يعيدُ الزمن نفسه عندما نرى أطفالنا متعلّقين بكتب مُعيّنة دون غيرها، تمامًا كما كنا نتعلق ونحن صغار بكتب صغيرة بأغلفة بالية نصرّ على أن تُقرأ لنا كل ليلة قبل النوم. كتب الأطفال بوابةٌ إلى عوالم سحرية مليئة بالرسوم الزاهية وبشخصيات تبدو وكأنها تتحرك تحت ضوء المصباح الجانبي الخافت. البعض منا لم يكن -كما أطفالنا الآن- يجيد القراءة بعد، لكننا نحفظ القصص عن ظهر قلب، وعندما نرى مصادفة أحد تلك الكتب على رفّ مكتبة ما، نشعر بدفعة من الحنين وكأننا عدنا أطفالًا مشاكسين نماطل موعد النوم في سبيل قراءة صفحات إضافية.
وهنا ربما علينا أن نتذكر أن وراء كلّ كتاب مصور من تلك الكتب التي أحببنا، إضافة للمؤلف رسامٌ محترفٌ، يستخدم خياله ومهاراته لتحويل النصوص المبسّطة إلى عوالم ساحرة تنبض بالحياة.
بثّ الحياة في النصوص
لكل قصة مصوّرة أسلوب فني يتكامل مع النص ويقدمّه بصريًا، يبدأ بفهم الفنان لجوهر النص؛ بتفكيك أفكاره، والمشاعر التي يحاول إيصالها، وسياقه، ليختار بعدها لغة بصرية تتناغم معه. لا يقتصر التعبير البصري على نمط واحد، بل يتنوع ليعكس أساليب السرد المتعددة. فمن خلال الألوان، والتكوينات، والخطوط، يمكن للصورة أن تروي القصة بطرق مختلفة، سواء عبر الأسلوب الواقعي الذي يقرّب الطفل من العالم المألوف، أو التجريدي الذي يثير خياله ويعكس الجوهر العاطفي للعمل، أو الطفولي العفوي الذي يجذب انتباهه ويمنحه شعورًا بالألفة. يقول الفنان البصري ورسام كتب الأطفال حسّان مناصرة إن هناك عدة أساليب فنية في عالم أدب الأطفال تتنوع من الفانتازيا الخيالية إلى الواقعية الكلاسيكية، وطبيعة النص هي التي تقرر الأسلوب الأمثل الذي على الرسام أن يستخدمه. ويضيف بالقول «لا يقتصر الأمر على المهارة الفنية في الرسم، فهو يتطلب قراءة معمّقة للنصوص، وفهمًا لروح القصة، وقدرة على تفكيك الأفكار والرسائل الأساسية».
تَواصُل الرسام مع النص لا يقتصر على الشكل، بل يشمل الإحساس بإيقاعه والتفاعل مع رمزيّته، لخلق تجربة بصرية تعزز الرسالة الأصلية وتفتح آفاقًا جديدة للأطفال لتأويلها. وهذا ما لاحظه مناصرة في مسيرته في استكشاف أساليب فنية مختلفة في عالم أدب الأطفال، ولذا تتنوع أعماله من الفانتازيا الخيالية إلى الواقعية، لكنه يلاحظ أن أطفاله يميلون للرسم الطفولي الذي يشبه ما يرسمونه أكثر من تلك التي تتبع أساليب تشكيلية وتجريدية.
لا تتمّ عملية الرسم بمعزل عن باقي عناصر الكتاب المرسوم، فقد تتدخل دار النشر أو الكاتب لإعادة ضبط القصة بما يتناسب مع الرؤية العامة للكتاب لضمان اتساق الرسوم مع روح النص وأهدافه. تشرح هديل مقدادي، كاتبة قصص الأطفال والمديرة التنفيذية لدار الياسمين، عملية التصميم البصري للقصص بحيث تكون متزامنةً مع تحرير النصوص، وتقول: «حتى بعد انتهاء الرسم، يخضع النص لجولة أخرى من التحرير نسميّها التحرير المعزز للرسومات. تُحذف فيها النصوص التي تمّت تغطيتها بشكل وافٍ في الرسم، الأمر الذي يقوي العمل ككل نصًا ورسمًا».
هناك إجماع لافت لدى الرسامين والكتّاب ودور النشر وأهالي الأطفال حول أن العلاقة بين الرسم والنص في قصص الأطفال المصوّرة علاقة تكامليّة، بحيث لا يمكن القول إن أحدهما أهم من الآخر. وبالإضافة إلى كونها عناصر جاذبة للقرّاء الصغار، تستطيع الرسومات أن تُعبّر أحيانًا عن مشاعر وأحاسيس لا تغطيها النصوص والكلمات في القصة كتعابير الوجوه للشخصيات في مشهد ما. فكما يقرأ الأطفال النصوص، فإنهم يقرأون الصور أيضًا من خلال ملاحظة تعابير وجوه الشخصيات، والالتفات لتفاصيل الرسومات التي قد تمهّد لأحداث لاحقة. تُعتبر هذه المهارة أساسًا لتطوير القدرة على القراءة البصرية، وهي مهارة سيحتاجونها لاحقًا في حياتهم. وهو ما يتفق معه عالم النفس السويسري جان بياجيه الذي يقول إن قرّاء الكتب المصورة الصغار قد يكونون قادرين على استيعاب المعاني الرمزية للأشياء والصور حتى وإن كانوا لا يزالون يتعثرون في وضع أنفسهم مكان الآخرين، في حين أن قرّاء الكتب المصوّرة الأكبر سنًا أقدر على التفكير المجرد، وحلّ المشكلات، وأنماط أخرى من التفكير المنطقي.
بالتالي فإن كلّ ما يختار الرسام إظهاره في لوحات القصص المصورة -سواء من تفاصيل أو عناصر كبيرة أو دقيقة- ستكون له دلالات لدى الأطفال. وهذا ما تؤكد عليها إيناس في تجربتها مع طفلها زكريا (ثلاثة أعوام) والتفاتاته للفكاهة في التفاصيل الظريفة كما في قصة قط شقي جدًا[1] إذ إن القط أحدث الفوضى في البيت بقلبه رأسًا على عقب «وبالفعل الرسم للمنزل مقلوب. ويضحك زكريا وبصير يقلب الكتاب كل مرة». وفي صفحة أخرى يذهب العجوز والقط إلى أبعد مكانٍ في الكرة الأرضية، ويُظهِر الرسم المشهد في القطب الجنوبي.


من كتاب «قط شقي جدًا»، قصة عبير الطاهر ورسم مايا فداوي. منشورات دار الياسمين
هناء، أم لطفلين هاشم (ثمانية أعوام) ولينا (أربعة أعوام)، تفاجئها دائمًا حساسية أطفالها للتفاصيل ولتعابير الوجوه حتى في العناصر الثانوية في القصص. «بيسألوني ماما ليش الدبدوب ما عم يضحك؟ والدبدوب بكون مركون على الرف في زاوية الصفحة».
كيف نختار القصص المصورة لأطفالنا؟
على خلاف ما هو متوقع، هنالك تنوّع مَحمود لمحتوى أدب الأطفال في العالم العربي يخدم احتياجات وأذواقًا مختلفة لدى الأهالي والأطفال على حد سواء. تتنوع كتب الأطفال وفقًا لأعمارهم واحتياجاتهم، من كتب الصور التي تمزج بين النصوص البسيطة والرسومات للأعمار الصغيرة، إلى الكتب التفاعلية التي تحفز المهارات الحسية والبصرية. وبينما تحظى كتب المغامرات والخيال بشعبية بين الأطفال الأكبر سنًا، تحفّز الكتب الصامتة الخيال من خلال الصور فقط. تقول تمارا قشحة، كاتبة ورسامة قصص أطفال، «من المهم أن يكون لدينا كتب بصرية تركّز على الجماليات، وأخرى تعليمية أو توجيهية تُشجّع على ممارسات معينة». وعلى تنوّع أهداف الأهالي، قد تنجح بعض الكتب المصورة المغلفة بالترفيه أو التي تفتح أفقًا للخيال بإيصال معانٍ تربوية.
تشجع رسامة كتب الأطفال روان صدر الأهالي على الاهتمام بالتغذية البصرية ومشاركة أطفالهم بقيم جمالية من خلال كتب الأطفال المصورة. فهي تتمنى لأدب الأطفال الفكاك من البُعد التعليمي والتربوي وأن يستخدم كأداة مرحة للعب والاستكشاف. وتقول: «ليس علينا حشو المواعظ والعِبر في جميع الأعمال. من المفيد أن نقدّم القراءة لأطفالنا كنشاط ترفيهي ممتع وليس كوسيلة تعليمية بالضرورة». وترى أن الجمال بحد ذاته يمكن أن يكون هدفًا في الكتب المصورة، سواء رافقت الرسومات نصوص، أو كانت كتبًا صامتة، وهي الكتب التي تروي قصّة من دون الاستعانة بالكلمات. تشاركها هديل مقدادي الرأي إذ ترى أن الكتاب يجب أن يكون «صديقًا» للطفل يهرب إليه من المنهاج المدرسي بهدف الاستمتاع بعيدًا عن الشاشات.
لُبنى أم لطفلين؛ جاد (ستة أعوام) وجنين (ثلاثة أعوام) متزوجة من فرنسي، ويتحدث أطفالها العربية والفرنسية، تنتقي الكتب العربية المصورة لأطفالها بعناية. صحيح أنها معنيّة بزيادة الحصيلة اللغوية وتحفيز الحوار بالعربية، لكنها حريصة أيضًا على اختيار أعمال تنقل ثقافتها لأبنائها. تحب لبنى إصدارات دار السلوى «لأنها بتشبهنا» على حد تعبيرها، فحتى رسوم العناصر التي قد تكون فرعية في القصة كمائدة الفطور أو الأطباق التي يتناولها الأطفال وملامح الحياة اليومية، كلها أمور تلفت انتباه أطفالها وتجعلهم يتفاعلون مع القصص.
في المقابل، تصف هناء تجربتها في معارض الكتاب الأخيرة وكأنها مَهمّة للبحث عما يحاكي احتياجات أطفالها التربوية. فكتب الأطفال المصورة عن استخدام الحمّام أو اليوم الأول في مدرسة ساعدت طفلتها لينا (أربعة أعوام) في رؤية نماذج لأطفال آخرين يمرون بتجارب مشابهة. كما تلاحظ هناء أن استفادة أطفالها لا تكون بالضرورة من خلال رسائل تلقينيّة مباشرة، فالقصص التي تصوّر شخصيات متّسقة مع تصور نموذجي مرغوب تقوم بالاستحمام وتمشيط الشعر، وتنظيف الأسنان وارتداء ملابس النوم وغيرها، وحتى إن لم تكن المحور الأساسي للقصة فإنها تشجع أطفالها على ممارسة هذه السلوكيات التي عادة ما يشاكسون ويقاومونها.
تلخّص رودين سيمز الملقبة بأم أدب الأطفال متعدد الثقافات، والمعروفة بأبحاثها في مجال أدب الأطفال الأمريكي، أن: «كتب الأطفال المصورة إما أن تكون نوافذ على عوالم أخرى، أو مرايا يمكن للأطفال أن يروا أنفسهم من خلالها، أو أبوابًا متحركة يمكنهم النفاذ منها لعوالم أخرى». كما يمكنها أن تكون وسيلة فعالة لشرح العالم للصغار، ومساعدتهم على فهم القضايا المحيطة بهم بطريقة مبسطة وجذابة.

من رسومات روان صدر
طفرة في كتب الأطفال المصورة
شهد أدب الأطفال العربي تطورًا ملحوظًا على المستويات المحلية والإقليمية. يرى الأستاذ منير حسني الهور، رئيس تحرير مجلة وسام للأطفال ومجلة حاتم سابقًا، أن الأردن يمر بمرحلة إبداع وازدهار بعد سنوات من تأسيس وتطوير بنية تحتية لأدب الأطفال محليًا،[2] والتي تكونت من مؤسسات راعية وحاضنة لهذا الأدب. فقد كانت المجلات الثقافية المصوّرة للأطفال من المحطات البارزة لانتشار أدب الأطفال في الأردن، حيث صدرت مجلة وسام عن وزارة الثقافة عام 1984 وما زالت مستمرة حتى اليوم. وفي عام 1998، بدأت مجلة حاتم، التي أصدرتها صحيفة الرأي، ومجلة براعم عمان، التي أطلقتها أمانة عمان الكبرى.
لعبت هذه المجلات دورًا مهمًا، إذ وفرت مساحة لنشر مشاركات الأطفال والكتّاب والرسامين الناشئين، كما نظّمت مسابقات تهدف لتنمية مهارات الكتابة والرسم وتشجيع الإبداع.
بالإضافة إلى المجلات المصورة، لدور النشر المتخصصة في أدب الأطفال في الأردن دور ملحوظ في تطور المجال. حيث يلاحظ الأهالي زيادة الخيارات المتاحة في المكتبات وفي معارض الكتب السنوية والتي أصبحت تضمّ بشكل متزايد إصدارات غنية ومتنوعة تلبي احتياجات الأطفال بمختلف أعمارهم. كما أنها أسهمت في دعم الكتّاب والرسامين الأردنيين، وبمنافستها على الجوائز العربية والدولية عزّزت حضور أدب الأطفال الأردني على الساحة الإقليمية.
رغم أن الأعمال الفائزة في الجوائز لا تكون ناجحة تجاريًا بالضرورة بحسب عدد من دور النشر، إلا أن العاملين في مجال أدب الأطفال متفقون على الأثر الإيجابي للجوائز. فقد أحدثت نوعًا من المنافسة الصحية ووفرت الدعم المالي الضروري للفنانين والكتاب والناشرين بما يمكنهم من دعم أنفسهم لفترة أطول على امتداد مسارهم الإبداعي المتأرجح. ليس هذا فحسب، حتى إن لم يفز المرشحون بالجوائز المالية أو الألقاب، فإن المترشحين للقوائم القصيرة يحصلون على فرص دعم وتطوير كالمشاركة في ورشات متخصصة أو زيارة معارض كتب عالمية كالتي تقام في بولونيا وبلغراد وغيرها، بالإضافة إلى التشبيك مع خبراء في المجال. كما شجعت الناشرين على السعي وراء المشروعات ذات الجودة العالية وعلى مواصلة تطوير أنفسهم.

جائزة اتصالات التي حصلت عليها دار الياسمين لعام 2014
بالفعل، يسود النفس التجديدي في مجال أدب الأطفال الذي يحتفي بالابتكار ويشجع على استكشاف أساليب فنية وأدبية جديدة. التجديد في رسوم كتب الأطفال لا يعني فقط استخدام تقنيات جديدة أو تجربة ألوان وأساليب مختلفة، بل يشمل أيضًا تقديم رؤى بصرية غير تقليدية تواكب اهتمامات الأطفال المتغيرة. في عالم باتت فيه الشاشات الرقمية والرسوم المتحركة متاحة بكثرة، أصبح من الضروري أن تنافس كتب الأطفال المصورة بتقديم رسوم نابضة بالحياة، تفاعلية ومبتكرة، تحفّز خيال الطفل وتجعله يفضل التفاعل مع الكتاب الورقي. وهو ما يؤكده كلام من قابلناهم من رسامين ذوي أساليب متنوعة، إذ تحدثوا عن ضرورة أن تكون الأساليب الفنية مبتكرة، بعيدة عن التقليد.
يؤكد الأهالي على قدرة أطفالهم على تمييز الرسومات النوعية التي تستميلهم لكتب دون غيرها. تقول هناء: «لا أستطيع التنبؤ بالكتب التي تعجب أطفالي، أحيانًا أختار كتابًا أظن أنهم سيغرمون به، لكنهم لا يحبونه، والعكس صحيح. فبعض الكتب التي قد أشتريها على مضض، تصبح كتبهم المفضلة. لذلك أحب أن أنوّع في الكتب وأشتري قصصًا مصورة بأنماط فنية غير تقليدية».
المهم في أدب الأطفال ليس النجاح الفني أو التجاري فقط، بل هو التأثير الذي يتركه الكتاب على الأطفال، والتفاعل الذي يخلقه معهم. أو بتعابير الباحثة ياسمين مطاوع النجاح هو عندما تلمع عيون الأطفال شغفًا ودهشة واطمئنانًا.

لبنى والمربع السحري، قصة هديل مقدادي ورسم ديالا زاده، منشورات دار الياسمين.


مرسم روان صدر
-
الهوامش
[1] قط شقي جدًا، قصة عبير الطاهر، رسم مايا فداوي، الناشر: دار الياسمين – ترجمت إلى 3 لغات وفازت بجائزة اتصالات لكتاب الطفل عام 2014، وجائزة المكتبة العالمية للشباب في ميونخ 2016.
[2] شارك الأستاذ منير حسني الهور في ملتقى شومان لأدب الأطفال في الأردن عام 2023 وقدم ورقة نقاشية شارك فيها المراحل التي مر بها أدب الأطفال «كما عايشها» وقسمها لأربع مراحل: مرحلة البدايات (من الخمسينات للثمانينيات)، مرحلة التأسيس (1990-2000)، مرحلة التنافس (2001-2011)، ومرحلة الإبداع (2011- حتى الوقت الراهن).