القاص نجيب محفوظ على شاشة السينما

الأحد 05 كانون الثاني 2025
تصميم محمد شحادة.

في المدرسة قالوا لنا إن نجيب محفوظ هو روائي مصر الأول وإن يوسف إدريس هو رائد القصة القصيرة، وإن لكل منهما محاولات في مجال الآخر لكن دون أن يحرزا التميز نفسه. هكذا قالوا وهكذا تعلمنا ورددنا، فتصورت مثل كثيرين أن محفوظ لم يكتب القصة إلا قليلًا وبشكل عابر، ربما كاستراحة بين الروايات أو ما شابه، هكذا تصورت بسذاجة الطفل، غير أنني فوجئت فيما بعد بغزارة قصص محفوظ، حيث نشر حوالي 18 مجموعة قصصية خلال حياته، بخلاف «المرايا» و«أصداء السيرة الذاتية» و«حكايات حارتنا»، والتي أعتبرها شكلًا من أشكال القصص أو متتاليات قصصية، هذا بالإضافة إلى ما نُشر من مجموعات أخرى عقب وفاته، كما أن أول ما صدر من مؤلفاته كانت مجموعة قصصية بعنوان «همس الجنون».

تنوعت قصص تلك المجموعات في طبيعتها وطولها وشكلها وهمومها، وكذلك تفاوتت في جودتها، غير أن ثمة مسيرة قصصية لمحفوظ موازية ومتشابكة مع مسيرته الروائية، وهي بدورها تستحق الدراسة والتتبع والتحليل، دون الاستسلام لتلك التصورات المسبقة التي زرعت في رؤوسنا. نجد بين هذه الأعمال قصصًا قصيرة طويلة، ربما أذهب إلى تصنيف بعضها كروايات قصيرة «نوفيلات»، ليس بسبب طولها الذي يصل إلى عشرات الصفحات أو تعدد فصولها أو مشاهدها التى تتعدى العشرين أحيانًا، ولكن لتعدد شخصياتها وطول زمن أحداثها، حيث يمتد الزمن القصصي لأشهر أو سنين، مما يجعل هذه الأعمال أقرب في نظري إلى الروايات منها إلى القصص رغم التصنيف الأدبي الذي يظهر على غلافها. كما تضم المجموعات قصصًا قصيرة بالبناء والطول والمفردات المعتادة لعالم القصص، وكذلك توجد قصص قصيرة جدًا كالتي قدمها في كتاب «أحلام فترة النقاهة». لم يقتصر التنوع على الطول فقط، بل امتد إلى الشكل والرؤية، فنجد قصصًا مغرقة في الواقعية والهم الاجتماعي وأخرى رمزية، بالإضافة إلى قصص الأحلام.

ورغم قلة الاحتفاء بقصص محفوظ بالمقارنة برواياته إلا أن السينما لم تهملها، والتقطت أعين صانعيها ما رأوا فيه مادة تصلح للصياغة السينمائية، سواء عبر اقتباس القصص الطويلة المؤهلة للنقل إلى الشاشات مباشرة أو عبر تشييد بناء يخلقه السيناريست مرتكزًا على إحدى القصص القصيرة. قدمت السينما المصرية ما يزيد عن خمسة عشر فيلمًا طويلًا مأخوذًا عن قصص لنجيب محفوظ، ظهر أولها كفصل في فيلم مجمع وهو «3 قصص» (1968)، وضم ثلاثة أفلام أو فصول، أولها عن قصة «دنيا الله» لنجيب محفوظ، والآخرين عن قصتين ليوسف إدريس ويحيى حقي. ومنذ هذا الحين توالت الأفلام المرتكزة على قصص محفوظ بمستويات شديدة التفاوت وصولًا إلى فيلم «لمح البصر» في عام 2012 والمأخوذ عن قصة «اللقاء» في مجموعة «الشيطان يعظ».

من بين تلك الأفلام المتعددة ستة أفلام من مجموعتين قصصيتين متتاليتين، صدرتا في عام واحد، عام 1979، وهما «الحب فوق هضبة الهرم» و«الشيطان يعظ»، بواقع ثلاثة أفلام مأخوذة عن كل واحدة منهما. ليست هذه مصادفة، ففي هاتين المجموعتين ما يجذب السينما من قصص طويلة ذات مشهدية واضحة. ولكن ربما المفارقة هنا أن من ضمن هذه الأفلام الستة، ثلاثة من أفضل الأفلام المأخوذة عن قصص محفوظ، بل من أفضل الأفلام المبنية على كتاباته بشكل عام.

أهل القمّة

بعد إنجازه فيلم الكرنك عن رواية لنجيب محفوظ، وهو الفيلم الذي أثار ضجّة كبيرة، حتى إنه صار عنوانًا لموجة أفلام انتشرت في السبعينيات وسميت بأفلام الكرنكة، عاد علي بدرخان رفقة مصطفى محرم إلى نجيب محفوظ، وهذه المرّة إلى قصة «أهل القمة» من مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم» لما بها من نقد واضح لسياسات الانفتاح وإشارات للتغير الاجتماعي الذي نتج عنه، وهو ما يناسب أفكار بدرخان ورؤاه. وبهذا أصبح فيلم «أهل القمة» من أوائل الأفلام التي تعرّضت للتحولات الاجتماعية الكارثية التي أعقبت الانفتاح، والتي ستمثل موضوعًا أساسيًا ومتكررًا في سينما الثمانينيات.

تُمثّل قصة محفوظ العلاقة بين الضابط محمد فوزي والنشال زعتر النوري، بداية من مطاردة الأول للص ووضعه خلف قضبان السجن وصولًا إلى اللحظة التي تنقلب فيها الآية، ويتحول الضابط إلى مواطن فقير بسبب تمسكه بالشرف والأخلاق، بينما يترقى زعتر من نشال إلى مهرب إلى تاجر كبير، أو رجل أعمال بلغة أيامنا، وكأن هذا هو سلم التطور الطبيعي لهذه الشخصيات في زمن الانفتاح. هؤلاء هم سادة الزمن الجديد، الذي يتواطأ النظام كله لصعودهم، يدعمهم الكبار ويحميهم رجال الشرطة بدل مطاردتهم. تقول إحدى زميلات زعتر في النشل ثم التهريب أن الوجيه الذي يعملون لحسابه ما هو إلا لص عظيم، فيقاطعها زعتر ويقول «اقطعي لسانك، فهو بحكم القانون الجديد تاجر عظيم»، وهكذا يعمل زعتر ورفاقه تحت مظلة هذا القانون ليتحولوا من لصوص صغار إلى لصوص أكبر أو تجار عظماء.

نقل محرم وبدرخان القصة إلى شاشة السينما بقدر كبير من الإخلاص، فالتزما بتتبع مسيرة زعتر «نور الشريف»، ورفْضَ الضابط محمد فوزي «عزت العلايلي» للعالم الجديد، وتشتت سهام «سعاد حسني»، بنت أخت الضابط، التي باتت مطمعًا للتاجريْن أو اللصين، الأستاذ والتلميذ، بينما يريد خالها أن يفرض عليها سيطرته طبقًا لرؤيته لمصلحتها. تظهر سهام في الفيلم كفتاة أكبر سنًا وأقل تمردًا من صورتها في القصة، بدت مهادنة تكتم ضيقها في هدوء، لم تلجأ إلى التمرد إلا بعدما أحكم خالها الخناق عليها، ففرت وثارت وانفجر صدرها بما كبتته على مر الأيام. أدت سعاد حسني الدور بشكل مغاير لصورتها المعتادة، ليست زوزو ولا أميرة حبي أنا، ليست مغوية أو شديدة الفتنة، فرغم جمالها اللافت إلا أن بساطة حالتها تطغى عليه، فتوارى الإغواء وبدت فتاة عادية من هذه الطبقة وهذا الجيل، وهو الاتجاه الذي سيظهر في عدد من أعمال سعاد في الثمانينيات، مثل «موعد على العشاء» أو «غريب في بيتي» أو «الحب في الزنزانة».

يقوم الفيلم بإضافة بعض التفاصيل المثيرة والمعبرة لرحلات التهريب وعمليات الخداع والنصب التي يقوم بها «النوري»، وهو ما بدا كتفصيل لما ذكره محفوظ في جملة أو اثنتين.

كما اختار بدرخان أن يغيّر في النهاية التي كتبها محفوظ وبدت له محبطة ومغرقة في السوداوية. تنتهي قصة محفوظ بمشهد يوحي بتسليم الضابط بالواقع الجديد؛ يقف أمام زعتر مهزومًا يصافحه ويشكره على شهامته وعدم استغلاله لموقف سهام المتمرد لصالحه، وكأن الضابط قد قرر أن يُطأطأ رأسه أمام العاصفة وأن يسير في الركب خاضعًا لقوانين العصر الجديد، بينما يقدم الفيلم المشهد بشكل مختلف، حيث يطلب زعتر من الضابط أن يرضى عنه فيجيبه بأن رضاه من عدمه لا يغير من الأمر شيئًا، ثم يضيف جملة تحمل في طياتها شيئًا من التسليم بالوضع الراهن ومحاولة التصالح معه، حيث يقول إنه في آخر الأمر ربما يكون زعتر أفضل من غيره، لكن الضابط -وعلى عكس القصة- ينسحب فورًا من المشهد، تاركًا زعتر مع سهام خلفه، بينما تودّعه سهام بنظرة مترددة وحزينة، يخرج الضابط من سوق ليبيا هائمًا متجهمًا غير فاهم لما يجري حوله أو غير قابل له. يتسع الكادر لنراه في مشهد علوي وهو يخرج من السوق المزدحم، يشق طريقه بين البشر المتراصين أمام المحال، يبدو وكأنه يسير ضد التيار، فالضابط في الفيلم لم يقبل أن يكون جزءًا من هذا المجتمع الجديد رغم تسليمه بهيمنته وانتصاره، على عكس موقفه في نهاية القصة المكتوبة.

أجاد بدرخان تصوير أجواء سوق ليبيا، ذلك السوق الذي وجد في السبعينيات لبيع البضائع المهربة، حيث التزم بتكوين السوق الواقعي، فبدا بما فيه من زحام وبضائع متنافرة متراصة وضجيج وصخب وعدم تناسق في الألوان، بدا أقرب تصوير إلى شكل المجتمع الجديد الآخذ في التكوين، فظهرت مشاهد سوق ليبيا شديدة الواقعية وشديدة الرمزية في آن واحد.

هكذا صنع بدرخان واحدًا من أفضل أفلامه، حتى إن بعض النقاد مثل سامي السلاموني رأوا أنه استطاع أن يتفوق على النص الأدبي لنجيب محفوظ في ظاهرة نادرة الحدوث.

الحب فوق هضبة الهرم

بعد حوالي ستة أعوام تعود السينما إلى المجموعة القصصية نفسها، الحب فوق هضبة الهرم، وتحوّل القصة الطويلة التي تحمل المجموعة اسمها إلى فيلم سينمائي عن سيناريو لمصطفى محرم أيضًا، ومن إخراج عاطف الطيب. تمثل هذه القصة أو الرواية القصيرة عودة نجيب محفوظ إلى الواقعية الاجتماعية التي قدمها في رواياته في الأربعينيات، تشم فيها رائحة «بداية ونهاية» رغم اختلاف الزمن والأحداث، كما تتشارك مع «أهل القمة» في الهم الاجتماعي واستعراض التغيرات الحادثة في مصر السبعينيات، ولكن من زاوية أخرى، زاوية الشاب علي عبد الستار.

تعرض القصة نظرة إلى المشاكل المتكررة والعامة التي يمر بها شاب من طبقة باتت تحت المتوسطة، حيث تغيرت تركيبة المجتمع وغدرت بأصحاب الوظائف الحكومية وحاملي بعض الشهادات الجامعية غير المطلوبة، ولذا لم يكن غريبًا أن ينتبه إلى تلك القصة أحد مخرجي الواقعية الجديدة، وبالتحديد عاطف الطيب الذي تلائم القصة مدرسته السينمائية ورؤيته السياسية والحياتية.

تبدأ القصة المكتوبة بجملة «أريد امرأة، أيّ امرأة» ليبرز لنا محفوظ منذ الكلمة الأولى أننا أمام شاب يعاني من أزمة تتعلق بالهوس الجنسي، حيث بات الجنس الأمرَ الوحيد الذي يشغله ليل نهار وبشكل يكاد يكون مرضيًا، ولكنه لا يقدر ماديًا على الزواج، كما يتجنب العلاقات المحرمة، ولا يحتمل مصاريف فتيات الليل. تبدو مشكلة البطل الجنسية أعمق من ظاهرها، «كل شيء يريد أن ينطلق ويعجز عن الانطلاق، يستوي في ذلك الإنسان والسيارة، الكبت والقهر والتذمر، الطريق يعاني من أزمة جنسية مثل أزمتي، إنه يفتقد الشرعية والحرية والإشباع». ولذا اختار عاطف الطيب بشكل واع أن يضيف للفيلم إشارات للظرف القاهر بشكل عام، فنسمع من خلال مشاهد الفيلم نشرات الراديو التي تذيع أخبار غزو «إسرائيل» للبنان، كما نرى في المقهى صورة لجمال عبد الناصر مطلًا على محاورات علي (أحمد زكي) مع الصحفي عاطف هلال، فالكبت عام والصمت مطبق ولا أحد قادر على الفعل.

حاول الفيلم أن ينقل لنا أزمة علي وانشغاله الدائم بالجنس، بداية من المشهد الأول الذي يمثل حلمًا ذا طبيعة جنسية، مرورا بمشاهد تلصصه على جارته من خلال النافذة، غير أن بطل الفيلم لا يبدو على درجة الهوس الجنسي نفسها التى عبّر عنها محفوظ، فهو هنا أكثر توازنًا أو ربما أكثر قدرة على المداراة، ولا تظهر عليه علامات الشبق المحموم المتمكن منه.

يتعامل علي مع أزماته بروح ساخرة لا تخلو من الغضب والشعور بالانكسار، يمرر الأيام دون خطة واضحة لمستقبله سوى الأمل الواهي في هجرة إلى دول الخليج. فعلي مقهور ومجبر على كل شيء في حياته، الدراسة التي لم يحبها، والوظيفة التي لا يريدها ولا يعرف طبيعتها، والصيام عن الجنس الذي لم يختره.

يضيف السيناريو إلى القصة شخصية أبو العزم «أحمد راتب»، صديق البطل وشريكه في الأزمات نفسها، غير أنه لا يتمتع بالقيم الأخلاقية التي يتمسك بها علي، حيث يوافق أبو العزم على الانخراط في علاقة مع امرأة كبيرة في السن دون أي عواطف متبادلة مقابل مشاركتها في ثروتها، كأنه عاهر مأجور، ويعرض على صديقه علي أن يقوم بالأمر نفسه غير أنه يرفض مجرد ذكر الأمر، فرغم ضربات المجتمع المتتالية والعنيفة لعلي وطبقته إلا أنه ما زال متشبثًا بأخلاقه ومثله قدر استطاعته.

تنقلب حياة علي رأسًا على عقب مع ظهور رجاء (آثار الحكيم) زميلته في العمل وارتباطه العاطفي بها، حيث تصطدم قصة حبهما بقسوة الواقع وبسطوة التقاليد وضيق ذات اليد. يتوارى الهاجس الجنسي المسيطر على علي نسبيًا عقب ارتباطه عاطفيًا برجاء؛ بات أكثر رومانسية وأقل حسية، يسعى للبقاء مع حبيبته والزواج منها حتى يتحقق له الجانبان، الشاعري والحسي. تشغله الأزمة التي أصبح في قلبها والمعركة التي صار على أعتابها عن عطشه للجنس ولهاثه بحثًا عنه، إلى أن تطفو الأزمة الجنسية على السطح مجددًا عندما ينتصر الحبيبان للجنون ويتزوجان دون أي ترتيب ويبدأ في البحث عن مكان يجمعهما سويًا، ولا يجدان مكانًا ملائمًا سوى سفح الهرم.

تختلف نهاية الفيلم عن القصة هنا أيضًا، ففي القصة يتقدم شرطي نحو علي ورجاء وهما يختليان ببعضهما البعض، فيرتبكان ويداخلهما القلق إلا أن علي يدرك سريعًا أن رجل الشرطة يريد مقابلًا ماليًا لسكوته، فينقده وينصرف، ويعلق علي مستهزئًا «إنها ظروف استثنائية لعينة، وسوف نضحك عليها في القريب»، أما الفيلم فلا ينتهي عند هذه النقطة. أعتقد أن مصطفى محرم أراد نهاية أكثر درامية، وأرادها عاطف الطيب صادمة بشكل أكبر، فصنعا سويًا مشاهد النهاية التي تتقدم فيها قوة كاملة للشرطة وتلقي القبض على علي ورجاء وتحولهما للنيابة، وينتهي الفيلم بمشهد للزوجين في عربة الشرطة «البوكس»، يقفان خلف أسوارها وهما ينظران إلى الهرم الذي يبتعد عنهما رويدًا رويدًا.

عاد أحد مشاهد الفيلم للانتشار في السنوات الأخيرة وبات متداولًا بغزارة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو مشهد المواجهة بين علي والصحفي الكبير عاطف هلال (صلاح نظمي)، وما فيه من حوار متصاعد وصولًا إلى الانفجار. استدعت الجماهير هذا المشهد وأعادت إحياءه لما فيه من نموذج للمثقف المدعي أو الصحفي الأفاك الذي يحصد الثروة والشهرة والنجاح عبر المتاجرة بهموم الناس ومآسي حياتهم، وهو نموذج عابر للعصور، بل إنه آخذ في الاستفحال زمنًا بعد الآخر، ولذا وجد المشاهدون في ثورة علي على عاطف هلال ما يعبر عنهم وعن غضبهم المكتوم.

أضفى عاطف الطيب ومعه مدير التصوير سعيد شيمي ملمحًا بصريًا خاصًا لفيلمهما، وذلك عبر المشاهد التي قاما بتصويرها في شوارع وسط البلد، والكافتيريا المطلة على طرقها، وفي الأتوبيس وعلى محطته، استطاع عاطف أن يدفع ممثليه وسط هذه الجموع بمهارة واضحة ليرسم لوحة واقعية وصادقة لوسط البلد التي تبتلع البطل وتضمه في آن واحد.

خرج الفيلم بشكل متميز وكان أول فيلم من أفلام جيل الثمانينيات يعرض في «نصف شهر للمخرجين» في مهرجان كان سنة 1985.[1]

أيوب

أما المجموعة الثانية التي صدرت في العام نفسه وهي «الشيطان يعظ»، فكان من نصيبها ثلاثة أفلام أخرى، أولها يحمل اسم المجموعة، ومن المفارقة أن هذا الفيلم مأخوذ عن القصة الأولى في المجموعة، وهي قصة «الرجل الثاني»، وليست قصة «الشيطان يعظ» التي كانت آخر قصص المجموعة، حيث يبدو أن صناع الفيلم رأوا أن لهذا الاسم جاذبية وغرابة، فاقتطفوه من قصة وألحقوه بقصة أخرى. أما آخر الأفلام فكان فيلم «لمح البصر» ليوسف هشام، وبينهما جاء فيلم «أيوب» في عام 1984.

في مطلع الثمانينيات وفي إحدى زيارات عمر الشريف لمصر تعرف على المخرج الشاب هاني لاشين الذي استطاع أن يقنعه بالمشاركة في فيلمين تسجيليين من إنتاجه وإخراجه. أُعجب عمر بالتجربة وبمنتجها النهائي. تزامن هذا التعاون مع خفوت في نجومية عمر الشريف العالمية وتراجع في أدواره مع تقدمه في السن. حينها فكر أن يعود للظهور في السينما المصرية مرة أخرى، وما إن عرض عليه هانى لاشين قصة أيوب، حتى تحمس لها وشرع محسن زايد في كتابتها للسينما. لم يكن عمر قد عمل في فيلم منتسب لمحفوظ منذ 23 عامًا، تحديدًا منذ مشاركته في فيلم «بداية ونهاية» لصلاح أبو سيف، سافر عمر بعدها بعامين ولم يعد للعمل في السينما المصرية خلال تلك الفترة إلا من خلال فيلم وحيد وهو «المماليك» من إخراج عاطف سالم.

على عكس القصص السابق تناولها، تبدو القصة الأصلية لمحفوظ صعبة التحويل إلى فيلم طويل، فهذه قصة بحق رغم طولها، لا يمكن وصفها بالرواية القصيرة أو ما شابه، وهي تعتمد في الأساس على حوار فلسفي طويل ومتصاعد بين الشخصيتين الأساسيتين، رجل الأعمال عبد الحميد السكري والدكتور جلال صديق شبابه الأول. ولذا كان على محسن زايد وهاني لاشين إضافة بعض الأحداث للقصة الحوارية لتصلح للتقديم كفيلم روائي طويل، فأضافا أكثر من خط درامي، من أبرزها خط العلاقة بين عبد الحميد السكري و«فاضل بيه»، وهذا الاسم غير موجود بالقصة، فتلك الشخصية لم تذكر في النص إلا عبر جملتين عابرتين دون تسميتها حيث أشير إلى صاحبها بكلمة «المقاول» فقط. تم تعميق هذه الشخصية وصناعة صراع بينها وبين عبد الحميد، واختير محمود المليجي لتأديتها. كان من المفترض أن يبدو دور «فاضل بيه» أطول مما ظهر في نسخة الفيلم، إلا أن المليجي توفي بشكل مفاجئ في أثناء التصوير واضطر لاشين إلى تلفيق حلول درامية لإكمال الفيلم دونه.

غير أن ثمة فارقًا جوهريًا بين القصة والفيلم، فشخصية الدكتور جلال، الطبيب بالمستشفى العام، والتي أداها فؤاد المهندس بتألق واضح خطف الأضواء من عمر الشريف، تم تقديمها في الفيلم كرجل تفرغ لعمله الحكومي لخدمة المرضى دون أن يفتح عيادة خاصة لأنه لا يؤمن بعمل الطبيب الخاص، ورغم أنه نموذج نادر إلا أنه موجود ومفهوم، لكن الشخصية التي رسمها محفوظ كانت أكثر غرابة وتفلسفًا، فهو لم يفتح عيادة فعلًا ولكن ليس بهدف التفرغ للعمل بالمستشفيات العامة، إنما لإيمانه بأن العمل يجب أن يكون على هامش الحياة، لا يشغل طول وقتها، فالعمل في نظره وسيلة وليس هدفًا في حد ذاته. على المستوى الشخصي هو وسيلة لتوفير أساسيات الحياة كي يتمكن الإنسان من تثقيف نفسه وزيادة معرفته، وعلى المستوى العام فالعمل وسيلة لتحرير الإنسانية من العمل نفسه، والوصول إلى الفراغ المنشود، الفراغ المثمر الحافل بالعمل الإنساني. أسهب الطبيب في شرح نظريته تلك عبر محاوراته مع عبد الحميد وعائلته التي تقدس العمل وتراه الهدف الوحيد والسامي للحياة، وهذه الفكرة الفلسفية الجذابة لم تتمثل في الفيلم بهذا الشكل، فرسمت شخصية الدكتور جلال كرجل زاهد وبسيط وغير متهافت على المادة والحياة، دون العمق الذي رسمه محفوظ للشخصية والذي كان أحد أعمدة قصته الأساسية.

في القصة فكرة جذابة أخرى، نقلها الفيلم بوضوح هذه المرّة، وهي أن الإنسان دائم الكذب، حتى على نفسه، ولذا فعلى الإنسان أن يكتب يومياته ليفضح نفسه أمامها أولًا بأول فيصلح من حالها، فيقول «لا تعتمد على التذكر فهو وهم كالحرية المزعومة وكالصديق المزعوم»، وهو ما يذكر بما ذهب إليه جوليان بارنز في روايته «الإحساس بالنهاية»، أنه بمرور الوقت تختلط علينا الأحداث، الحقيقي منها والمختلق، ما حدث فعلًا وما تخيلنا أنه حدث، حيث تعمل ذاكرتنا على ضبط قصة حياتنا وزخرفتها وإجراء التعديلات الماكرة عليها حتى تبدو لنا حقيقية تمامًا.

وبرغم الاختلاف الواضح بين الفيلم والنص الأصلي وإهمال بعض الجوانب الفلسفية للقصة، إلا أن فيلم «أيوب» ظهر بشكل مميز، حيث استطاع محسن زايد أن يكتب سيناريو محكمًا لتصوره للقصة، وكذلك قدمها هاني لاشين بقدر كبير من الحساسية والإبداع وبتفهم للشخصيات وتطوراتها النفسية في شكل يسمح بالتأمل دون أن ينهار الإيقاع، معتمدًا على طاقم تمثيلي من جيل مخضرم بخبرات كبيرة وطاقة لم تنضب. عُرض الفيلم لأول مرة في سينما ريفولي بحضور نجيب محفوظ وحشد من السينمائيين والمثقفين، وكان «أيوب» أول فيلم من إنتاج التلفزيون يعرض جماهيريًا في دور العرض السينمائي.

بخلاف تلك الأعمال الثلاثة المتميزة، تعددت الأفلام المأخوذة عن قصص محفوظ وتباينت في مستوياتها، فيها الجيد مثل «الشريدة» و«الشيطان يعظ»، والاثنان لأشرف فهمي، وفيها ما حقق نجاحًا جماهيريًا كبيرًا مثل «وكالة البلح»، وفيها قصة قدمت مرتين وهي «دنيا الله»، ولا بد أن شخصية إبراهيم الساعي، بطل هذه القصة، شخصية محظوظة جدًا ليؤديها كل من صلاح منصور ونور الشريف، وفيها أفلام لا يَعرف اسمها إلا صناعها. وأعتقد أن مزيدًا من قصص محفوظ ما زالت تنتظر أن تقتبس وأن تظهر على شاشة السينما في أفلام مستقبلية إلا أن هذا مرهون بتحرر الصناعة من القيود الإنتاجية والرقابية المخيمة عليها حاليًا وإلى حين.

  • الهوامش

    [1] من الجدير بالذكر أن مصطفى محرم كتب في التسعينيات فيلمًا آخر من المجموعة نفسها وهو «سمارة الأمير»، وأعتقد أن محرم لم يجد صعوبة في صياغة السيناريوهات الثلاثة المذكورة، حيث كتب محفوظ هذه القصص الطويلة الثلاثة بطريقة متأثرة باللغة السينمائية، قسمها إلى فصول أو مشاهد، وامتلأت بالحوارات والرسم المشهدي للأحداث، فنقل محرم تلك الحوارات والمشاهد نصًا، ولم يضف إلى الأفلام إلا القليل. على كل، لا أعتقد أن مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم» من أعمال محفوظ اللافتة على المستوى الأدبي، ولولا الفيلمين الأولين لتاه اسمها وسط إنتاج محفوظ الكبير.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية