في مثل هذا الشهر من عام 1770، قبل قرنين ونصف، ولد لودفيج فان بيتهوفن في مدينة بون الألمانية. قد لا يوجد في التاريخ مؤلف آخر حيك حوله هذا الكم من الأساطير. عندما نسمع اسم بيتهوفن، قد تتراءى لنا فورًا صورته وهو مقطب الحاجبين، أشعث الشعر، بيده قلم يصارع به حتفه. نفكر بجنونه، ببطولته، بعظمته، بغضبه المتعجرف، بمأساة فقدانه لسمعه. نتذكر موسيقاه كرمز للثورة أو النصر أو الحرية، رمز استملكته أيديولوجيات مختلفة عبر التاريخ لدعايتها السياسية، من حروب هتلر إلى نصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية إلى سقوط جدار برلين.
لكن ذكرى ميلاد بيتهوفن قد تكون فرصة مناسبة لمحاولة أخذ مسافة من هذه الأساطير والاقتراب مما هو أهم، من الموسيقى بحدّ ذاتها. بعد أن أجهضت الجائحة مئات الحفلات والمهرجانات التي كان العالم قد حضّر لها في مناسبة ذكرى بيتهوفن الـ250، ربما نجد لنفسنا عزاء في قضاء الساعات الأخيرة من السنة برفقة موسيقى بيتهوفن، ولو من عزلتنا ومن خلف الشاشات. يمكن قراءة ما يلي كدعوة، لا أكثر، فلا مقال يمكن أن ينوب عن الاستماع المتكرر والمهووس؛ الطريق الوحيد إلى حبّ بيتهوفن.
من بين أكثر من مئة عمل موسيقيّ، اخترنا خمسة عناوين لا تحاول بأي شكل من الأشكال أن تختصر أو تمثّل أعظم ما كتبه بيتهوفن، إنما هي مجرد أمثلة قد يقدم كلّ منها مفتاحًا لاختبار جانب من عبقرية المؤلف ومن الطيف الواسع للمشاعر الإنسانية التي عالجها في موسيقاه.
السيمفونية الخامسة (1807-1808): سردية الصراع
لأول مرة في سيمفونية، لم يعد اللحن صاحب أولوية في توليد المعنى. «صول-صول-صول-مي»، أربع نوتات أقل أصلًا من أن تستحق لقب لحن، تظهر في بداية السيمفونية الخامسة كما في بيان: «على هذه الشخصية سأبني سيمفونيتي»، يقول لنا بيتهوفن مقدمًا إياها كما في بداية مسرحية، ومن ثم وبلا طول مقدمات، يرمي بها في ماراثون يخطف الأنفاس.
تتسابق النوتات الأربعة مع ذاتها، تأخذ كل الأشكال والتوزيعات الممكنة، تغيّر مقامها، وبين كل حين وآخر، تصدح بها أبواق الهورن بذات النبرة البيانية، معلنةً بداية مرحلة جديدة متفائلة (دقيقة 00:40 في التسجيل)، ومن ثم أكثر درامية (2:35). هكذا يحوّل بيتهوفن البنية الموسيقية من ضرورة روتينية (لحن أول، لحن ثاني، لازمة، (..)) إلى آلة لتوليد المعنى: تتناوب الفقرات المختلفة بين لحظات توتر وانفراج، تمامًا كما في حبكة روائية، المهم فيها ليس الشخصية بحد ذاتها بل ما تخضع له من تحوّلات. بكلمات أخرى، يأتي معنى موسيقى بيتهوفن من وقوع اللحن في مأزق بنية موسيقية تعصف به، قد ينجح أو لا ينجح بالخروج منها منتصرًا بعد أن تعصره إلى أقصاه وتدفعه للتفوق على طبيعته العادية (مجرد أربع نوتات) ليصنع منها ملحمة.
لطالما ارتبطت خامسة بيتهوفن بصراع المؤلف مع قدره بفقدان السمع، أو بصراع الشعوب المقهورة مع قدرها.
لطالما ارتبطت خامسة بيتهوفن بصراع المؤلف مع قدره بفقدان السمع، أو بصراع الشعوب المقهورة مع قدرها، خصوصًا كونه يقتبس فيها بضع أغانٍ من الثورة الفرنسية. لكن علاقة العمل مع صراعاتنا كبشر هي علاقة مفتوحة، فالموسيقى ليست «عن» الصراع، بل هي صراع بحد ذاته، أي أن الصراع هنا لم يعد مضمونًا يتحدث عنه الشكل الفني، كما في رواية أو فيلم، بل صار هو الشكل الفني من أساسه. «تعود التضادات غير المحلولة للحياة الواقعية للظهور كمشاكل شكلية بحتة»، يقول المفكر الألماني ثيودور أدورنو، والمعنى البطولي لخامسة بيتهوفن يولد كذلك من مشاكل موسيقية بحتة: كيفية الانتقال من مقام إلى آخر بأصعب طريقة ممكنة، كيفية التعامل مع ألحان صديقة وهادئة أو أخرى معادية وناشزة تشوه براءة اللحن. الفن يجب أن «يحاكي الواقع دون أن يقلده» بحسب أدورنو، وهنا تحاكي الصراعات الموسيقية صراعاتنا الحياتية في الشكل، وتترك لكلّ منا خيار تأويل المضمون أو الإحساس به مباشرةً دون المرور بكلمات أو مراجع خارجية.
الأهمية التي يكتسبها الشكل الموسيقي في الحركة الأولى تنطبق كذلك على السيمفونية بأكملها، التي لم تعد مجرد تشكيلة روتينية من حركات خفيفة غير مترابطة كما كانت في القرن الثامن عشر، بل صارت على يد بيتهوفن سردًا روائيًا. في الحركة الثالثة (15:25)، والتي أخذت تقليديًا شكل فاصل راقص خفيف، تعود الشخصية الأساسية (النوتات الأربعة) أبطأ وأثقل مما مضى، مذكرةً بأن الفاصل الحالم للحركة الثانية لا يعني نهاية الصراع، وأن تلك النهاية لن تتبلور إلا في نهاية السيمفونية، بعد أن يتوقف الإيقاع وتتداعى الموسيقى إلى رمادٍ لا يبقى منه إلا بضع كمنجات هزيلة (22:15). تتصاعد النوتات تدريجيًا مثل مناجاة يائسة في الإلياذة: «زيوس أبونا، أنقذ من الضباب أبناء اليونان، امنح سماءنا الصفاء واسمح لعيوننا أن تبصر. فلنمت إن كانت تلك مشيئتك، لكن في النور». كعادته، يخبئ بيتهوفن المقام الكبير (ماجور) إلى الحركة الأخيرة، وما هي إلا مسألة لحظات حتى تدخل الآلات النحاسية لتقهر الضباب إلى الأبد.
ثلاثي البيانو والكلارينت والتشيلو (1797): حسّ الفكاهة
بيتهوفن وحس الفكاهة؟ لا بد أن في هذا تناقضًا مع صورة البطولة والمأساة المرتبطة به. لكن الحقيقة هي أن بيتهوفن كان شخصًا مضحكًا للغاية، وموسيقاه مليئة بالنكت والمقالب الموسيقية التي أوقعت بعض مستمعيه نحو الأرض ضحكًا. كان بيتهوفن مؤلفًا فذًا تملّك عالم النغمات والتقاليد الموسيقية في عصره، لذا فمن الطبيعي أن يأخذ حس الفكاهة لديه أشكالًا موسيقية بحتة، الكثير منها مبني على اللعب بتوقعات المستمع: يكرر جملة مرات أكثر من المتوقع، يضيع بنفسه وسط مقامات بعيدة جدًا عن المقام الأساسي ثم يقول لنا: راقبوا الآن كيف سأخرج نفسي من هذه الورطة، يقلّد بألحانه أشخاصًا يتشاجرون أو يتطاردون، يفاجئ المستمع كمن يختبئ خلف الخزانة ليظهر فجأة ويقول لنا: بووو! أو يؤلف «أخطاء» داخل الموسيقى، مثل عازف ينسى دوره فيرتجل تتمة أخرى، أو آلة تدخل قبل وقتها أو تحاول أخذ اللحن في منحى آخر، فتهملها أو توبخها بقية الآلات.
في الثلاثي مصنف رقم 11 للبيانو، والتشيلو، والكلارينت، يبني بيتهوفن الحركة الأخيرة (14:57) على لحن من أوبرا كوميدية لمؤلف معاصر، وهو لحن كان محبوبًا جدًا لدرجة أنه الناس كانوا يدندنونه أو يصفرونه في شوارع وأزقة فيينا طوال الوقت، ولهذا أخذ هذا التريو اسم «أغنية الشارع».[1] تقول كلمات الأغنية الأصلية باختصار: «قبل أن أذهب للعمل في الصباح يجب أن آكل- ستفهم جوعي عندما تسمع موسيقى معدتي». في قالب التنويعات (وهو قالب مفضل سيعود إليه بيتهوفن كثيرًا خلال مسيرته) نسمع لحنًا أساسيًا، ثم يخضعه المؤلف لعدة معالجات، مثل تغيير إيقاعه، مقامه، أو توزيع الآلات فيه.
إلى جانب براعة بيتهوفن في التنويع على اللحن بتحولات ذكية وإظهار جوانب غير متوقعة من شخصيته، نختبر هنا أوجه عدة من حسّ الدعابة لدى بيتهوفن، كالحوار والممازحة بين الآلات، والتغييرات المفاجئة، والنقلات غير المتوقعة. استمعوا إلى اللحظة قرابة النهاية (20:24) التي يؤدي فيها عازف البيانو عُربة (trill) طويلة جدًا، يقرر بعدها عفويًا أن يذهب باللحن إلى مقام غير متوقع، صول ماجور.
السيمفونية الثانية (1802): التمرد والوقاحة
يحكى أن بيتهوفن كان يسير في الشارع مع الشاعر جوته حين اعترضتهما حاشية تابعة للعائلة المالكة النمساوية. رفع جوته قبعته مفسحًا الطريق، بينما رفض رفيقه حتى تغيير مساره، مخترقًا الحاشية برعونة (وقد خلّد الرسام كارل رولنج هذه الحادثة في لوحة عام 1887). لم يكن بيتهوفن ليجرؤ على تصرف مماثل لولا قيام الثورة الفرنسية قبل ذلك بعقدين، جاعلةً أرستقراطيي أوروبا يرتجفون ذعرًا من احتمالية الثورة، ومن فنان مفعم بروح عصر الأنوار مثل بيتهوفن يزداد تمردًا على أسياده، رغم اعتماده على معونتهم المادية لغياب البديل. «يا أيها الأمير، ما أنت عليه هو نتيجة حظّ ونسب، أما ما أنا عليه فهو نتيجة عرق جبيني»، كتب بيتهوفن مثلًا إلى راعيه الأمير ليشنوفسكي، الذي انتهى بقطع رعايته عن بيتهوفن بعد عدة مواقف مماثلة.
لم يستهدف تمرد بيتهوفن أفرادًا بقدر ما استهدف منظومة متجذرة في صميم الذوق الفني.
لم يستهدف تمرد بيتهوفن أفرادًا بقدر ما استهدف منظومة متجذرة في صميم الذوق الفني. فقد قامت الموسيقى الكلاسيكية على احترام هرمية صارمة وبروتوكولات يجب اتباعها للتحويل من مقام إلى آخر أو من إيقاع إلى آخر، مع الكثير من اللّف والدوران والتمهيد لتجنب صدم المستمع. في سيمفونيته الثانية (المهداة إلى الأمير ليشنوفسكي)، يظهر بيتهوفن عداوة مبكرة لتلك البروتوكولات، فالحركة الأولى تبقي المستمع في حالة تأهب، وكلّ شيء ممكن في أي لحظة: أن تختفي الموسيقى فجأة لتعود وتنفجر في وجهنا (10:17)، أو ألّا تكاد بضعة آلات نفخية تكمل لحنها المرح بالمقام الكبير لتكون باقي الأوركسترا قد قلبت الطاولة في وجهها، مكررة اللحن ذاته بالمقام الصغير وبكل ما أوتيت من عنف (3:32).
تتمرد تلك التصرفات على الإتيكيت الأرستقراطي الذي فضّل فنًا قائمًا على الاعتدال وتجنب الانفعالات والتغييرات المفاجئة، وهي وقاحة بيتهوفنية يجب فهمها كمناورة جمالية وسياسية معًا. فبيتهوفن يشتهر مثلًا بكونه أول من حرّر الآلات النفخية في الموسيقى السيمفونية، بعد أن اقتصر دورها على مكيجة الخطوط اللحنية للكمنجات. فتلك الآلات كانت لا تزال فجّة بدوزان غير مستقر، وارتبطت بموسيقى الجيش والصيد والهواء الطلق. بإكسابها حضورًا غير مسبوق في السيمفونيات، أحيانًا على حساب الوتريات، كسر بيتهوفن تلك التراتبية، مدخلًا «صوت الشارع» إلى صالات الموسيقى. يتضح ذلك في الحركة الأخيرة من السيمفونية (26:35)، بانفجارات الطبول والآلات النفخية في كل مكان، وبلحنها الذي شُبّه بحزقة أو بحشرجة معوية. تبقى الموسيقى مشحونة حتى في لحظات هدوئها، تترقب فرقعةً صوتية أو دعابة كرتونية. وعندما يخرج لحنٌ أنيسٌ وحالمٌ من وسط الغليان (27:35) تقاطعه الكمنجات باستمرار كمن يريد العودة إلى اللعب الصبياني. أما خاتمة الحركة (31:50) فتلتهب بنوتات سريعة تزمجر بين الحزقات مثل «تنين يتلوى بقبح ويرفض أن يموت»، كما وصفها بذعر أحد النقاد مخدوشي الحياء لدى سماعه للسيمفونية عام 1803.
بمزاجيته هذه، يبشر بيتهوفن بولادة الحركة الرومانسية التي سترخي الزمام عن أعراف القصور والنبلاء، مطلقةً العنان لمشاعر متطرفة وغير مقبولة اجتماعيًا. لكن مع تحول موسيقى بيتهوفن في الحقبة المعاصرة إلى فن نخبويّ أكثر وأكثر، حاول المؤدون حتى أواخر القرن الماضي تهذيب أعمال مثل السيمفونية الثانية، فقاموا بتبطيء سرعتها وعزفها بهيبة وجدية. لكننا اليوم، وبفضل جيل جديد من المؤدين، نعود لاكتشاف بيتهوفن متخمًا بالعنفوان، ذا وقاحة شوارعية متمردة.
سوناتة البيانو رقم 32 (1822): وداع السوناتة
الحركة الأولى
الحركة الثانية
خلال حياة بيتهوفن، من سبعينيات القرن الثامن عشر إلى عشرينيات القرن التاسع عشر، كانت السيمفونيات والكونشرتوهات أعمالا «عامة»، بمعنى أنها تُعزف أمام الجماهير وفي حفلات موسيقية مفتوحة، أما موسيقى الحجرة وموسيقى البيانو فكانت في المعظم أعمالًا تُنشر وتُباع لمحبي الموسيقى، وقد تُعزَف في الصالونات الخاصة. لهذا السبب، أصبحت سوناتة البيانو بشكل خاص بمثابة مختبر يجرب فيه بيتهوفن أكثر أفكاره الموسيقية راديكاليةً، ويجرؤ فيه على تحدي التقاليد بحرية أكبر مما فعل في السيمفونيات. بين سوناتة بيتهوفن الأولى للبيانو والسوناتة الأخيرة هناك 27 عامًا. من الصعب التفكير بمؤلف قد سافر مسافة أكبر خلال مسيرته التأليفية؛ فما بدأ كقالب بسيط متواضع الطموحات اكتسب بين يدي بيتهوفن أبعادًا سيمفونية ورؤية تعبيرية غير مسبوقة. في سوناتاته الأولى، نجده يضيف حركةً رابعةً إلى الثلاثة التقليدية، معلنًا أن هذه الأعمال هي بوزن السيمفونيات. لاحقًا، نراه يقلب السوناتة رأسًا على عقب، مبتدءًا بحركة تنويعات، أو بحركة بطيئة تنذر بانفجار قادم، كما يفعل في السوناتة رقم 14 (والتي يناقض لقبها المؤسف «ضوء القمر» سرديتها المرعبة التي تنتقل من طاقة مكبوتة إلى طاقة متفجرة). في مرحلته المتوسطة، يبدأ بزعزعة أساس السوناتة كاملًا، وهو الصراع بين المقام وخامسته، بإدخاله علاقات أخرى، ويتحدى سردية الظلمة فالنور بظلمة فأظلم، هابطًا إلى غياهب اليأس، كما في السوناتة الملقبة بـ«Appassionata»، أي مشبوبة العاطفة. في السوناتات الأخيرة، يتوسع بالبناء الموسيقي إلى أبعاد عملاقة كالسوناتة رقم 29، يستعيد تقنيات من عصر الباروك، وبوصولنا إلى السوناتة رقم 32، يكون بيتهوفن قد أحدث شرخًا عميقًا في القالب لن يتم إصلاحه تمامًا، وسيترك المؤلفين من بعده في حيرة تامة اضطرتهم إلى أخذ السوناتة في اتجاهات مختلفة كليًا أو تجنبها تمامًا.
من الصعب الاستماع إلى السوناتة الأخيرة دون الشعور بوداعٍ ما. البعض سمع فيها وداعًا للسوناتة، وآخرون وداعًا للحياة. في هذه المرحلة المتأخرة، يستبدل بيتهوفن سردية الصراع والنصر بشيء مختلف تمامًا: لا أبواق هنا ولا طبول، لأن النزاع قد سما فوق نفسه وتحوّل إلى شيء أكثر روحانية. بعد القسوة التي لا ترحم في الحركة الأولى، والتي هي مرةً أخرى في مقام دو ماينور، مقام الصراع البيتهوفني بامتياز، تبدأ الحركة الثانية في تضادّ كامل، في دو ماجور بكل نقائه وبساطته. إنه شروق شمس بعد العاصفة، أو يد معزية تربت على كتف المحزون لتقول: لا بأس. يعود بيتهوفن هنا إلى أسلوب التنويعات الذي التقيناه في التريو أعلاه، لكنه يكتسب معانٍ جديدة أشبه أن تكون فلسفية: مع كلّ تحوّل، نكتشف الحقائق الكامنة في اللحن ونختبر كل ما يمكن أن يكون عليه، فما بدأ سلامًا مذعنًا يكتسب تدريجيًا عزمًا، ثم فرحًا، ثم تهللًا يصل حدّ النشوة. أذكر أنني قفزت من مكاني لدى سماعي التنويع الثالث (5:50) لأول مرة: أأسمع حقًا بيتهوفن؟ من أين أتت موسيقى الجاز هذه؟ هل رحلنا مئة سنة إلى المستقبل؟ لا زال هذا المقطع يحير الكثيرين لشبهه لموسيقى الـ«بوغي ووغي» التي ولدت بعد نصف قرن. يخرج اللحن من عالم التنويعات، يرحل إلى أقصى أطراف الآلة، يحاكي تمتمة الملائكة، يعود بعزم جديد، ويأبى أن يقول وداعًا. المقطوعة لا تنتهي فعليًا، لكنها تتوقف فحسب. قد نسمع في نهايتها قلبًا يتوقف عن الخفقان، قلبًا أراد أن يقول ما لديه قبل الوداع وبكل الطرق الممكنة.
بعد إتمامه لسوناتة البيانو الأخيرة، علّق بيتهوفن أن «البيانو في النهاية هو آلة غير مُرضِية». قد تبدو هذه الملاحظة غير قابلة للتصديق من مؤلف قدّم كل ما قدمه لهذه الآلة وأسرّ إليها أعمق مشاعره، لكنها تعكس حجم رؤيته التي شعرت دومًا بالحاجة الثورية لخرق الحدود، والطريقة التي أجهدت بها مؤلفاته موارد البيانو وعازفيه ودفعتهم إلى حافة ما كان ممكنًا. اتُهمت موسيقى بيتهوفن المتأخرة مرارًا بأنها غير قابلة للعزف، وهو يطلب فيها، كما في هذه السوناتة، ما هو مستحيل تقنيًا. لكن، وبكلمات العازف جوناثان بس، فإن رسالة بيتهوفن قد تكون هذه: أن نحاول المستحيل. سنفشل، لكننا إن فشلنا بالاتجاه الصحيح، فإن تجربتنا قد تقترب من تحقيق السمو.
الرباعي الوتري رقم 15 (1825): صلاة شكر
كتب بيتهوفن الرباعي الوتري رقم 15 قبل سنتين من وفاته. لم تكن هذه فترة سهلة بالنسبة له: كان صمم بيتهوفن قد أصبح شبه كامل، ولم يكن يتواصل مع الآخرين إلا من خلال دفاتر. وفي بداية العام، تم القبض عليه بالخطأ باعتباره متشردًا؛ وهو خطأ مفهوم نظرًا إلى هيئته التي كان يُرثى لها. بعد شهرين من بدء العمل على الرباعي، أصيب بيتهوفن بالتهاب حادّ في الأمعاء طرحه الفراش وهدد حياته. نجا بيتهوفن بمساعدة طبيبه، ووجدت هذه الخبرة المؤلمة طريقها إلى إحدى أجمل الحركات البطيئة التي كتبها على الإطلاق، إذ جاءت رباعيته في خمس حركات تشكل هذه الحركة مركز ثقلها.
رغم ألم العزلة، أو ربما بسببها، كتب بيتهوفن موسيقى تنظر إلى الداخل بصدق وجرأة غير مسبوقين: جرأة أن نعترف بضعفنا ووحدتنا، لكن أيضًا جرأة أن نرى قوة الحب والأمل الكامنين فينا كإنسانية.
فوق هذه الحركة في النوتة الموسيقية، كتب بيتهوفن العنوان التالي: «ترنيمة شكر مقدسة من شخص معافى إلى الإله». الموسيقى في المقام الليدي، وهو مقام كنسي قديم يستحضره بيتهوفن لخلق جو من التأمل والصلاة. قد تكون هذه الترنيمة أقرب ما وصلته موسيقى بيتهوفن (بل وأي موسيقى آنذاك) من إيقاف الزمن: لا إيقاع ولا تطوير ولا تغيير في السرعة، بل توهّج بطيء ومستمر من النور بأكثر أشكاله تجردًا. تتناوب ترنيمة الشكر هذه مع مقطع يأتي لأول مرة مفاجئًا: تنتفض الموسيقى في مقام جديد مشرق، ويكتب بيتهوفن أمام هذا المقطع: «شعور بقوة جديدة». إنه المُعافى يستجمع قوته وينهض، يستشعر كما لأول مرة روعة كونه حيًا، يثب وسط زغردة الكمنجات كمن يحاول الرقص؛ وهو مجهود سيتكلل بالنجاح في الحركة الأخيرة. يتناوب المقطعان، الصلاة والنهوض، وفي المرة الأخيرة التي يعود فيها لحن الترنيمة، يكتب فوقه بيتهوفن، «بأعمق المشاعر»، وتتلاشى الموسيقى وكأنما الصلاة وصلت باب السماء.
لم نجد مقطوعةً مناسبةً أكثر لختام هذا المقال وهذا العام الذي طرح الكثيرين مرضى، وأفقد الكثيرين عزيزًا، وأجبرنا أن نخاف حتمية الموت. لكن إن كان المرض العنوان الأساسي لهذا العام، فإن عنوانه الآخر هو الوحدة. وقد يكون فقدان السمع من أقسى أشكال الوحدة. إنه لمن المذهل أن بيتهوفن لم يخش للحظة أن يسرق فقدان سمعه قدرته على التأليف، لكن ما كان يخشاه أكثر من أي شيء هو أن يفقد نهائيًا القدرة على التواصل مع الآخرين، وهي قدرة صعُبت عليه أصلًا لرعونة شخصيته ورفضه قواعد اللباقة الاجتماعية. في عقده الأخير، ومع تدهور صحته، وفي عزلة عالمه الصامت، وبعد أن تبددت أحلامه بالزواج والأبوة وعيش حياة بطيئة هانئة، اشتد وعي بيتهوفن باقتراب الموت وبضيق الوقت المتبقي له، وقرر أن يتخلى عن آماله بحياة طبيعية وأن يكرس نفسه تمامًا لفنه. «عليك أن تعيش تمامًا في فنك. إنه الوجود الوحيد الممكن بالنسبة لك. لم يعد لك سعادة إلا داخل نفسك وفي فنك»، هكذا كتب لنفسه في مذكراته.
رغم ألم هذه العزلة، أو ربما بسببها، كتب بيتهوفن موسيقى تنظر إلى الداخل بصدق وجرأة غير مسبوقين: جرأة أن نعترف بضعفنا ووحدتنا، لكن أيضًا جرأة أن نرى قوة الحب والأمل الكامنين فينا كإنسانية. قد نختبر رؤيا بيتهوفن بوحدة البشرية في السيمفونية التاسعة، أو السلام الذي يصوره في سوناتاته ورباعياته المتأخرة، أو بوق الحرية في أوبراه الوحيدة «فيديليو»، وقد نتساءل: هل هناك مكان لأمل كهذا في عالم عرف وما زال يعرف ظلمًا مستبدًا وألمًا قاهرًا؟ وهنا يرد الشاعر الألماني شيلر أن على الفنان أن يضاعف من رموز الكمال «حتى يتغلب المظهر على الواقع، وحتى ينتصر الفن على الطبيعة». لقد آمن بيتهوفن بهذا الدور. إن قوة موسيقاه تكمن في تصويره للأشياء ليس كما هي، بل كما يمكن أن تكون، ذلك إن تجرأنا أن نحاول، إن تجرأنا أن نؤمن بهذا الحلم الذي لا يولد في موسيقاه إلا من أحلك ظلمات اليأس. أهو حلم ساذج؟ ربما. لكن، وكما يقول الكاتب ماينارد سولومون، فإننا إن خسرنا هذا الحلم قد لا يعود لنا ما نتشبث به في وجه أهوال حضارتنا الحديثة.
-
الهوامش
[1] المصطلح الألماني Gassenhauer، والذي يمكن ترجمته لـ«أغنية الشارع» أو «أغنية الأزقة»، يُطلق على أغنية شديدة الرواج.