ربما أكثر ما صدم زوار الصالون السنوي لأكاديمية الفنون الجميلة في باريس عام 1850 كان حجم اللوحة؛ ستة أمتار بثلاثة. «لم يكن هناك أي داع لأخذ كل هذه المساحة لمعالجة هذا الحدث الصغير»، كتب ثيوفيل جوتييه،[1] أحد أهم أدباء فرنسا آنذاك. فموضوع اللوحة هو «دفن في أورنان» كما يشير عنوانها، وأورنان هي ضيعة في أقاصي الشرق الفرنسي، لم يكن لها قيمة تذكر. كذلك أهلها الذين كانوا في أغلبهم فلاحين أو صغار حرفيين من أبناء الطبقات الدنيا، والذين يظهرون في اللوحة مكدسين فوق بعضهم البعض، تتوسطهم حفرة مهيئة لاستقبال رفاة أحد موتاهم. الحدث صغير بالفعل كما قال جوتييه، من النوع الذي يحدث كل يوم في كل مكان. لكن اللوحة هذه التي رسمها جوستاف كوربيه، ابن أورنان الشاب، كانت من النوع الذي يحدث مرة واحدة في التاريخ، والذي سيذكره مؤرخو الفن الغربي كجرس قُرع للتبشير ببداية جديدة.
ليس من السهل علينا فهم تلك الصدمة اليوم، نحن أبناء شاشات السينما واللافتات الطرقية، ممن اعتدنا على رؤية أي شيء وكل شيء بأحجام كبيرة. لكن بالنسبة لأوروبا أواسط القرن التاسع عشر، قضت الأعراف بأن تتناسب أبعاد اللوحة طردًا مع أهمية وسمو الحدث الذي تعبر عنه، فظلت اللوحات الكبيرة مخصصة للمواضيع التاريخية والدينية والأسطورية. أما مشاهد الطبيعة والحياة اليومية والبورتريهات، فجرت العادة أن تمثل على لوحات متوسطة أو صغيرة الحجم. كانت تلك أول قاعدة يكسرها كوربيه بتمثيله مشهدًا يوميًا بمقاس محجوز للأحداث الاستثنائية. الرسالة كانت مقصودة وواضحة: أن حياة عامة الشعب وأحزانهم لا تقل أهمية عن تتويج نابليون أو حرب طروادة.
لم يكن كوربيه أول من رسم الطبقات المسحوقة، ومع ذلك، بدا وكأن شيئًا ما قد طرأ على طريقة تمثيل تلك الطبقات، جاعلًا من «دفن في أورنان» أكثر قسوة من العادة. يتضح التجديد هذا إذا ما قورنت لوحتنا بلوحة مثل «المتسول الصغير» للإسباني بارثولومي موريلّو، من أواسط القرن السابع عشر. يجلس الولد المتشرد كنجم سينمائي مرسلًا بنظراته البريئة نحو الأرض، في حركة استسلام وحزن، إلا أن الشمس تخترق ظلمته مثل أمل سماوي يعد بمستقبل أفضل، ويضعه تحت الأضواء كي نتفرج عليه. تحرك اللوحة مشاعر الشفقة، وتطمئننا في ذات الوقت بأن البشر طيبون، وحتى الفقراء منهم لديهم الإيمان والشمس والجلد الناعم.
لم يكن كوربيه أول من رسم الطبقات المسحوقة، ومع ذلك، بدا وكأن شيئًا ما قد طرأ على طريقة تمثيل تلك الطبقات، جاعلًا من «دفن في أورنان» أكثر قسوة من العادة.
ساد ذلك الإرث التصويري منذ انتشار البرجوازية أيام النهضة، وحتى أفلام عرفناها من قبيل كفرناحوم، حيث الفقراء جميلون وأصحاء، تُسلط الأضواء على بيوتهم وأجسادهم وعواطفهم. وكما يشير جون بيرجر،[2] شكلت البرجوازية الصغيرة وحديثة النعمة المستهلك الأول لهذا النوع من الفن، حيث قامت من خلاله بالتطبيع مع البؤس، وزينت به بيوتها كتأكيد على إحسانها إلى الفقراء وعلى أن صعودها السلم الاجتماعي متاحٌ لكل من يستحقه، أن الفقراء لا بد وأن يستحقوا ما ينالون من سعادة وتعاسة، كما في نهاية الفيلم.
تتحدى «دفن في أورنان» النظرة المتعالية والميريتوقراطية تلك، فالشخصيات بشعة، وجوهها ناشفة لا تستعطفنا، لا شمس ولا نظرات حالمة تعد بالخلاص، يمتزج الجميع بألوان طينية قاتمة تثير النفور، وتصعب علينا أنسنتهم أو تمييزهم كأفراد ذوي شخصيات ومشاعر تتجاوز أدوارهم الاجتماعية: الخوري، حفار القبور، رئيس البلدية، نساء القرية: الشعب.
حتى جوتييه الذي تعاطف مع ميول كوربيه الأناركية ورغبته بكسر القوالب الأكاديمية لم يستطع التعاطف مع عدمية اللوحة وتشاؤمها، فكتب في نقده: «البشاعة لا تخيفنا. لقد عشنا بصحبة أساتذة الرسم الأكثر مرارة وواقعية، ظلمات كارافاجيو لم تمنعنا من ولوج لوحاته بحماس. لقد اقتحمنا طريقنا مع متسولي موريللو بقرحاتهم الجلدية وقملهم (..) ارسموا فلاحين ولصوص ومسحوقين ومتسولين مشلولين إن شئتم، لكن أعطوا كل ذلك نبرةً، فخرًا، مفعولًا ما».
مفهوم الفخر أساسي، وانعدامه هو أكثر ما جرح جوتييه وغيره من المثقفين ورثة الأنوار وميثاق حقوق الإنسان. فحتى عندما تركت الحكومة الفرنسية رعاياها في عرض البحر يموتون على قارب الميدوزا عام 1816، وعندما وصلت الفضيحة إلى قلب الصالون السنوي في لوحة شهيرة رسمها الفنان ثيودور جيريكو، ظلت الشخصيات مفعمة بالكرامة، تأخذ شكل هرم يصعد نحو السماء، يرفرف على رأسه علمٌ يذكر بعلم بلدهم التي تخلت عنهم، حتى المحتضرون في مؤخرة القارب يأخذون وضعيات مسرحية مؤثرة بأجساد ممشوقة.
تتحدى «دفن في أورنان» النظرة المتعالية والميريتوقراطية تلك، فالشخصيات بشعة، وجوهها ناشفة لا تستعطفنا، لا شمس ولا نظرات حالمة تعد بالخلاص.
أما لوحة «دفن في أورنان» فقد كانت ابنة جيل جديد من الإحباط. جاءت بعد عامين على ثورة عام 1848 التي كانت الطبقات البروليتارية وقودها الأساسي، والتي نجحت بإسقاط الملكية للمرة الثالثة في فرنسا قبل أن تركب البرجوازية الموجة بزعامة لويس بونابارت، في البداية رئيسًا ومن ثم إمبراطورًا لعشرين عامًا قادمًا. من غير المستغرب إذًا أن يكون النقاد قد رأوا في لوحة كوربيه عودة تهديدية للحشود المسحوقة التي أقصتها البرجوازية عن الحياة السياسية،[3] حتى قيل إن الميت في اللوحة هو الثورة التي يدفنها أبناؤها.
بعكس قارب جيريكو الغارق، تقول لوحة كوربيه بأن الإنسان ليس أغلى ما نملك وما إلى ذلك من شعارات، بل هو ضحية مسلوبة الإرادة والروح، القهر على وجهه ليس غمامة عابرة، بل لعنة ولد وسيموت معها. تذكرنا الهيئة الشاحبة والممحية لأهل أورنان أنه عندما يصير الفرق بين الحياة وعدمها بهذا الصغر، يصبح الموت حدثًا غير ذا قيمة. وبالفعل، تقيل لوحة كوربيه الفن من أحد أقدم وظائفه وأكثرها تأصلًا، ألا وهو دوره الرثائي في مجابهة الموت.
لا مشاعر أسى رومانسية في «دفن في أورنان» كما في «أتالا في القبر»، ولا وعدًا دينيًا بحياة آخرة كما في «دفن كونت أورجاز» الذي نراه يصعد إلى السماء. الميت هنا مجهول الهوية، نعشه بالكاد ظاهر بين الحشود التي لا تبدو مهتمة له أكثر من اللازم، فمعظم المعزين شاردون، الولد يبدو ضجرانًا، يتطلع إلى انتهاء الدفن، وحتى الكلب ينظر إلى شيء ما لفت انتباهه خارج الإطار. مجددًا، لا يحاول كوربيه استجراح دراما إنسانية من وراء الحدث، بل يقدمه لما هو عليه، روتين عابر لم يعد له معنى.
ردًا على فنان صرّح أن على عذابات الناس أن تكون مبهرة بصريًا كي تستحق الرسم، كتب المفكر فالتر بينيامين عام 1936 أن العكس هو الصحيح، أن الأثر الاجتماعي لعذابات الناس هو ما يجب أن يدفع الفنان إلى إيجاد إلهام بصري يرقى إلى مستواها.[4] هنا تكمن خصوصية «دفن في أورنان». فكوربيه لم يكن الفنان الأول ولا الأخير الذي يلتفت لمعاناة شعبه، لكنه من أوائل من فهموا أن الصراعات الطبقية لعصره غير مسبوقة، وأن التعبير عنها لا يمكن له أن يتم بالأدوات القديمة، أدوات الطبقات المسؤولة عن هذا الصراع. لذلك تغيب التجميلات عن اللوحة، لا عناصر معمارية ولا أشجار، لا ألوان ولا منظور. وبخلاف التكوينات الكلاسيكية التي قامت دائمًا على مركز تحتله الشخصية الرئيسية، لا يختلف مركز لوحة كوربيه عن أطرافها، فلا شخصية رئيسية، ذات الوجوه، ذات القتامة. اللوحة «لامركزية»، كما تصفها المؤرخة ليندا نوكلين،[5] تعكس آراء الفنان عن المساواة بمفردات فنية بحتة. باختصار، يغير كوربيه من قواعد تكوين الفن كي تناسب رؤياه السياسية، بدل أن يدّس تلك الرؤيا تحت قشور التقاليد كما فعل الكثيرون.
لكن حداثة كوربيه وصلت أبعد وأبعد. فلنعد مرة أخيرة إلى جوتييه، الذي يتساءل عن الوجهة الممكنة لعمل فني كهذا «والذي لن يجد لنفسه مكانًا لا في كنيسة ولا في قصر ولا في منشأة عمومية ولا في منزل خاص». تساؤله الثاقب هذا يضع يده على الجرح. فتشاؤم اللوحة الديني والسياسي وحجمها الضخم يجعلانها غير مناسبة للعرض في أي مؤسسة دينية أو حكومية أو منزل خاص، وكأن كوربيه هو الفنان الأول في التاريخ الذي يرسم عملًا بهذه الضخامة دون وجهة محددة في باله.
لو كان جوتييه قد عاش حتى القرن العشرين لكان وجد الجواب على سؤاله: المكان الوحيد المناسب لعمل كهذا هو متحف فن معاصر أو صالة عرض، مؤسسات كانت لا تزال طور الولادة عام 1850. فأعمال كوربيه لم تدشن فقط تعريفًا جديدًا للفن، بل كانت النبؤة والسبب معًا لانبثاق تنظيم اجتماعي جديد فيما يتعلق بالفن وكوادره المؤسساتية، انبثاق الفن الحديث كما نعرفه اليوم.
عُرف كوربيه بميوله اليسارية وصداقته مع بيير جوزيف برودون، أحد أعمدة الفكر الأناركي. وبعد عقدين على فضيحة «دفن في أورنان»، عندما سقط بونابارت وقامت كومونة باريس عام 1971 (والتي نحتفل هذا الشهر بذكراها الـ150)، التُقطت هذه الصورة من وسط الانتفاضة.
خلف الصرح المدمر لأباطرة آل بونابارت يظهر الشخص الذي حرض على إسقاطه، جوستاف كوربيه ذاته، وكأنه يطبق على الواقع ما قام به في «دفن في أورنان» عندما جرد الفن من تراكمات الفكر البرجوازي من وعظ ووطنيات ورثاء. تحت كل تلك الطبقات يبقى الواقع الفظ لمن يعيشون على هامش العالم الصناعي، يسجله كوربيه بوضعية مراقب أنثروبولوجي بلا تلميع ولا وضع بموضع الضحية، بل بحرفية مغالية صعقت المشاهدين وتركتهم كي يستخلصوا الدروس وحدهم.
-
الهوامش
[1] GAUTIER, Théophile, Critique d’art : Extraits des Salons, 1833-1872, Séguier, 1994.
[2] BERGER, John, Ways of Seeing, Penguin Classics, 2008.
[3] NOCHLIN, Linda, Realism, Pelican Books, 1971.
[4] BENJAMIN, Walter, « Deuxième lettre de Paris » (1936), Sur l’art et la photographie, Edition Carrée, 1997.
[5] NOCHLIN, Linda, Realism, Pelican Books, 1971.