخلّي عن الذاكرة والتلاعب الرقمي بالتاريخ ومحو الحقائق من أنظمة البيانات باستخدام تقنيات سيبرانية إسرائيلية عالية التقدّم هو الشرط الوحيد لإقامة جدار عازل بين عالمين متوازيين، واحد للفلسطينيين وآخر للإسرائيليين كما في قصة «N» لمجد كيّال.
إنّ إصرار معظم الكُتّاب والكاتبات في المجموعة القصصية على الاحتفاظ بجزء من المعرفة الأصلانية، دون تجاهل خطر النموذج النيوليبرالي المعولَم للمستقبل، عبر خلق عوالم ديستوبية تُطبق التكنولوجيا على أنفاس من فيها، يعكس درجة الوعي «بمأساوية المأساة» الفلسطينية على حدّ تعبير ناشف، وضرورة عودة الذات الفردية إلى «الأنا الجمعية» الفلسطينية مستقبلًا، إلا أنّ توظيف التأمّلي والأسطوري والخارق للطبيعي هنا يبدو أنّه الأسلوبية الأكثر نجاعة للتعبيرعن مأساوية الحاضر، وإن كانت أسلوبية متطرّفة بالغالب، فهي تواجه «الفقدان الحقيقي» بلا مراوغة والتفاف، بالتطلّع نحو الأمام لا إلى الوراء فقط، وبالاتّكاء على عناصر الصدمة واللامألوف.
رغم أنّ محاولات كتابة قصص المجموعة من منظور النهاية (المستقبل) لا تنتهي غالبًا إلى توحيد الزمن الماضي بالمستقبل الفلسطيني، كما سبق وناقشنا في أدب «طور المقاومة»، ولكنّها تعيد النظر في مفاهيم الحاضر لعلّها ترفع بذلك من سقف المقاومة الفكرية إلى حد أبعد، وتشرع في إمكانية بناء مستقبل فلسطيني مغاير، لا محض نسخة نوستالجية مكرورة يستحيل استرجاعها تمامًا بالشكل الذي كانت عليه في الماضي.
يوتوبيا الفضاء الاستعماري: الوجه الآخر لديستوبيا الاختفاء الفلسطيني
«أمّا بعد، فقد اختفيت. ولكنني لم أمت، الأهم أنّ اختفائي جاء في أمر عجب ترقّبت وقوعه طول العمر، والتقيت مخلوقات هبطت علينا من هذا الفضاء السحيق».
إميل حبيبي
طُرحَت رواية ابتسام عازم «سفر الاختفاء» في المهرجان الأدبي الفلسطيني الذي عرضنا له مسبقًا على أنّها من أدب الخيال العلمي، رغم أنّ الكاتبة نفسها لم تُصنّفها كذلك.[36] إذ تنطوي الرواية على حدث خارق للعادة، وهو اختفاء الفلسطينيين من كل أراضي فلسطين دون تقديم أي تفسير لذلك، لكنّها لا توظّف عناصر الخيال العلمي المتعارف عليها، ولا تبني عوالم مستقبلية قائمة على التكنولوجيا الرقمية، فلا تتقاطع مع عناصر الخيال العلمي إلا عبر الفضاء الديستوبي الذي يسود الرواية عقب حادثة الاختفاء التي وقعت بين ليلة وضحاها.
يذكّر عنوان الرواية بالفضاء الغرائبي الذي خلقه إميل حبيبي من شخصية «سعيد أبي النحس المتشائل»، أمّا حبكة الرواية فتشبه إلى حد ما حبكة المسرحية الكوميدية الأميركية «يوم الغياب» للكاتب المسرحي الأسود دوغلاس تورنر- وارد، لكنّ الفلسطينيين يختفون بلا أثر في رواية عازم وليس كما يختفي السود ويعودون في اليوم التالي كما في مسرحية وارد. أمّا الفوضى التي تعمّ البلدة إثر اختفاء السود في ذاك اليوم فتشبه إلى حدّ كبير الفوضى التي تعمّ يافا وضواحيها يوم اختفاء الفلسطينيين؛ لأنّ السود هم الطبقة العاملة التي يتفاجىء سكّان البلدة البيض بأنهم لا يستطيعون الاستغناء عنها. هكذا تتدرّج الرواية في التقاط مشاهد اختفاء الفلسطينيين المفاجىء من أشغالهم في محطة الباص، واختفاء الفلسطينيات القادمات للعمل من مخيّم «بلاطة» إلى مزرعة «شمعون»، واختفاء المعتقلين من السجن، واختفاء الأطبّاء العرب من المستشفى، إلى أن يتصدّر الخبر الجرائد ونشرات الأخبار:
«العرب اختفوا! ببساطة اختفوا! لم يظهر أي منهم في مكان عمله. بيوتهم خالية، هواتفهم ترنّ ولا أحد يجيب، لا العمال، ولا المتسوّلون، ولا السجناء، ولا المدرسون، ولا المرضى، ولا أصحاب المقاهي، ولا الطبّاخون، ولا الزبّالون، جميعهم اختفوا».[37]
ترتكز الرواية على شخصيتين رئيسيتين تنعكس من خلالهما أحداث الاختفاء؛ «علاء»، المصوّر التلفزيوني الفلسطيني، وصديقه «أريئيل»، الصحافي الإسرائيلي. توظّف الكاتبة راويًا عليمًا لسرد الأحداث، وتُفرِد كذلك أجزاءً خاصة بصوت «علاء» من خلال كتابة مذكّراته التي تبدو في أغلبها رسائل إلى جدّته اليافاوية «هدى»، ليتبيّن لاحقًا أنّنا نقرأها من خلال «أريئيل» الذي تسلّل إلى شقة «علاء» واستولى عليها، وأخذ يتجسّس على دفتر مذكّراته عقب حادثة الاختفاء.
ما تكشفه مذكّرات «علاء» هو أنّ الاختفاء لم يحدث بين يوم وليلة، لأنّ الفلسطينيين الذين أُخرجوا منذ عام 1948 بالإضافة إلى أولئك الذين ظلّوا يعيشون فيها هم كالأشباح في مدينة يافا. وهكذا تنقسم الرواية إلى حدث اختفاء داخلي-مجازي في مذكّرات «علاء»، وحدث اختفاء خارجي- شكلي في مقالات «أريئيل» وردود أفعال الإسرائيليين.
تُتقن الكاتبة رسم الفضاء الاستعماري لمدينة يافا، بحيث يبدو أنّ تلاشي ملامح المكان التدريجي تزامن مع اختفاء سكّانها الفلسطينيين، ويظلّ «علاء» يُقارن بين المدينة التي يسكنها ويعرفها، والمدينة التي يعرفها من خلال حكايات جدّته:
«كنت متأكّدًا أنّ هناك مدينة أخرى فوق هذه المدينة التي نعيشها. ترتديها. كنت متأكدّا أنّ مدينتك التي تتحدّثين عنها، والتي لها نفس الاسم، لا علاقة لها بمدينتي. تشبهها إلى حدّ الجنون؛ الأسماء والبيارات والروائح وسينما الحمرا وأبولو والأعراس وعيد النبي روبين وشارع اسكندر عوض وشارع النزهة والحلوة وبيارات نهر الجريشه وساحة الساعة، من أين كل هذه الأسماء؟ نمشي في هذه الأماكن فتتحدثين عن أسماء غير المكتوبة على اللافتات. كان عليّ أن أتعلّم رؤية ما ترين، يافاكِ تشبه يافاي، لكنّها ليست مثلها. كأنّها هي. مدينتان تتقمّصان بعضهما بعضًا. حفرتِ أنتِ أسماءكِ في مدينتي، فأجدني كالعائد من التاريخ. منهك يتجوّل في حياته كشبح. نعم أنا شبح يعيش في مدينتك. وأنتِ أيضًا شبح يعيش في مدينتي. ونسمّي المدينتين يافا».[38]
يسيطر الوجود الشبحي على «علاء» وجدته كأنّه العلامة الفارقة التي تميّز هويتهما الجمعيّة وارتباطهما ببعضهما، كما يسمعان صوت الأشباح في الأزقة القديمة، ولا يكفّ علاء عن تخيّل جثث الفلسطينيين الهاربين وكأنه يمشي فوقها في المدينة. يمثّل هذا الوجود الشبحي الجمعي اختفاءً داخليًا، وامتدادًا للذات الفردية «لعلاء» وإحساسه بأنه مجرد شبح، شفّاف، مُحتجَر وراء زجاج، يتكلّم العبرية بصوت مكتوم، في تمهيد لحدث الاختفاء العلني: «أصرخ بقوة. كأنّ زجاجًا شفافًا كالماء يقف بيني وبين من حولي من بشر».[39]
تصّور الكاتبة الفضاء الاستعماري لمدينة تل أبيب وبناياتها على طراز الباوهاوس وكأنها «مغسولة بالبياض»؛ فالبياض/ اللاذاكرة هي ملامح المدينة التي أصبحت أكثر خفّة وبهجة بعد حدث الاختفاء، وكأنها مدينة الحلم- اليوتوبيا: «صغيرة تل أبيب وجميلة. في شواطئها الحالمة النظيفة الواسعة. حلم تحقّق، حلم بدأ بخطوة ولكنّه تحقّق».[40] وفيما تختفي ملامح مدينة «علاء» وتتلاشى مع أشباح الماضي، تبدو المدينة الإسرائيلية التي يسكنها «أريئيل» أكثر وضوحًا وهي تتجلّى في المستقبل:
«في الدول الحديثة العصرية يلاحق البشر المستقبل. فالمنتصرون لا ينظرون إلى الخلف. المنتصرون ينظرون إلى الأمام فقط».[41]
المدينة المتلاشية من عيني «علاء» هي مدينة الماضي التي تُعلن باختفائها عن إلغاء أي وجود للجماعة الفلسطينية وأي شكل من أشكال المستقبل الفلسطيني، أمّا المدينة التي تتطلّع بكل ما فيها نحو المستقبل كما نراها في عيني «أريئيل»/ المستعمِر تكتسب قيمة أعلى عندما يقارنها بما كان يمكن أن تبدو عليه «لو لم تقم الدولة»،[42] مشكّكا بقدرة الفلسطينيين على تطويرها بالشكل ذاته، وهكذا يتجلّى شكل آخر لاختفاء الفلسطينيين الخارجي- الشكلي، بحيث يُطابق غياب تأثيرهم عن واجهات المباني والأبنية ذات الطراز المعماري الحداثي.
في المقابل، يمثّل بقاء المباني الإسلامية مثل الجامع، والمباني ذات الطراز القديم مثل القرية مجازًا للحضور الفلسطيني المغترب عن سياقه الأصلاني، في مواجهة الطراز المعماري النيوليبرالي/ الاستعماري الذي تطرحه الرواية، فنسمع صوت أفكار «أريئيل» في مونولوج داخليّ، تقول: «تبدو بناية الجامع بمعمارها العثماني غريبة وهي محاطة بكل هذه الفنادق الفاخرة، يمكن بناء عمارة بطراز جميل في هذه الساحة الضخمة. بدون أن يُهدَم الجامع القديم. يُمكن إبقاؤه».[43]
توحّد الكاتبة بين المعمار الأصلاني والجسد الفلسطيني من حيث سياسة التخلّص منه أو الإبقاء على جزء منه ليكون «الآخر» الذي تحتاجه لا كقوة عاملة فحسب، بل كنقيض تستعرض حداثتها وتقدّمها من خلال وجوده. يُجادل ناشف من خلال تفكيكه للفضاء الاستعماري الإسرائيلي أنّ جسد القرية الذي يمثّل «حيزًا عدوًا تجب السيطرة عليه وإعادة ترتيبه بما يسهل تطويعه وتدجينه داخل حظيرة لغته» بحيث يتحوّل هذا التطويع إلى منظومة العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر «الماديّة»، تعمل على إحضار الجسد الفلسطيني إلى المدينة الإسرائيلية وفصله عن بيئته الأولى، وترحيله «كأيدٍ عاملة رخيصة إلى شريط الإنتاج وورشة العمل الحديثة»، أمّا فيما يتعلّق «بمنظومة العلاقات الرمزية» فهي تتجسّد بحاجة الإسرائيلي إلى القرية/ الجامع/ الجسد الفلسطيني «كمشهد ما قبل حداثي عربي إسلامي، يقوم الإسرائيلي بمشاهدته ليحدّد حداثيته الغربية من خلاله، حيث الأنا لا تُعرَّف بما هي، وإنما بما ليست هي»؛ ما يؤكّد أن «المشروع الصهيوني هو في الأساس جزء من المشروع الكولونيالي الأوروبي- الأمريكي، بالرغم من المسوّغات العقائدية والتاريخية المختلفة».[44]
اختفاء الفلسطينيين في رواية عازم يكشف عن ردود فعل الإسرائيليين المتناقضة، بين راحة وبهجة وخوف وترقّب. تُبقي الكاتبة على الفلسطينيين في مخيمات الشتات في البلدان العربية، إلا أنّ محاولة أي منهم للدخول إلى حدود الأراضي المحتلّة تنتهي بالاختفاء، فتخلق بذلك واقعية سحرية من هذا الشعب الذي يعيش كالأشباح في أرضه، ومن هذه الأرض التي تحوّلت وأخذت تبتلع شعبها. إلا أنّ المفارقة تكمن في أنّ فضاء اليوتوبيا الاستعماري يظلّ مهدّدَا ومرتابًا من عودة وشيكة ومُفاجئة، وهكذا تُفلح الكاتبة في التأرجح على هذا الخيط الدقيق الفاصل بين يوتوبيا الاستعمار الصهيوني وديستوبيا الاختفاء الفلسطيني.
ينظر بعض النّقاد[45] إلى فضاء اليوتوبيا الأدبي بصفته الوجه الآخر/ توأمًا للديستوبيا؛ فاليوتوبيا التي تعني باللاتينية «اللامكان»- أي بما معناه: لا مكان/ وجود فاضل بالمطلق، تطلق عنان المخيال الأدبي للذهاب بعيدًا نحو عوالم الديستوبيا القائمة على غياب الفضيلة/ المجتمع النموذجي بالمطلق. إلا أنّ فضاء اليوتوبيا المثالي يُعطّل مفاهيم الزمن الحقيقي والمكان الواقعي، خلافًا للفضاء الديستوبي الذي يتّخذ من فساد الزمن الحقيقي والمكان الواقعي نقطة انطلاق نحو مستقبل مغاير[46] أكثر فسادًا من الحاضر، بشيء من المبالغة والتطرّف، لتحقيق عنصر الصدمة ولفت الأنظار نحو قضية ما، والتحذير من مخاطر استمرارها.
حدث الاختفاء الذي يُسارع الإسرائيليون إلى تجاهله بالعودة إلى «الحياة الطبيعية» يظلّ دون اعتراف أو تفسير، وبذلك تخلق عازم من هذا الحدث المستقبلي مرآةً لأحداث النكبة في الماضي، فيما يسقط «علاء» في هوّة الزمن الحاضر، يتشرّب كل الحزن والألم وحيدًا منعزلًا عن عائلته/ جماعته الفلسطينية، في طور متكرّر من فقدان «الأنا الجمعية»، ناجمًا عن فقدانه لمدينته وجدّته وبيته ومن ثمّ ذاته. هكذا، تجتاح «علاء» الرغبة بالاستسلام والتخلّي عن الذات/ فلسطين ، فنراه يسترجع صيغة «الأنا الجمعيّة» المفقودة، مُستنكرًا: «ماذا نفعل بكلّ هذا الكمّ من الحزن؟ كيف لنا أن نبدأ من جديد؟ ماذا نفعل بفلسطين؟».[47]
تنتهي الرواية بارتياب «أريئيل» الذي احتّل شقة «علاء» وهوسه بتغيير قفل الباب خوفًا من عودة علاء/ الفلسطينيين على حين غرّة، فتشرع هذه النهاية المفتوحة كوّة صغيرة خفيّة في الفضاء الديستوبي ليدخل منها شبح الأمل الجمعي فجأة. وعليه، يمكن اعتبار رواية ابتسام عازم نوعًا من أنواع الديستوبيا النقدية، التي تترك مهربًا/ مخرجًا من هذا العالم الفاسد رغم تشاؤمها وسودادويتها، وتشرع بابًا للعودة إليه بظروف أخرى.
وفي حين يتميّز أدب الديستوبيا الكلاسيكي بنهايات «يتفوق فيها النظام الشمولي على الفرد»،[48] مُحذّرًا من المستقبل دون الإفراط في جرعة الأمل الساذج داخل حدود الفضاء السردي، ينطوي أدب الديستوبيا «النقدي/ ذي النهاية المفتوحة»، على نزعة يوتوبية داخل البنية السردية، تتجسّد في رفض خضوع الفرد في النهاية، «مما يخلق فضاءً للجدال والمعارضة»[49] لدى الجماعات المُهمّشة التي ينتمي إليها الفرد خارج الفضاء السردي.
الديستوبيا التحذيرية التي تُنشئها رواية ابتسام عازم لا تحذّر من مستقبل يختفي الفلسطينيون منه بسبب الاستعمار الاستيطاني فحسب، ولكنّها تُحذّر كذلك من التعلّق المفرط بالماضي حدّ الرغبة بالانزواء والتقوقع وبالتالي الاختفاء من الواقع مثلما تعكس شخصية «علاء». لا ترسم الكاتبة تفاصيل المستقبل الفلسطيني بل تَذره رهين العودة المرتقبة في النهاية، لكنّها تُحذّر ما بين السطور من أن يظلّ عالقًا في الماضي، لأنّ الحاضر الذي يظلّ معلقًا بالماضي بمثابة الهوّة التي تبتلع الفلسطينيين:
«طوال حياتك تنتظر. طوال حياتك تتحدّث عن الماضي. لكنّ الحاضر يكبر ويلتهمك. شعب كامل من الذين بقوا يبدون كالمعتوهين وهم يتحدّثون عن كل ما كان. وكأنّ ما كان لم يكن، وكأنّ ما كان هو مجرد عالم غير موجود إلا في مخيّلتهم».[50]
والسؤال الأخير الذي يظلّ عالقًا هنا: إذا كان الماضي محض عالم مُحتجَز في مخيّلة الفلسطينيين، كيف يُمكن لعوالم المستقبل المُتخيَّلة أن تحرّره/ تحرّرهم منه؟
خاتمة: نحو مقاومة أوسع شمولًا
«هنا لنا ماضٍ..
وحاضرٌ..
ومستقبل»
توفيق زياد
تُحيلنا الأجناس الأدبية التي توظّفها النصوص السابقة إلى تشكيلة أسلوبية[51] واسعة، بحيث تعكس الآليات التعبيرية والتجريبية الجديدة، في حقل أدب الديستوبيا والخيال العلمي الفلسطيني تحديدًا بوادرَ الالتفات إلى المأساة الفلسطينية في سياق أدبي أوسع شمولًا. وباعتبار المشروع الاستعماري امتداد للنظام الرأسمالي العالمي كما يجادل ناشف؛ لا يبدو مجديًا تجاهل تأثير هذا النظام على المأساة الفلسطينية، والتخلّف عن تطوير آليات جديدة للتعبير عنها.
يمتاز الأدب الفلسطيني الذي تُنتجه أجيال النكبة اللاحقة بأنّه يقتات على مخيّلة/ صورة الوطن المتشكّل في ذهن جيل النكبة الأول، فيعيد بسرديته إنتاج صورة عن هذه الصورة، وهذا فعل تراكميّ لا يمكن التشكيك بضرورته أو الانتقاص من شأنه، لأنّ الحفاظ على السردية الفلسطينية من خلال الموروث الحكائي الشعبي والتاريخي وكل ما يُضاف إليه من المعرفة الأصلانية هو السبيل إلى المقاومة الجمعيّة، إلا أن هذا التراكم الإنتاجي المتكرر على مدى الزمن لا يجب أن يتجاهل تطور «وسائل القمع التكنولوجية الرقمية» في ظل السياق الرأسمالي المتأخر،[52] فيضيّق من رؤية أدب المقاومة ويحدّ من لغته، «اللغة التي تبدأ الشخصيات الرئيسية بها الطريق نحو المقاومة عبر المواجهة اللفظية، وإعادة تخصيص الألفاظ (..) إلى أن يتحوّل وعي الشخصيات البدئي إلى فعل تغيير في المجتمع».[53]
لا غرو أنّ تطوير النظام الاستعماري/ الرأسمالي المتأخر من أساليبه القمعية لتكون أكثر «دقة وعمقًا وشمولًا»، على حدّ تعبير ناشف، يؤدّي إلى تحوّل وتطوّر في «أساليب المقموع»، إلا أنّ هذا التطوّر لدى المقموع عليه أن يهدف إلى الإنسان بشموليّته، حتى يحقّق هدف المقاومة في الانعتاق من الاستعمار.[54]
وبالنظر إلى الأساليب الأدبية المبتكرة التي طُرحت في قصص الخيال العلمي ورواية الديستوبيا الفلسطينية، نلاحظ أنّ النهاية السردية تركّز على الإعلاء من إمكانيات الجسد الفردي/ الذات الفردية الفلسطينية المستقبلية، سواء أكان ذلك في موتها/ خروجها من وهم الماضي من أجل حياتها/ عبورها نحو المستقبل كما في قصّة سليم حداد، أو في احتجازها والاحتفاظ بها وترقّب القوة الكامنة التي ستنفجر منها مستقبلًا كما في قصّة مازن معروف، أو في اختفائها وترقّب عودتها المُباغتة للثأر واسترجاع حقّها في المستقبل كما في رواية ابتسام عازم. هذا التركيز على حياة الإنسان الفردية وأهميتها يلُمّح إلى عودة حياة الجماعة الفلسطينية، وإن بأسلوب غير مباشر. إذ تدعو مقاومة الذات الفردية لمصيرها الراهن من خلال الإصرار على الاحتفاظ بحياتها إلى أنّ عودة «الأنا الجمعيّة» الفلسطينية رهينة لاستمرار حياة الذات الفردية لا فنائها، كما أنّ وجودها في المقدّمة يأتي مدعومًا من الوجود الجمعيّ، وإن ظلّ شبحيًا غير واضح المعالم في معظم هذه الأعمال الأدبية، ومرهونًا في عودته إلى المستقبل.
من هنا، تحاول التجارب الأدبية السابقة تحرير المقدّس/ النموذجي الجمعي من سرديّة الماضي لإعادة مساءلته وصياغته باستخدام لغته؛ أي لغة «الرؤى والأحلام والأمنيات»،[55] لتسعى بذلك نحو مقاومة أوسع شمولًا؛ بحيث تشمل الماضي ولا تكتفي به، وتشمل الحاضر ولا تقف عنده، بل توسّع من أفق السردية الفلسطينية المستقبلية، طالما ظلّت محتفظةً بترياق مادتها الأولية/ الأصلانية.
إذا كان النصّ الفلسطيني في آخر أطواره قد انفرد بالذات الفلسطينية مبتعدًا بها عن الجماعة، فتعطّل مُعلنًا عن موت قدرته السردية على التعبيرعن «مأساوية المأساة» الفلسطينية، فإن قراءة الأدب المستقبلي بعقلية المقاومة الدقيقة والشاملة يُحيي صورة ذلك الشبح الجمعي الأسطوري، العائد من جسد النص الفلسطيني الميت، معلنًا عن ممكناته السردية المستقبلية المغايرة.
-
الهوامش
[2] فيصل دراج، رواية التقدّم واغتراب المستقبل: تحوّلات الرؤية في الرواية العربية، دار الآداب، ط1، 2010، ص196.
[3] المرجع السابق، ص200-205.
[4] وهي تجربة الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، في رواية «كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب». من خلال دراسة تجربة عدنية شبلي كعيّنة من أدب الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1948، يتعامل ناشف مع ثيمة النص المُتمثّلة في فقدان معنى الحب والحياة كمعادل للفقدان المتكرر/الموت الواقع على الجسد الفلسطيني المتماهي مع الأنا الجمعية الفلسطينية، متوصّلًا بذلك إلى إلغاء إمكانية العيش اليومي الجمعي الفلسطيني، بسبب انفصال الذات الفردية عن جسد الجماعة وفقدانها/ موتها، وهذه القراءة السوسيو-أدبية تعكس جزءًا من الواقع الفلسطيني المنهك والمُستنزِف لمعاني الحياة في الوعي الجمعي. من جهة أخرى، يتناول ناشف في دراسة ثانية أدب السيرة الذاتية الفلسطينية بصفته أدبًا جماعيًا، إلا أنّ هناك تحوّلًا حاصلًا في التعامل مع الأنا الجمعيّة في أدب السيرة الذاتية قبل وبعد أوسلو، فالأنا الجمعية في سيرة جبرا إبراهيم جبرا «البئر الأولى» كانت تتجلّى من خلال سيرة جمعيّة للفلسطينيين لا ذاتيّة للكاتب فحسب، أمّا الأنا في سيرتي حسين البرغوثي «الضوء الأزرق» و «سأكون بين اللوز» فهي تعاني من الاغتراب الاجتماعي بسبب انفصالها وفقدانها المتكرّر للأنا الجمعيّة وبذلك تتحوّل من التاريخي إلى الأسطوري، بحثًا عن معنى لحياتها وذاتها. للمزيد انظر/ي فصل«اللا/التحوّل في الممارسة والخطاب: إشكالية الثقافي الفلسطيني»، معمارية الفقدان، دار الفارابي، ط1، 2012، ص37-97.
[5] إن نكران حق العودة لفلسطينيي الشتات مع استمرارمخططات الاستعمار الاستيطاني هو محاولة لنزع المأساوية عن المأساة الفلسطينية منذ لحظة الفقدان الأولى، متمثّلة بالنكران الصهيوني لحدث النكبة أساسًا. وعليه، فإن إصرار الأدب الفلسطيني على التعبيرعن هذه المأساة، لا سيّما في طور المقاومة يشير إلى القدرة على امتلاك المأساة، من خلال أسلوبية تعبيرية مبتكرة. من هنا، يناقش ناشف في كتابه «معمارية الفقدان» عملية تراكم إنتاجية السردية الفلسطينية التي تتصف بالفقدان المتكرر للذات الجمعية، ويطرح من خلالها التشكيلة الأسلوبية الفلسطينية الحديثة التي حاولت التعبير عن مرحلة «فقدان الفقدان» الفلسطيني التي جاءت بعد أوسلو. أبرز ما يميّز هذه التشكيلة هو انتقالها من فقدان الوطن الذي صار مجرّد ذكرى أولية لحالات فقدان متتابعة، وصولًا إلى فقدان الحق في امتلاك المأساة الفلسطينية، وذلك بعد التنازل عن حق العودة في اتفاقية أوسلو. ظلّ هذا الفقدان متكرًرًا في مراحل متقدّمة من وقوع النكبة أساسًا، وللتعبير عن حالة «فقدان الفقدان» المتأخرة والاغتراب عن الأرض والجماعة الفلسطينية، تخفت حدّة التعبير عن الفقدان الأول/ النكبة في بنية السردية الفلسطينية المتأخرة، أو تظهر بشكل «حداثي» متمرّد على الأساليب القديمة، وذلك بتأثير من هيمنة الرأسمالية المتأخرة التي تدّعي الارتقاء بالشيء/ المُنتَج الإبداعي/ الجسد المادي وتغيير معانيه المتداولة في الوعي الجمعي. أهمّ ما يميّز هذه الأسلوبية الفلسطينية الحديثة في طور الفقدان المتكرّر هو أنّها ملتفّة ومراوغة وفردية، لا صريحة ومباشرة وجمعية، كما تمثّلت في طور المقاومة. للمزيد، انظر/ي فصل «صور الفقدان»، المرجع السابق، ص 369-384.
[6] لتصوّر أقرب عن مثلث العلاقة المتداخلة بين الجسد الفردي وجسد الأرض الجمعي والأنا الجمعية التي يطرحها ناشف، انظر/ي المخطّط التالي.
[7] يُعرّف ناشف السرد في دراسته «موت النص»، انطلاقًا من البنية الاجتماعية العامة، ويقصد به الأجهزة التي تتنج بداخلها حقل المعاني المتداولة، وعليه فإن السرد لا يشمل الكلام المحكي والمكتوب فحسب، بل جميع أشكال التواصل البصري والسمعي كذلك، مثل الفنّ التشكيلي والسينما والموسيقى. انظر/ي «موت النص»، مجلة الدراسات الفلسطينية، خريف 2013، ص (96-116).
[8] يطرح ناشف حالتين للتعامل مع هذه الأطوار: الأولى هي اعتبارها على أنها فترات زمنية متتالية بدأت بطور بالضحية مرورًا بالمقاومة وانتهاءً بالفقدان المتكرر. الثانية: هي التعامل معها على أنها «لحظات متنوعة» في بنية السردية المأساوية الفلسطينية ذاتها، تتدرّج في ظهورها وانحسارها في النص ذاته. تجدر الإشارة إلى أنّ التعامل معها في هذه المقالة يجري تبعًا للحالة الأولى.
[9] للمزيد حول الرواية الفلسطينية بعد أوسلو انظر/ي رسالة الماجستير لحسين الصليبي، «الرواية الفلسطينية وتجلّياتها الفنّية والموضوعية في الأرض المحتلّة بعد اتفاقية أوسلو 1992»، الجامعة الإسلامية-غزة، 2008.
[10] يدرس ناشف أسلوبية التعبير عن المأساة الفلسطينية المتشكّلة من خلال الثقافة ومعانيها المتداولة في الوعي الجمعي للمجتمع الفلسطيني، آخذًا بعين الاعتبار الانقسام والتجزئة الحاصلة في جسد الأرض الجمعي منذ النكبة ومرورًا بالنكسة ومرحلة أوسلو وما بعدها. يرى ناشف أنّ ما يغلب على هذه الأسلوبية التعبيرية هو الفقدان المتكرر للذات الفلسطينية في علاقتها المتمثّلة بالجسد الفردي والجسد الجمعي للأرض والأنا الجمعية التي تحمل المعاني المتداولة للتعبير عن المجتمع. وسعيًا لدراسة كيفية تشكّل هذه الأسلوبية الفلسطينية، يُطوّر ناشف مسمّى «الشيء الفلسطيني»، باحثًا من خلاله عن معنى الذات الفلسطينية وأسلوبية تعبيرها عن ذاتها، من خلال ابتعادها عن الأنا الجمعية بعد فقدانها ثم محاولتها المتكررة لكن اليائسة في العودة إليها. لا يغفل ناشف دراسة «الشيء الفلسطيني» بعيدًا عن سياق الهيمنة الرأسمالية بطورها المتأخر باعتبارها امتدادًا للنظام الاستعماري، إذ تتغلغل الرأسمالية المتأخرة في البنية السردية الفلسطينية الثقافية تمامًا كما في البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ليصير تطوّر أسلوبية التعبير عن المأساة محض تراكم إنتاجي مُغترب عن ذاته، يكرّر ويستهلك صور الفقدان الأولى للنكبة، ولكن بأسلوبية متحوّرة ومراوغة، متأثرة بلبّ الصناعة الرأسمالية التي توهِم بالارتقاء» بالشيء -الجسد المادي، والتأثير على دلالاته الرمزية في الوعي الجمعي. لا تأتي هذه الدراسة لممارسة الخطاب الثقافي الفلسطيني بمعزل عن سياق التحولات الاجتماعية والسياسية الطارئة على خط الزمن الفلسطيني. للمزيد، انظر/ي مقدمة معمارية الفقدان، دار الفارابي، ط1، 2012، ص9-ص34.
[11] انظر/ي أيضًا إسماعيل ناشف: علينا التّحديق في النّكبة لا الهرب منها | مجلة 28
[12] انظر/ي مرجع رقم 5.
[13] انظر/ي Palestine Writes Literature Festival
[15] تُقدّم الناقدة والأستاذة في الدراسات الأدبية الأصلانية غريس ديلون تقنيات الخيال العلمي الأصلاني بصفتها أساليب لفكّ الاستعمار، وأساليب ذاتية لتمثيل الجماعات الأصلانية مستقبلها عبر إنشاء حركات بديلة بعد إقصائها عن الحركات المستقبلية المهيمنة. للمزيد انظر/ي
Dillon, Grace L. Walking the Clouds: An Anthology of Indigenous Science Fiction. The University of Arizona Press, 2012[16] انظر/ي مثلًا ثلاثية أفلام الخيال العلمي للفنّانة الفلسطينية لاريسا صنصور، وإلى أعمال فرقة «تشويش» الفلسطينية، للأداء السمعي والبصري.
[17] كما في أعمال الكاتبة الأميركية السوداء أوكتافيا إي بتلر في أدب الخيال العلمي. للمزيد انظر/ي Sheree, Thomas. Dark Matter: A Century of Speculative Fiction from the African Diaspora.Aspect-Warner Books, 2000.
[18] Ghalayini, Basma. Palestine 100+: Stories from a Century After Nakba. Comma Press, 2019.
[19] Home – LIFTA
[20] فائق مرعي، «الواقع المغاير: بيرزيت نموذجًا»، لفتا، 2018، ص 110- 118.
[21] Ghalayini, p.9.
[22] يمكن النظر أيضًا إلى تجربة الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي في رواية «تفصيل ثانوي» عام 2017، على سبيل المثال لا الحصر، في سعيها إلى رسم عالم الجنود الصهاينة بتفاصيله القميئة- وبما يخدم الحبكة السردية، متمثّلا بشخصيّة «قائد الكتيبة» (الذي يتولّى ومجموعة من جنوده إبادة عائلة فلسطينية من بدو النقب عام 1949، والإبقاء على فتاة فلسطينية يغتصبونها ويقتلونها فيما بعد) للمزيد انظر/ي «تفصيل ثانويّ«: أولويّة الأرض وثانويّة الحياة | فسحة | عرب 48
[23] تذكر غلايني رواية «الطابور» عام 2013 لبسمة عبد العزيز، مثالًا.
[24] Afro, Indigenous, and Palestinian Futurisms: Writing Across Space and Time
Radical Imagining – DCPFAF2020 — DCPFAF[25] المرجع السابق.
[26] انظر/ي مرجع رقم 10
[28] Winter, Jerome. Science Fiction, New Space Opera, and Neoliberal Globalism: Nostalgia for Infinity New Dimensions in Science Fiction. University of Wales Press, 2017.
[29] Jameson, Fredric. Archaeologies of the Future: The Desire Called Utopia and Other Science Fictions. Verso, 2005.
[30] Batarseh, Amanda. «Freedom to imagine: Reflections on the first Palestine Writes Literature Festival». Jerusalem Quarterly. Vol. 87, 2001, pp. 152-159.
[31] انظر/ي مرجع رقم 15.
[32] Haddad, Saleem. «Song of the Birds«, Palestine 100+: Stories from a Century After Nakba, edited by Basma Ghalayini, Comma Press, 2019, pp. 14-34.
[33] Maarouf, Mazen. «The Curse of the Mud Ball Kid«, Palestine 100+: Stories from a Century After Nakba, edited by Basma Ghalayini, Comma Press, 2019, pp. 194-240.
[34] لا تبدو دلالة شجرة الجوافة واضحة بالضبط، لكن الأرجح أن معروف استخدمها إشارة إلى تسميتها بشجرة «المزارع الفقير». عُزلت آلاف الدونمات من الجوافة في قلقيلية بعد إقامة الجدار العازل، ومُنع المزارعون من الوصول إليها، وهذا الواقع يشبه إلى حد قريب ما حدث مع شجرة الجوافة التي تملكها الشخصيات الفلسطينية في القصة. للمزيد انظر/ي جوافة فلسطين | متراس
[35] Maarouf, pp. 195.
[36] مرجع رقم 22.
[37] ابتسام عازم، سفر الاختفاء، منشورات الجمل، ط2، 2014، ص 63.
[38] المرجع السابق، ص 21-22.
[39] المرجع السابق، ص 122.
[40] المرجع السابق، ص 135.
[41] المرجع السابق، ص 222.
[42] المرجع السابق، ص 189.
[43] المرجع السابق، ص 196-197.
[44] ناشف، مرجع سابق، ص 109-110.
[45]Jameson, Fredric. Archaeologies of the Future: The Desire Called Utopia and Other Science Fictions. Verso, 2005.
[46]Baccolini, Rafaella. «Ursula K. Le Guin’s Critical Dystopias«, Dystopia, edited by M. Keith Booker, Saleem Press, 2013, pp. 37-53.
[47] عازم، مرجع سابق.
[48] Baccolin, p. 39.
[49] Ibid.
[50] عازم، مرجع سابق، ص 42.
[51] انظر/ي مرجع رقم 5 ورقم 10.
[52] ناشف، مرجع سابق، ص 384.
[53] Baccolin, p. 38.
ينظر غرامشي إلى أهمية اللغة بصفتها وعاءً لإنتاج حقل المعاني المتداول في الوعي الجمعي، معوّلًا بذلك على أهمية إنتاج الجماعات المُهمّشة للأسلوبية اللغوية الخاصة بها والتي تتكىء على حقل من المفردات والتعابير المغايرة للغة الجماعات السلطوية/ المهيمنة. ومن جهة أخرى، يدرك غرامشي أن حرية اختيار الأسلوب والمفردات التي نُخاطب بها جمهورًا معينًا هي حرية مُضلّلة؛ فهي ليست بريئة من هيمنة قواعد اللغة وقواعد المؤسسات التعليمية والحكومية. هكذا، يُعلي غرامشي من أهمية اللغة التي يوظّفها المثقّف العضوي بعد إدراكه لأسبقية الهيمنة ومن ثمّ إصراره على توظيف اللغة وتخصيص الألفاظ، بما يرفع من وعي الأفراد في الجماعة /الطبقة الاجتماعية المهمّشة التي ينتمي إليها أو يتبنّى مبادئها وأهدافها، وهذا ما يؤسس للأيديولوجية العضوية الفاعلة. للمزيد انظر/ي: Ives, Peter. Language and Hegemony in Gramsci. Pluto Press, 2004.[54] ناشف، مرجع سابق، ص384. ما يرمي إليه ناشف عبر قراءته السوسيو-أنثروبولجية هنا هو العودة إلى الإنسان الذي فقد ذاته بفقدانه لمعنى الوطن، وبفقدانه لتصوّر واقعي للذات الفردية في غياب الأنا الجمعية، فارتدّ للماضي ليبحث عن معنى مأساته، وماانفكّ عالقًا أسيرًا للأسطوري/ المقدّس. من جهة أخرى، يناقش ناشف في سياق آخر الدور الوطني الذي تمثّله حركات منظمة التحرير الفلسطينية، وحركات المقاومة الإسلامية من خلال ارتباطها بالإنسان/ المُقاتل/ الفدائي/ الجهادي كمصدر أساسي لتكوين المقاومة الفلسطينية، ومُنظّم رئيسي للعلاقات الاجتماعية بفعل جمعي. إذ يرى ناشف أن تراث الكفاح المُسلّح ما هو إلا امتداد للعمليات الاستشهادية الفرديّة بصفتها أداة مقاومة. يتساءل ناشف عن سبب تحوّل الجسد الفردي من مُستخدِم للذخيرة إلى ذخيرة بحدّ ذاته في هذه العمليات الاستشهادية، بحيث لا يصبح الجسد الفردي فاعلًا في السياق الجمعي إلا من خلال استشهاده وعبوره نحو الجنّة المفقودة في السماء. قراءة الأدب المستقبلي هنا تُحاول أن تعمّق من مفهوم المقاومة الفردية بحيث تكون فاعلة وشاملة لأساليب أخرى، تقتضي بقاء الجسد الفردي على قيد الحياة من أجل عبوره وجماعته نحو المستقبل الفلسطيني. في السياق ذاته، يرى ناشف أنّ «عودة المقاتل الفلسطيني» المُنتصِر…«الذي يستشهد ألف مرة «دون أن يُقهَر جسده ويموت، فيعود بعد العملية العسكريّة حيًا، إنّما هي عودة تغذّي طورًا آخر من المقاومة الشمولية الانعتاقية، بحيث لا تدفع بالجسد الفردي للانفصال عن الجماعة ولا تسمح بفقدانه المتكرّر من الجسد الجمعي للأرض، بل ترى في عودته وبقائه على قيد الحياة سبيلًا آخر للتحرّر من الاستعمار، والتطلّع نحو المستقبل الفلسطيني. للمزيد انظر/ي فصل «اللا/التحوّل في الممارسة والخطاب: إشكالية الثقافي الفلسطيني»، معمارية الفقدان، دار الفارابي، ط1، 2012، ص37-97.
[55] درّاج، مرجع سابق، ص 255.