سنة 1838، قاد فيرغوس أوكونور في بريطانيا حملةً لجمع تواقيع مليون شخص من أبناء الطبقة العاملة. كان الهدف واضحًا: رفع هذه العريضة للبرلمان البريطاني للمطالبة بحق الطبقة العاملة في التصويت. في حين كانت بريطانيا تتخيل نفسها كديمقراطية مثالية، كان حق الانتخاب يقتصر على نخبة من الملاك وأصحاب الأراضي ورؤوس الأموال، وكانت الطبقات العامة تعيش ظروفًا قاسية، تحكمها ساعات عمل طويلة، وأجور متدنية، وظروف صحية مجحفة، وشقاء لا ينتهي. قاد أوكونر هذه الحملة مجيشًا الغضب الذي كان يختمر في الشارع حينها، ومستغلًا جزئية في القانون البريطاني تتيح لأي مواطن أن يرفع عريضة شكوى إلى مجلس النواب. حين أُدخلت العريضة -التي جمعت 1,280,959 توقيع من عمال المناجم، والنسيج، والمصانع، وامتدت على مسافة ثلاثة أميال إلى مبنى البرلمان- قوبلت بالضحك والسخرية، وتقول القصة إن الضحك استمر حتى أثناء قراءة مطلب العمال القائل «نأمل أن يأخذ هذا البيت الموقر هذه العريضة بعين الاعتبار، ويصدر قانونًا يسمح لكل رجل بلغ السن القانوني وسليم العقل بالحق في اختيار نوابه». وفي حين رُفضت العريضة -كما رُفضت بعدها عريضة أخرى جمعت توقيع ثلاثة ملايين عامل، وتطلب إدخالها لمجلس النواب نزع إطار بابه- إلا أنها تركت وراءها عالمًا جديدًا لم يعد بالإمكان كبحه، تدفق فيه وعي غير مسبوق للطبقة العاملة بنفسها كقوة، يوحدها هم مشترك، وأهداف واضحة، وقدرة على العمل والتنظيم.
يسرد كتاب الأمريكي غال بيكرمان، «الهدوء الذي يسبق: تاريخ نشأة الأفكار الراديكالية»،[1] القصة التي واكبت جمع هذه التواقيع، وهي قصة امتدت على عدة سنوات، تخللها الكثير من العمل التنظيمي من أجل جمع أفراد الطبقة العاملة لصالح هدف محدد. ويوضح الفصل الجهد البطيء والمتمهل الذي يصاحب ظهور أفكار جديدة، والعملية التعليمية التي تشكل في الحقيقة جوهر أي عملية تغيير اجتماعي أو سياسي، وكما يقول مالكولم شيز، «فإن جمع التواقيع كان صيرورة تعليمية، مركزية لبناء وعي سياسي». تطلب جمع التواقيع -الذي كان في البداية بطيئًا ولم يلاقي إقبالًا كبيرًا- نصب الطاولات في البلدات وأمام المصانع، ومخاطبة العمال، وجلسات من الإقناع والجدال، ويوضح الكتاب كيف تطورت هذه النقاشات والجلسات الجدالية إلى لجان نشأت في البلدات والمدن والقرى، تولت لوجستيات العملية وأصبحت لاحقًا بؤرًا تنظيمية. والأهم من ذلك، فقد تطلبت العملية قرع الأبواب والاحتكاك المباشر مع الناس.
«كانت العريضة نقرة على الباب، ولكنها أيضًا قامت بشيء آخر، ففي اللحظة التي سمحت فيها لمشاعر وأفكار جديدة بأن تطفو على السطح، وفرت أيضًا مخرجًا مشتركًا، طريقة لمنح كل هذا النقاش هدفًا محددًا»، يقول بيكرمان. فما انطوت عليه هذه العملية في الحقيقة هو حالة مكثفة من الجدال والنقاش، وما يبدو ظاهريًا كعمل لوجستي هو في الحقيقة عمل فكري جدالي، سعت فيه مجموعة من الناس إلى توضيح ظروف القهر، ومكامن القوة، وشرح البنى المادية والايديولوجية لأي لحظة تاريخية.
تشكل هذه القصة فصل «التجانس»، في كتاب بيكرمان الذي يتناول تاريخ نشأة الأفكار الراديكالية، وينصب تركيزه على فترة كثيرًا ما تُهمل من تاريخ الحراكات الثورية، وهي الفترة التي تسبق لحظة خروج الناس إلى الشوارع. فكما يصف الكاتب في بداية الكتاب، تتشكل أي ثورة من ثلاثة فصول مسرحية. وفي حين تشكل اللحظة التي يخرج فيها الناس إلى الشارع ويهتفون بغضب الفصل الثالث، فإن الفصلين الأول والثاني هما الفصلان الطويلان اللذان تختمر فيهما الأفكار التي تشعل أي حراك ثوري. يولي الكتاب اهتمامه بهذه الفترة، أي بالصيرورة الطويلة من العمل الثوري التي تحصل بهدوء وصمت، مشيرًا في الحقيقة إلى تاريخ النقاش، وما يعنيه أن تكون شريكًا في تخيل عالم جديد، وأن تطرح هذا التصور على مجموعة من الناس.
يتساءل الكتاب عما يعنيه أن نتجادل، وعن الممكنات المختلفة التي يتيحها هذا الجدال، تبعًا للحيز الذي يثار فيه، سواء من خلال المجلات، أو الجرائد، أو المنشورات السرية، أو المانفيستوهات، أو حلقات النقاش، خاتمًا بتساؤل فعلي عن أثر وسائل التواصل الاجتماعي، أو السوشال ميديا، والإنترنت على طبيعة هذه النقاشات. في فصول ممتعة ومثيرة، يستعرض الكتاب ممارسات من تاريخ الحراكات الثورية خلقت حالة جدال لم تكن مسبوقة، وسمحت للأفكار التي تطالب بعالم جديد بأن تتطور من خلال بناء تصور عن طبيعة العالم الاجتماعي والسياسي الجديد الذي تطالب به.
السجال وجهد الإقناع
يبدأ الكتاب من الثورة العلمية في بريطانيا سنة 1668، ويمر بمانشستر عام 1838، والساحل الذهبي الإفريقي عام 1930، وحتى ثورة 25 يناير في مصر، وحركة «حياة السود مهمة». ويهتم باللحظات التي اخترعت فيها هذه الحراكات وسيطًا خلاقًا أتاح لها أن تتداول الأفكار بين بعضها البعض، بعيدًا عن أعين الرقابة، وتنشرها بطريقة سمحت لهذه الأفكار بخلق حالة جدال وطرح تصور جديد عن العالم.
من الأمثلة على ذلك «جمهورية الرسائل»، وهي عبارة عن شبكة من الكتاب والمفكرين والعلماء نشأت في القرن الخامس عشر وترسخت بقوة أكبر خلال القرن السابع عشر، تبادل المساهمون فيها من خلال الرسائل آراءهم حول مواضيع كان الجهر بها في الفضاء العام يقابل بعقاب شديد من الكنيسة. لم تكن الثورة العلمية مجرد تطور سريع وهائل في العلوم والتكنولوجيا، بل كانت في الحقيقة تطرح فهمًا جديدًا للعالم يفترض أن للعالم وجودًا ماديًا منفصلًا عن الكيفية التي نختبره بها، وتحاول أن ترى العالم كما هو، وليس كما نرغب بأن نراه. تطلب ذلك أدوات جديدة لفهمه، تقوم على الفحص والمراقبة والتجربة والبحث العلمي، وحس جديد يقوم على الشك ورفض القديم.
هذا كتاب عن تاريخ النقاش، أو عن ممارسات سعت لأن تثير نقاشًا معينًا، والكيفية التي سحقت فيها السوشال ميديا فهمنا لما يعنيه أن نتناقش، وأثر ذلك على الحراكات الاجتماعية والسياسية.
عنون بيكرمان هذا الفصل بـ«الصبر»، وفيه قصّ محاولة عالم فرنسي يدعى نيكولا دي بيرسك قياس المسافات بين خطوط الطول، وقيامه بتجنيد أشخاص في مناطق مختلفة في البرتغال، واليونان، وإيطاليا، وتونس، ولبنان، وسوريا، من أجل أخذ قياسات في نفس اللحظة لظاهرة خسوف القمر، ومقارنتها ببعضها البعض، حتى يقوم باحتساب المسافات الفعلية لخطوط الطول. كان بيرسك مهووسًا بالبحر الأبيض المتوسط، وكان يرغب في قياس عرضه الحقيقي، فقد كانت تجارب الملاحين والبحارة تشير إلى أن عرضه يختلف بشكل جذري عمّا تقوله الخرائط في ذلك الوقت. وحتى يتمكن من ذلك، كان عليه أن يجد المسافات الحقيقية بين خطوط الطول. حاول بيرسك أن ينظم تجربة مراقبة جماعية لعدد من الأشخاص لم يتساءلوا من قبل عن القمر، أو عما تعنيه خطوط الطول. وكان من بينهم رجال دين، رفضوا رفضًا قاطعًا الانخراط حتى بالنظر إلى العالم بهذه الطريقة، بحكم قناعاتهم الدينية وانتمائهم للكنيسة الكاثوليكية. فقد كانت الفكرة المكرسة لدى المؤسسة الدينية بأن الأرض ثابتة في مركز العالم تتعرض للتشكيك بسبب هذه الظواهر الغريبة في السماء.
يوضح بيكرمان أنه في حين قادت أحداث عصر النهضة والإصلاح الديني إلى تعزيز مكانة الإرادة الذاتية والتساؤل المتشكك، إلا أن هيمنة الكنيسة كانت لا تزال طاغية على الفكر، مشددة على الانصياع إلى العقيدة، وكان تصريح الفيلسوف سانت أوغستين من القرن الخامس، لا يزال يشكل روح العصر: «ليس من الضروري محاولة فهم الأشياء كما فعل الإغريق، يكفي أن يفهم المسيحي بأن السبب وراء كل المخلوقات، سماوية أو أرضية، مرئية أو غير مرئية، هو حب الخالق، الإله الوحيد الحقيقي». ولهذا كان بيرسك أمام معضلة حقيقية، فحتى يشارك رجال الدين في تجربته، كان عليه أن يخوض جولة من الإقناع. وتوضح رسائله الحجج والجدالات المختلفة التي طرحها أمام رجال الدين في محاولته لاستمالتهم وإقناعهم بضرورة الانضمام إلى التجربة، خائضًا في الحقيقة جدالًا فكريًا حول طبيعة البحث العلمي، وضرورته، والكيفية التي قد لا يتعارض فيها مع الكنيسة.
يشير بيكرمان إلى أن عملية الإقناع، التي كانت دومًا عملية أساسية وجوهرية في أي لحظة تغيير اجتماعي أو سياسي، هي في الحقيقة صيرورة تعمق التزام الشخص تجاه قضيته، لأنه يمارس في لحظتها ما هو في صلب أي عمل ثوري، ألا وهو تطوير انسجام قضيته مع ما يبدو غريبًا عنها، وإعادة تعديل خطابه، بحيث يتوافق مع لحظات أو مكونات لم تكن مرئية من قبل، وهو المسار الذي أخذه بيرسك في محاولته إقناع رجال الدين باستخدام حجج مختلفة، عبر جهد بطيء ومتمهل يأخذ شكل الرسائل.
تتناول الفصول الأخرى من الكتاب، بنفس الاهتمام، ما تتيحه آليات التنظيم الكلاسيكية من خلق جدال حقيقي حول العالم وقضاياه، وحشد التفاف أكبر حول الأيديولوجيا الجديدة، وفتح مساحة للتخيل. يفحص الكتاب ما أتاحه تأسيس صحيفة «الأفريكان بوست» في أكرا، فيما كان يعرف حينها بالساحل الذهبي الإفريقي. بسبب افتقار الصحيفة للبنية التحتية، والإمكانيات المادية التي كانت ستمكن هذه الجريدة من الاعتماد على الصحفيين والتغطيات المنهجية، لجأ رئيس التحرير حينها، نامدي أزيكوي، أو زيك، إلى نشر مقالات رأي من جمهور الصحيفة. وسرعان ما تحولت إلى ساحة نقاش محتدة، يتبادل فيها المساهمون تحت أسماء مستعارة الآراء حول ما يعنيه التحرر من الاستعمار، ويطرحون أسئلة عملية وإمبريقية جعلت من سؤال الحرية سؤالًا ملموسًا، يتبدى في تساؤل محموم حول طبيعة العالم الذي يحلمون به، على مستوى الخدمات الصحية، والنسوية، والعلاقة مع الأرض، والإرث الثقافي، ويشير بيكرمان إلى أن الجدال الذي كان يحصل على صفحات الجريدة كان مساحة لتبلور هوية جديدة بعيدة عن الانتماء القبلي.
«الثورة» عبر تويتر
نشأ الكتاب من قلب تساؤل لدى الكاتب حول اعتماد الحراكات الاجتماعية السياسية والاجتماعية المعاصرة بشكل أساسي على السوشال ميديا كأداة لنشر الأفكار والتغيير، وعما نفقده حين نتجاهل تمامًا أدوات التنظيم الكلاسيكية من بيانات، ومناشير، وعرائض، وحلقات نقاش، وصحف. ويتساءل: هل يحدد الوسيط الذي نستخدمه ما يمكن أن نقول وطبيعة ما نقول؟ في حالة السوشال ميديا، يجيب بيكرمان بأن الوسيط يحدد، ويعرقل المشاعر والأفكار التي تتيحها وسائط أخرى، مجادلًا بأن السوشال ميديا تنتزع إحدى أهم خصائص النشاط الاجتماعي والسياسي، وهي العملية البطيئة التي يتطلبها أي حراك يهدف إلى خلق وعي جديد. ففي حين تساعد السوشال ميديا في نشر الأفكار بسرعة، إلا أن طبيعتها تسمح فقط بردود فعل في اللحظات العاطفية والحماسية، وتغض النظر عن المواضيع الموجعة الأخرى التي لا تملك نفس الدفعة العاطفية، كما أنها تخرب الصيرورة التعليمية التي تتطلبها أي عملية تغيير، خالقةً ظرفًا لا يمكن فيه سماع بعضنا البعض.
يحاول الكتاب بشكل أساسي أن يقرب العدسة من تلك اللحظات التي قرر فيها مجموعة من البشر الانزواء في غرفة هادئة، وتبادل الأفكار فيما بينهم، ليطوروا حججهم، ويعمقوا جدالهم، ويثيروا الأسئلة الصحيحة، ويحددوا الأهداف، ويرسموا الاستراتيجية. في فصل عن فيروس كورونا ولجوء العلماء والأطباء إلى تويتر والسوشال ميديا بشكل أساسي لنشر أفكارهم، يظهر السؤال الذي يلح على الكتاب بشكل ملموس وقاطع. ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومة الأمريكية ترفض رفضًا قاطعًا أخذ أي إجراءات ملموسة على الأرض، وكان ترامب يدلي بتصريحات تقلل من شأن الفيروس، وتلمح بأنه سيختفي لوحده، أو يعطي نصائح غير علمية حول الأدوية الأكثر نجاعة، وجد العلماء والأطباء أنفسهم في حرب بين العلم والسياسة. لم تمتلك مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأمريكية (CDC) أي مخرج مستقل لمخاطبة الناس، فتصريحات المركز كانت تُقمع أو تُعدل بشكل جوهري. لذا، لجأ الناس إلى متابعة تغريدات الأطباء، والعلماء للحصول على مصدر موثوق للمعلومات، وتحولت حسابات العلماء التي كانت تضم حوالي 200 متابع إلى حسابات يتابعها مئات الآلاف.
نشأ الكتاب من قلب تساؤل لدى الكاتب حول اعتماد الحراكات الاجتماعية السياسية والاجتماعية المعاصرة بشكل أساسي على السوشال ميديا كأداة لنشر الأفكار والتغيير، وعما نفقده حين نتجاهل تمامًا أدوات التنظيم الكلاسيكية.
في هذه الأجواء، ومع ما وفرته السوشال ميديا من قدرة على التواصل السريع مع أعداد هائلة من الناس، ومع تحول تويتر إلى مساحة كبيرة للأخبار الكاذبة، يشير بيكرمان إلى أنه أضحى من الملح أكثر من أي وقت مضى التفكير بما يمكن أن يقال بصوت عالٍ. يوضح هذا الفصل كيف نشأت مجموعات صغيرة تضم علماء وأطباء وممرضين، من بينهم مجموعة «هيئة الأدمغة» (Brain Trust)، التي كان المساهمون فيها يتباحثون حول كل ما يتعلق بالوباء، مما إذا كان عليهم التوصية باستخدام الكمامات من عدمه، إلى اللغة التي يجب استخدامها، وكيفية التعامل مع المصابين داخل البيت، قبل أن يظهروا على شاشات التلفزيون أو يكتبوا تغريدات بهذه التوصيات.
يتناول الفصل الأخير المأزق الذي تثيره السوشال ميديا باعتمادها أداة أساسية للتنظيم السياسي، ويلتفت إلى حراك اكتسب قوة عارمة على السوشال ميديا عبر وسم أو هاشتاغ «حياة السود مهمة»، وتدفق أيضًا على الأرض على شاكلة مظاهرات هائلة في حجمها. يبدأ الفصل مع ميسكي نور، أحد نشطاء هذا الحراك، والشعور الذي كان ينتابه مع كل خروج للناس في الشوارع، فقد كان يرقب المظاهرات ببهجة وخوف في نفس الوقت، متسائلًا كيف يمكن استغلال هذه اللحظة من الغضب والمرئية والقوة من أجل تحقيق مطالب حقيقية على الأرض؟
يؤمن ميسكي وغيره من النشطاء بأن الشرطة الأمريكية التي نشأت في القرن التاسع عشر -على الأقل في الجنوب- للقبض على العبيد الفارين، لا يمكن لها أن تتجاوز هذه الخطيئة الأصلية من خلال الإصلاح. إن الشرطة برأيهم هي وسيلة هيمنة اجتماعية تهدف إلى إعادة إرسال السود إلى السجن. ومع ذلك، في مدينة تلو الأخرى، يحصل جهاز الشرطة على الحصة الأكبر من الدعم دون مساءلة، وبتجاهل تام للأذى الذي يلحقه بالمجتمعات السوداء والملونة. يرى النشطاء أن هدفهم النهائي هو حل جهاز الشرطة واستبداله بنظام حماية اجتماعي تقوده حاجات المجتمع.
إحدى سبل حل جهاز الشرطة برأيهم هي إعادة توجيه الدعم الهائل الذي يتلقاه لصالح الخدمات الاجتماعية الملحة. يجادل الكتاب بأنه منذ سنة 2014، دفعت حوادث قتل الشرطة للسود الناس إلى الشوارع، في وتيرة تعكس أيضًا معدل ارتفاع استخدام الوسم على السوشال ميديا. ويجادل الكتاب بأنه من الممكن فهم ديناميكيات الحراك من خلال تتبع آثار هذا الشعار في العالم الافتراضي. بدأ استخدام الوسم عام 2013 دون أن ينتبه أحد إليه حتى السنة التي تلتها، فحتى تموز 2014 ظهر الوسم في 398 تغريدة فقط. في تشرين الثاني 2014، وبعد أحداث فيرغسون، أصبح هذا الشعار هو صيحة الحراك إثر رفض المحكمة توجيه لائحة اتهام للشرطي الذي قتل مايكل براون. بعد ثلاثة أشهر، أصبح الوسم يظهر بمعدل 30 ألف مرة في اليوم، ويوضح أحد الرسوم البيانية لمعدل استخدامه بأنه يرتفع بشكل ملحوظ بالتزامن مع جرائم القتل حتى وصل عام 2016 لمليون استخدام في اليوم، بالتزامن مع جريمة قتل فيلاندو كاستيل.
في حين يحتاج كل حراك إلى هذه اللحظات من الغضب والمواجهة، إلا أن نشطاء حراك «حياة السود مهمة» بدأوا يشعرون بخطر الاعتماد على هذه اللحظات من الغضب والحزن الجماعي لإبقاء الحراك حيًا. في دراسة أجريت عام 2016 حول التغريدات التي شملت وسم «حياة السود مهمة» على السوشال ميديا، يشرح الباحثون أنه ما لم يكن هناك قتل، كان هناك حديث قليل على السوشال ميديا حول هذه القضايا، وهذا يعني كما يقول بيكرمان أن النشطاء كانوا لا يستطيعون إثارة حوارات واسعة النطاق على السوشال ميديا بنفسهم حول مواضيع بذات الأهمية ولكنها لا تملك هذه الدفعة العاطفية.
مع السنوية الخامسة لفيرغسون، ورغم إنفاق حوالي 100 مليون دولار على كاميرات الشرطة للرقابة على عناصرها، تشير التقارير بأن السود كانوا يتعرضون للتوقيف من قبل الشرطة أكثر بـ5% فيما تقلص معدل توقيف البيض بحوالي 11%. في غمرة هذه الظروف، بدأ يستولي على النشطاء شعور بالقهر والإحباط، فقد تعودوا على أن يرتفع الأمل مع المظاهرات الجياشة ثم يهبط إلى الأرض مع خفوت هذه المظاهرات. ورغم أن أعداد الاحتجاجات والمشاركين فيها كانت آخذة بالتزايد مع السنوات، إلا أن المطالب لم تكن تتحقق بصورة مادية على الأرض.
في هذه الأجواء، قررت مجموعة من الناشطين فعل شيء ما، فقد كانوا متعبين من المد والجزر، والشعور بأن أولوياتهم يحددها ما هو رائج الآن على مواقع التواصل الاجتماعي. قرر أفراد مجموعة «المدافعون عن الحلم» (Dream Defenders) أن يتخلوا عن جميع حساباتهم على السوشال ميديا لعشرة أسابيع، خصوصًا أنها كانت تمنعهم من الالتقاء بطريقة فعالة. تقول ريتشل غيلمر، إحدى أعضاء المجموعة، «إن العلاقات بين أعضاء الحراكات كانت تنافسية وغير فعالة لأننا جميعًا نتسابق على الظهور». تعلم النشطاء الكثير من خلال قضاء بعض الوقت بعيدًا عن هذه المواقع، «أولًا أن السوشال ميديا تخلق شعورًا كاذبًا بالرفقة، فقد تجادلنا ولكن ما الذي يمكن حقًا أن تجادل به وأنت تملك مساحة محدودة من الكلمات». بدأ نشطاء المجموعة بالتواصل مع مجتمعاتهم، والاستماع للناس، وما سمعوه فاجأهم. فحين بدأت ريتشل بالنقر على الأبواب في الحارات الفقيرة للحديث مع الناس، سرعان ما لاحظت أن حلم إنهاء نظام الشرطة لم يكن حلمًا مشتركًا، فالناس تطالب بالمزيد من الشرطة. كانت هذه لحظة فارقة بالنسبة للمجموعة، إذ أدركت أنه لا يمكن تجاوز آليات التنظيم القديمة، والحوار مع المجتمعات، وبناء قاعدة شعبية للمطلب الذين يحاربون من أجله.
صيرورة التغيير
هذا كتاب عن تاريخ النقاش، أو عن ممارسات سعت لأن تثير نقاشًا معينًا، والكيفية التي سحقت فيها السوشال ميديا فهمنا لما يعنيه أن نتناقش، وأثر ذلك على الحراكات الاجتماعية والسياسية التي تمثل في جوهرها صيرورة تعليمية وانشغالًا أخلاقيًا بفكرة العدالة، وما تتطلبه الحياة مع الآخرين. تشير الفلسفة الإغريقية إلى مكانة الجدال والمحاججة في المعرفة الإنسانية، ليس فقط من أجل الوصول إلى الحقيقة، ولكن كضرورة لفهم العالم، وفحصه، وشحذ بوصلتنا الأخلاقية في مواقف يصعب فيها أخذ قرار واضح، والأهم، لإخضاع المقولات والمعارف السائدة للفحص الدقيق.
هنا يكمن الفرق بين أن تغرّد بوسم يطالب بحل جهاز الشرطة، وأن تدق أبواب الناس لتكتشف أن معظم مجتمعك لا يؤمن بهذا الحل، وأن تعقد معه حوارًا حقيقيًا تصب فيه جهدك على جمع الإحصائيات، وإجراء مسح دراسي، وعقد صلات ما بين جهاز الشرطة وحوادث القتل، ورواية تاريخ هذا الموضوع وتوضيحه. هذا الجهد هو في الحقيقة الجهد المحموم الذي يبذل في تفسير العالم، وكشف الثقوب في الخطاب السائد، والعلل في الإجابة التي تبدو الأصلح. إن ما نطرحه في هذه الممارسات، لا يقتصر فقط على توثيق ما يحصل، ولا حتى على كتابة سردية مضادة للروايات التي ترددها المؤسسات الحاكمة والمتنفذة، بل صيرورة مختلفة للتفكير في العالم الذي نعيش فيه، صيرورة تسعى لأن تحطم هيمنة الخطابة التي تمارسها هذه المؤسسات.
ينقسم الكتاب إلى جزئين، يتناول الجزء الأول حراكات حصلت قبل الإنترنت بعصور، بينما يتناول الجزء الثاني حراكات اجتماعية وسياسية اعتمدت بشكل كبير على منصات التواصل الاجتماعي. في الجزء الأول، تأتي عناوين الفصول على شاكلة: الصبر، والتجانس، والخيال، والجدال، والتركيز، والتوجيه. ويوضح كل من هذه الفصول كيف اخترعت هذه الحراكات وسيطًا أتاح لها أن تنشر الأفكار بطريقة خلاقة، لتشق شوارع البلدات والقرى بعيدًا عن أعين الرقابة المهيمنة، باذلةً جهدًا جبارًا في تفسير العالم، وخالقةً انتباهًا جديدًا لحالة من الظلم لم تكن مرئية.
من هنا، تشير هذه العناوين لما يعنيه أن نصنع التغيير، فهي تتطلب أولًا «الصبر» المرهق والبطيء، والذي يكتنفه الإدراك بأن سرعة وصول المعلومة لا تعبر عن تجذرها أو تأثيرها على نفوس من يطلع عليها، وأن الخلط بين الاثنين، يفقدنا معنى التواصل مع الآخر، أو من لا يشبهنا؛ هذا التواصل الذي بتمهله وحججه الجديدة، يبني «تجانسًا» جديدًا لم يكن ممكنًا بين مجموعة من البشر لا يبدو أنهم يمتون لبعضهم البعض بصلة. ويأتي مع لحظة التجانس الجديدة هذه، انبثاق خيال جديد، بتصور جريء عن المستقبل والعالم، طارحًا رؤية مختلفة للكيفية التي يمكن أن نعيش فيها ونتشارك هذا العالم. يتطلب هذا العالم الجديد الذي لا نعرف عناصره ومكوناته بعد منا «الجدال» حتى نبنيه ونشكل تضاريسه؛ الجدال الذي يتساءل عن طبيعة مؤسسات ومنظومات ومجتمع هذا العالم، ويطرح فهمًا جديدًا للعدالة والحرية، متيحًا توجهًا لم نكن ندرك ملامحه بعد.
-
الهوامش[1] Beckerman, Gal (2022). The Quiet Before: On the Unexpected Origins of Radical Ideas. Crown: New York.