عام 1961، عبأ الفنان الإيطالي، بييرو مانزوني برازه في عبوات معدنية بسعة 30 غرامًا، وباعها بسعر يساوي وزنها ذهبًا. كان عمله الشهير «براز الفنان» هذا سخريةً لاذعةً من الفن المعاصر، أو ربما مزحة عملية تستعرض قدرته على تحويل ما يلمسه إلى ذهب. اليوم، تحتفظ بعض من أكبر متاحف الفن الحديث حول العالم بواحدة من عبوات البراز هذه، فهو قد أنتج منها تسعين قطعة، وفي الحقيقة لا يعرف أحد إن كانت بالفعل تحتوى على فضلاته أم لا، وإن كانت تحمل توقيعه بلا شك. سوّق مانزوني كذلك البالونات التي نفخها كأعمال «مفاهيمية» عالية السعر، فهي تحتوي على «أنفاس الفنان»، وباع بيضات مقشرة لمسها بأصبعه وترك آثرًا عليها، كعمل فني يحمل بصمته «الحميمة».
كانت فردانية مطلع الستينيات هذه قد تجاوزت «نافورة» دوشامب، ولم يعد كافيًا أن تضع مبولة في معرض فني لتثير ضجة في عالم الفن. ففي خضم الموجة الهوسية لتسليع كل شيء، يبيع الفنان نفسه كماركة، ويغدو العمل عرضًا جانبيًا للعملية الفنية، أو مجرد حامل للإمضاء الفني أو بصمة الفنان. لم يتوقف مانزوني هنا، بل وقّع على أجساد النساء العاريات وحولهن إلى «تماثيل حية»، تم عرضها في الغاليريهات وقاعات المتاحف. بعد وفاته المفاجئة عام 1963 في عمر الثلاثين، لم يخلُ عمل وثائقي عن حياة مانزوني من حوار مع أحد أعماله، واحدة من موديلاته الإيطاليات، وهي تعرض أمام الكاميرات الوثيقة الموقعة منه لتثبت أنها تمثال حي.
يأتي الفنان البلجيكي المعاصر، ويم ديلفوي، ليستكمل العمل على ثيمات مشابهة، بالتجريب فيما أطلق عليه «فنون المزرعة». إذ بدأ برسم الوشوم على أجساد الخنازير، لتحويلها إلى أعمال حية قابلة للعرض، وللنمو أيضًا في الحجم كما في السعر، قبل أن يقدم أكثر أعماله شهرة، «تيم»، حين وشم هذه المرة ظهر السويسري تيم شتاينر، وحوّله إلى عمل فني حي، يُعرض نصف عارٍ حول العالم. بين عامي 2006 و2016، كان تيم قد جلس أمام الجمهور لمدة تجاوزت الـ1500 ساعة، متنقلًا بين متاحف ألمانيا واستراليا والصين وإيطاليا وبريطانيا وحتى اللوفر الباريسي.
للوهلة الأولى، يبدو عمل ديلفوي فجًا إلى أقصى، لكن مقارنة بين تيم وحارس قاعة المتحف نفسه الذي يقضى كل يوم ثماني ساعات جالسًا صامتًا في كرسيه، مع استراحات دورية لا تتجاوز بضع دقائق يقطع فيها القاعة ذهابًا وإيابا بهدوء، ربما تخفف الصدمة، أو تضيف إليها المزيد من التساؤلات؛ ماذا يبيع العامل بالأجرة مقابل راتبه؟ أين يكون جسد الموظف أثناء ساعات العمل وماذا يفعل به؟ بكم يقايض الأجير على حضوره البدني بشكل مؤقت ودوري؟ حملقة الجمهور الملتف حول تيم صادمة بالتأكيد، لكن ماذا عنه بقية فنون الاستعراض، والمسرح، والسيرك، والستربتيز، وعروض الرقص، ومباريات المصارعة، ومسابقات الجمال؟
في الفيلم الروائي الطويل «الرجل الذي باع ظهره» (2020)، المرشح على القائمة القصيرة للأوسكار أفضل فيلم أجنبي هذا العام، تستلهم المخرجة التونسية، كوثر بن هنية، عمل ديلفوي. تعديل بسيط يدخله الفيلم على القصة الحقيقة، فيضيف طبقات إضافية من التعقيد والصدمة المتعمدة؛ عوضًا عن تيم السويسري، يصبح وسام، اللاجئ السوري في لبنان، هو موضوع العمل. فكلما زاد الفارق في القوى بين الفنان وموضوعه البشري، يصبح الأمر أكثر إيلامًا. يعمل وسام في مفرخة مُمَيْكَنة لتربية الدجاج، ورمزية مكان عمله غير عصية على الفهم. بالصدفة، وفي أحد غاليريهات بيروت التي يرتادها للحصول على الطعام المجاني، يلتقي الشاب المعدم بالفنان البلجيكي جيفري، ولا تحتاج الصفقة للكثير من الإقناع. يبيع وسام ظهره مقابل عرض مالي سخي، وفيزا إلى بلجيكا، حيث تعيش حبيبته السابقة.
«الشخص الأفغاني أو الفلسطيني أو السوري هو شخص غير مرغوب فيه، لكن بتحويله إلى تابلوه للرسم، أو بمعنى آخر إلى سلعة… يمكن أن يسترجع حريته وإنسانيته»، بتلك المفارقة الوحشية يقف جيفري أمام وسائل الإعلام ليتحدث عن عمله الجديد، ويضيف ببساطة أن الإنسان السلعة أكثر حرية من صنوف أدنى من البشر، و«تدوير السلع أسهل كثيرًا من حركة الناس». وليكمل جيفري سخريته المؤلمة، يقوم بوشم ظهر اللاجئ السوري بنسخة مكبرة من فيزا الشنغن، فبتلك العلامة وحدها يمكن أن يتمتع المرء ببعض الحرية. ولعل وشم الشنغن يستدعي صورًا لصفوف من البشر المدموغين بها وبغيرها من العلامات، وهم يتحركون عبر الحدود أو يتم توقيفهم بينها، في تذكير بخنازير ديلفوي الموشومة، وربما أيضًا بأختام الذبائح المعلقة في المجازر.
بجسد نصف عارٍ، يجلس وسام يوميًا للعرض في أحد متاحف العاصمة البلجيكية، ويتم بيعه كعمل فني إلى واحد من جامعي الأعمال الفنية، كما حدث فعلًا مع تيم. لكن تلك الفانتازيا شديدة الواقعية لا تنبع مفارقتها من وضع البشر للعرض، أو تحويل الغاليري إلى حديقة حيوان أو سيرك للمشوهين، فهذا يحدث كل يوم وفي كل مكان وبأشكال كثيرة جدًا ومعتادة إلى حد أنها لا تلفت الانتباه. تأتي المفارقة من قلب معادلة بجماليون رأسًا على عقب، فالحلم المعاصر يغدو إمكانية تحويل البشر إلى حجارة، لا العكس، والجسد الحي إلى جماد. يعيد الفيلم تشكيل ثيمات فاوست، فلم يعُد أحدٌ بحاجة لبيع روحه للشيطان؛ الروح بخسة وعلى الأغلب بلا سعر. الأهم هو الجسد، الجلد تحديدًا؛ السطح والخارجي هو ساحة عمليات التسليع والاستهلاك. والأدهى أنه لا دخل للشياطين بكل هذا، فجيفري وإن كان كلبيًا، أو كما يقول دفاعًا عن نفسه «العالم هو الكلبي»، فهو ليس شريرًا بأي حال. كل ما في الأمر إنه يفهم جيدًا آليات عمل النظام، ويلعب بقواعده.
يعيد الفيلم تشكيل ثيمات فاوست، فلم يعُد أحدٌ بحاجة لبيع روحه للشيطان؛ الروح بخسة وعلى الأغلب بلا سعر. الأهم هو الجسد.
يتساءل ديفيد هارفي في كتابه «مدن متمردة» عن الفارق بين المنتج الفني والقمصان والأحذية. على نحو مختلف عن السلع المصنعة التي تدر أرباحها من فارق القيمة، يصنف هارفي أرباح تداول العمل الفني كعائد احتكاري، أساسه الندرة أو التفرد. لكن مع أن صفات الخصوصية هامة للغاية لتعريف العمل الفني، إلا أن متطلبات القابلية للتداول تعني ألا يكون هذا العنصر متفردًا أو خاصًا جدًا بدرجة تخرجه كليًا من الحسابات النقدية. المعضلة التي يطرحها تيم في الحقيقة، و«وسام» في الفيلم، هو كيف يمكن إدراج البشر داخل منظومة التداول. يبيع تيم جلده مقدمًا إياه إلى واحد من جامعي الأعمال الفنية، فسيتم سلخه بعد موته ليصبح الوشم عليه عملًا فنيًا دائمًا (هذا التعاقد حدث في الحقيقة فعلًا)، ويبيع وسام جلده هو الآخر لكن بطريقة أكثر تعقيدًا ومراوغة.
لكن وسام ليس وحده، فسريعًا ما نكتشف أن حبيبته السابقة باعت نفسها أيضًا، بالزواج من دبلوماسي سوري يعمل في بروكسل لتهرب من الحرب. فما الذي يستطيعه المرء إن لم يكن لديه سوى جسده للمقايضة عليه مقابل حياته؟ وفي قاعة المزادات الفنية حين يعرض وسام للبيع، ينقلب السؤال فجأة، فماذا إن لم يكن أمام المرء سوى تحطيم جسده أو التهديد بتفجيره حتى يستعيد قليلًا من كرامته؟
تقدم كوثر بن هنية، فيلمًا مفاهيميًا، كالعمل الفني الذي تستلهمه، لذا يظل أقوى جوانبه هو الحوار شديد الذكاء والإيلام، دون الحاجة لإسقاطات أو استعارات، ودون الغوص في عمق الشخصيات، مكتفيةً بالعمل على السطح، اللغة المباشرة والصورة. في عالم يبدو فيه تحطيم لوحة «بربريةً» تستحق السجن، فيما يذبح مئات الألوف من البشر على الجانب الآخر من العالم دون إثارة الكثير من الانزعاج، يبدو سؤال الفن تافهًا وجوهريًا بالقدر ذاته. فكيف تتحول المأساة السورية وكل الفظاعات الأخرى إلى مجرد مادة خامة لسوق الثقافة؟ وكيف يمكن أن يتعارض ما يقوله الفن مع ما يفعله حقًا؟ وأيضًا، ما الذي يمكن لـ«الرجل الذي باع ظهره» أن يفعله سوى أن يكون هو الآخر منتجًا إضافيًا في شبكة تدوير السلع الثقافية؟