«طال غيابك يا غزالي»؛ عن الشاب حَسني الذي ولد يوم موته

الإثنين 21 تشرين الأول 2024

تحت وطأة الليل كانت الجزائر محاطة بالغبَش والغموض. بلد يخرج من عقود الركود والرتابة إلى حربٍ أهلية أبطالها الجيش والجماعات الإسلامية، وضحيتها الناس. كان الخامس من تموز عام 1993 مختلفًا عن كل أعياد الاستقلال التي عاشتها البلاد على مدى ثلاثة عقود أو تزيد. جُمِع نجوم موسيقى الراي في «ملعب 5 جويلية»، وكانت المدارج تغصّ بالجماهير التي افترش جزء منها العشب. أغلقت أبواب الملعب تحاوطها المئات من عناصر الجيش. بدأت الحفلة، وقبلها بقليل دخل حظر التجوال حيز التنفيذ عند الساعة الثامنة مساءً.

في الخارج، على أطراف حيّ بن عكنون حيث يقع الملعب، وعلى حواف الغابة الكثيفة كانت أشباح مدني مزراق ومحمد السعيد، قادة الميليشيات الإسلامية، تعبث ببنادق الكلاشينكوف، صعد عشرات الفنانين إلى المسرح. القبضات في السماء والحناجر على قلبٍ واحد، رقص الجمهور وصاح حتى خارت قواه. بدأت الساعة تقترب من الخامسة فجرًا، وأصبح الناس بين النوم واليقظة، تحوّل الملعب إلى منامةٍ كبيرةٍ. فجأة يدفع المنظمون بحبة منشط إلى المنصة العالية. دخل حبيب شوقي حمراوي، وزير الثقافة، إلى مقصف الملعب حيث يجلس نجوم الراي ناعسي الطرف ينتظرون الخلاص كي يناموا. في ردهة المقصف كانت الشابة الزهوانية تكابد النوم مسدلةً عنقها على جزء مرتفع من أريكةٍ طويلةٍ تحتل نصف المكان. يضع حمراوي يده على كتفها قائلًا: «حلوم ما زالنا».[1] فجأة يأتي صوت الجماهير هادرًا. نهضت الجموع من نومها كالزلزال، وعندما أطلت الزهوانية من نافذة المقصف المؤدية إلى الملعب بنصف عين، بدا لها الشاب حسني يقفز فوق المنصة، مشمرًا عن طرفي سترته الزرقاء، صادحًا: «مازال سوفنير عندي». ثم انهمر كالسيل حتى الثامنة صباحًا. أشرقت الشمس وطوت البلاد صفحةً أخرى من حظر التجوال.

كان ذلك الفرح الأسطوري أول طلقة في قلب حسني.

منذ ذلك التاريخ، أصبح الرجل الذي أوقد الفرح في كومة الظلام هدفًا لصناع الظلام. في نهايات أيلول 1994 اشتدت الحرب، كان الليل قد حلّ على وهران، والهواء لا يزال يحمل آخر أصداء الصيف. في «حي قمبيطا» الذي لا ينام، استقر «ولد الرومية» أحد قادة «الجماعة الإسلامية المسلحة»، في زقاقٍ مع مساعديه ينتظرون الهدف. ربما كانت الساعة تقترب من منتصف الليل أو أبكر قليلًا. برز الرجال الثلاثة إلى ناصية الشارع وفتحوا أبواب الدم. طلقة نارية مزقت الصمت. مات حَسني برصاصتين أصابت الأولى حلقه بينما استقرت الثانية في رأسه، عندما كان يهمُّ بمغادرة المقهى. بعد ثلاثة عقود من ذلك التاريخ سئلت الشابة الزهوانية عن حسني فقالت: «ما يرحوش من البال…بدا بكري وكمّل بكري».

لم تكن موسيقاه مجرد أغانٍ للتسلية وإنما صوت جيلٍ بأكمله. جيل وجد في أغانيه صدى لمعاناته ورغباته وأحلامه المجهضة. أغانيه أسرار تهمس في الظلام تتقاسمها قلوب تنبض على الإيقاع نفسه. مثل نسمة من أعماق جيل يبحث عن الحب والثورة. لم يكن موته كأي موتٍ يعني النهاية، كان ولادةً لأسطورةٍ لم تخفت حتى اليوم. لقد ظل حيًا في أجهزة الراديو التي تبث أغانيه عند الغسق، وفي ذكريات العشاق الذين أعلنوا عن أنفسهم تحت نغماته، وفي كل دمعة تُذرَف على صوت كلماته. وسيظل صدىً خالدًا يطارد شوارع وهران ما دامت الرياح تهب على شواطئها. تركت مسيرته القصيرة بصمة لا تمحى في قلوب من أحبوه ومن اكتشفوه بعد فترة طويلة من رحيله المفجع. وفي كل نغمة، وفي كل لحن، هناك هذا الوعد بالحب الأبدي. ذلك الوعد الذي غناه حتى أنفاسه الأخيرة. كالشهاب، لمعَ في طرفة عين ثم حلّق في الأبدية تاركًا ضوءًا لا يمحى في البصائر والقلوب.

وهران؛ حارسة الكلمات والشمس

شرط المكان هو من صنع أسطورته. في شوارع وهران، حيث يلامس البحر الجدران المطلية باللون الأبيض، وحيث تمتزج روائح المدينة بالضحك والهمهمات، ولد هذا الصوت. تحديدًا في «حي قمبيطا» في مواجهة البحر. هنا بدا كل شيء أكثر حيوية من قلب المدينة. الألوان الزاهية للبيوت بواجهاتها التي صبغتها الشمس وشرفاتها المصنوعة من الحديد المطروق، وضحكات الأطفال الذين يلعبون كرة القدم في الشوارع الضيقة، ورائحة البهارات والخبز الطازج التي تفوح في الهواء. الرجال الذين يتجاذبون أطراف الحديث هربًا من حرارة الظهيرة تحت الأروقة المظللة. والنساء اللاتي يتزاحمن سافراتٍ أو بأحجبتهن الملونة في الأسواق يتبادلن الابتسامات والنميمة. مكان لأبناء الشعب، فيه يعيش الناس متلاصقين. ونادرًا ما كانت أبواب المنازل مغلقة. يتشارك أهله كل شيء؛ الطعام والأحزان وخاصة الموسيقى.

في تلك السنوات البعيدة أواخر الستينيات، كانت الموسيقى الشعبية في حي قمبيطا تتدفق من النوافذ المفتوحة ومن المحلات التجارية الصغيرة حيث تطقطق أجهزة الراديو القديمة وتبث أصواتًا للبهجة هربًا من حقائق الحياة اليومية القاسية. في هذه البؤرة المككلة بضيق الحال واتساع القلوب ولد «حسني شقرون» في عام 1968. في بلد ممزق بين التقاليد والحداثة، نشأ في السبعينيات وهو يستمتع بأصوات الراي، موسيقى المهمشين التي ولدت في ملاهي وشوارع وهران المتربة. كان الراي صوت المنسيين والمستبعدين من الشباب الذين لم يعودوا يدركون ذواتهم في القيم الثابتة لعالم متغير. أمضى سبعينيات القرن العشرين طفلًا لاهيًا في أزقة «قمبيطا»، يلعب كرة القدم ويغني بين الأشواط. لكن حادثًا وقع له غير مجرى حياته. فقد أصيب خلال اللعب واضطر للمكوث في المستشفى طويلًا. كان يبدد الملل على سرير المرض بسماع أغاني فريد الأطرش وأم كلثوم والتراث الشعبي الجزائري، منجذبًا على نحو كلي لهوايته الأثيرة، الغناء، ومبتعدًا في الوقت نفسه عن الكرة.

في الثمانينيات دخلت الجزائر المستقلة أزمتها الوجودية حين وصلت وعود الثورة إلى طريقها المسدود وحين بزغت المحافَظة كثورةٍ مضادةٍ. كانت وهران، شأنها شأن البلاد، مضطربةً ممزقةً بين من يريد الذهاب أمامًا نحو جزائر كما تخيلها ثوار التحرير، وبين من يريد العودة إلى جزائر الطوائف والملل. لم تكن تلك الأجواء التقسيمية التي ستظهر بوضوح في مطالع التسعينيات بعيدةً عن سياق عالمي تتقاطع فيه مصالح أرباب «الجهاد المقدس» مع نوايا «النيولبرالية المسلحة»، برعاية رونالد ريغان.

في هذا الجو الممزق كان حي قمبيطا ممزقًا هو الأخر بين الماضي والمستقبل، بين التقاليد والحداثة. تنبض فيه الحياة بقوة، وتتشابك فيه الأحلام وخيبات الأمل في رقصة يومية. مكان يعجّ بالتناقضات، غالبًا ما كان الفقر واضحًا في التفاصيل. في الواجهات المتهالكة والشوارع سيئة الصيانة والمظهر المتعب للناس، وكانت عائلة حسني من بين هؤلاء المتعبين بالفقر وضيق الحال. لكن رغم كل شيء كانت كرة القدم والموسيقى والحب ملاذتٍ للشباب.

شكل الراي متنفسًا لهذا الجيل الباحث عن المعنى وأصبح تعويذةً لكل شابٍ يكافح من أجل مصيره. في «قمبيطا» بدا كل شيء ممكنًا ومستحيلًا في الوقت نفسه. لم تكن أغاني الراي فقط تعبيرًا عن الواقع، بل مكانًا مناسبًا لنسج الأحلام عن خيالات الحب المفقود وخيالات الرحيل إلى أوروبا عبر البحر.

كان حسني واحدًا من هؤلاء، شرع باكرًا يغني في الأعراس حيث لفت له الأنظار وفي المقاهي المليئة بالدخان حيث يحلم الشباب بمكان آخر. شكل صوته في بداية الثمانينيات جزءًا من أمسيات الصيف النابضة بالحياة في قمبيطا. في ذلك الوقت بدأنا نشهد الانفجار العظيم لموسيقى الراي عبر ميلاد المئات من الذي يحملون لقب «شاب»، ومن خلال تبادل أشرطة الكاسيت في الأسواق والشوارع، حيث بدت هذه الأصوات الجديدة وكأنها تتحدى أي شيء. في هذه الأجواء ظهرت رموز الراي؛ الشاب خالد، الملك بصوته القوي وإيقاعاته الجذابة وكلماته التي تنشد الحب والمنفى، والشاب مامي الذي سحر القلوب بأغانيه الحزينة، والشابة فضيلة والشابة الزهوانية اللواتي كسرن احتكار الرجال للموسيقى. لقد تجرأ هؤلاء على كل شيء. غنوا عن عن الحب المطلق والحياة الليلية والملذات غير المشروعة. وعبّروا من خلال كلماتهم عن رغبات وإحباطات جيل عالق بين عالمين. في جزائر كانت تخلف وعود الحرية والتقدم يومًا فآخر، وفي بلد فقدت فيه الثورة وهجها وأصبحت معقلًا للتزمّت والمحافظة. وفي وهران «الباهية» مفترق طرق الرياح والثقافات امتزج الشعر البدوي العربي بالمعجم الأمازيغي، إيقاعات «الدربوكة» المحمومة بألحان الناي الشرقية مع أصوات الأورغ والقيثارات الكهربائية والدفوف، لتقدم للعالم الراي في ثوبه الحديث، الصاخب والحزين والمتفلّت من كل عقالٍ ورقيب.

كَأَنَّ الريحَ تَحته

في منتصف ذلك العقد أطلق حسني، الذي صار يحمل لقب «شاب»، أول أغانيه «البراكة» وكانت دويتو مع الشابة الزهوانية عام 1987. حققت الأغنية نجاحًا كبيرًا في صفوف الشباب، لكنها عززت سمعة حسني والزهوانية السيئة في صفوف المحافظين لأنها تستفز المعايير الاجتماعية حول الحب. وقد انتشرت على شرائط كاسيت مقرصنة في جميع أنحاء البلاد وفي معاقل الجاليات المغاربية في أوروبا على نطاق واسعٍ. وبينما كانت السلطة تتجه نحو المحافظة وتروج للموسيقى الأندلسية والتقليدية، كانت موجة الراي الصاعدة تتجه بالضد نحو مزيدٍ من التحرر الذاتي. كان موقع حسني ورفاقه في الصراع أساسيًا وحاسمًا.

انفتح باب المجد. الشاب ذو الثمانية عشر عامًا يتحول إلى ظاهرةٍ في وهران المليئة بالفنانين. لقد فرض لهجة وحساسية جديدة. مزج أسلوبه الفريد بين حداثة الآلات والإيقاعات مع عذوبة كلماته. وقف على مفترق الطرق بين القديم والجديد، بين التقليد والحداثة، مجسدًا هذا الجيل الذي يتأرجح بين عالمين. كرّت سبحة الأغاني حتى وصلت مطلع التسعينيات إلى نحو المائة، كما بيع له أكثر من 400 ألف شريط كاسيت بحلول عام 1991. وبدأ صوته يخرج من أسوار وهران إلى العالم. وبدأت أغانيه، مثل «مازال سوفنير عندي» و«طال غيابك يا غزالي» و«البيضة مون أمور» و«سيدي القاضي»، تثير إعجاب الجماهير في كل ركن من أركان بلاد المغرب وتتردد كأصداء جيل يعرف نفسه في قصص الحب الممنوع.

سرعان ما احتل صوته الدافئ مكانه كملك لموسيقى الراي العاطفية، على النقيض من الإيقاعات الصاخبة التي كانت تهيمن على الراي بشكل عامٍ. في أغانيه لم يكن الحب فكرة مجردة، بل كيانًا حيًا يتنفس، أحيانًا يبدو حنونًا، وأحيانًا أخرى مكسورًا، ولكنه حقيقي دائمًا. لقد غنى عن الحزن ليس باعتباره مأساة بعيدة، بل كتجربة إنسانية مشتركة. وفي كلماته كانت فرحة الحب ومعاناته تتشابك مع واقعٍ عميق لبلدٍ على أعتاب تحولٍ مأساوي سيكون هو نفسه أول ضحاياه. لكنه وعلى عكس الشاب خالد والشاب مامي اللذين هاجرا إلى فرنسا بحثًا عن النجاح والابتعاد عن التوترات الاجتماعية المتزايدة في الجزائر، قرر حسني البقاء في البلاد رغم الأقدار الثقيلة التي كانت في انتظاره.

ما يلبث الشاب حسني يغادر وهران حتى يعود إليها. كانت بشوارعها الواسعة وشرفاتها المطلة على البحر ولياليها النابضة بالحياة، البئر الأولى والأخيرة بالنسبة له. لكن وهران ليست معلقةً في السماء، هي قطعة من الجزائر الكبيرة والمريضة مطالع التسعينيات. ولأن وراء كل فاشية زاحفةٍ ثورة مهدورة، كانت التسعينيات عشرية الموت والخراب. صارت الحفلات الموسيقية نادرة لأنها الهدف المفضل للميليشيات، والخوف والرقابة يتزايدان، ومع ذلك استمرت الموسيقى في الانتشار من خلال الأشرطة المقرصنة والأغاني الصادحة في سيارات الأجرة وأجهزة الراديو حتى عندما بدا أن كل شيء ينحدر إلى الفوضى. ولكن حسني كان في تلك السياقات مختلفًا. حين كان الخوف قادرًا على إسكاته فضّل أن يغني بصوت أعلى. في الوقت الذي بدأت الجماعة الإسلامية المسلحة في وضع القوائم السوداء للمثقفين والكُتاب والفنانين الذين أهدرت دمهم لا سيما بعد حفل الخامس من تموز عام 1993 الأسطوري، والذي كان آخر حفل للشاب حسني في الجزائر، أدركته طلقاتُ الغدرِ في ذلك المساء الخريفي، كالبرق يضيء ثمَّ يندثر.

ظل دائمًا نسيجًا منفردًا في غابةٍ من موسيقى الراي. وفاقت شهرته بعد رحيله ما حصّله من مجد في حياته. عرفتُه وجيلي وهو أسطورة غائبة. وهكذا ربما أحبته الشبيبة في بلاد المغرب والمهاجر، غائبًا يطل على العالم بصوته فقط. غنى بصدقٍ قصص عاشقين فرّقتهم التقاليد وعودًا بالخلود تحت قمر وهران، وقلوبًا انكسرت لأنها لم تُفهم. موسيقاه ما زالت في كل زاوية؛ من الأسواق الصاخبة إلى الزوايا الهادئة حيث يهمس العشاق بالوعود، ويكسرون الصمت بنغمات تتحدث إلى الروح. أما مروره الخاطف بالحياة، فقد كان وما زال ومضة شغف وتحدٍ، منسوجة عبر شوارع وهران، مثل الخيوط الذهبية لغروب الشمس الخافت في «حي قمبيطا»، المستلقي على البحر.

  • الهوامش

    [1] الاسم الحقيقي للابة الزهوانية هو حليمة، وعبارة حلوم ما زالنا تعني مازال الحفل لم ينته.

Leave a Reply

Your email address will not be published.