«حتى لو كتبت [في چوچل] «إيتيل عدنان شابة» فلن ترى إلا صورًا من سنواتها اللاحقة. من بينها صورة بالأبيض والأسود لإيتيل عدنان وهي كهلة»
– منى كريم
يشير الاقتباس السابق إلى الظاهرة الغريبة التي تحيط بذكرى الكاتبة والفنانة اللبنانية الأميركية إيتيل عدنان، التي رحلت عنا مؤخرًا، ألا وهي غياب أي صور لها وهي شابة، وكأن إيتيل كانت مسنّة حتى أيام الأبيض والأسود، بذات الملامح الأنيسة والوضعيات الخجولة. ويبدو ذلك منسجمًا مع اكتشاف العالم لأعمالها التشكيلية بعمر الـ87، أو وفاتها بعمر الـ96، فكل ما فيها لطالما بدا معمّرًا، ديناصوريًا، بطيئًا، متأخرًا.
لكن إيتيل كانت شابة يومًا ما، وعاشت بالتأكيد ما يكفي من التحولات لجعل هذا الكلام ضربًا من الهذر إذا ما حُصر بصعيد شخصي. لكن ما إن نسقط تلك الملاحظات -السطحية بحد ذاتها- على أعمال الفنانة وفي سياقها التاريخي، حتى تكتسب أبعادًا أكثر جدية وتطرح مجموعة تعقيدات في طريقة تأريخنا لفن إيتيل وللفن العربي الحديث عمومًا. فلوحاتها، كما سنرى، تظهر أعراضًا لما سماه معاصرها في المنفى إدوارد سعيد بالـ«تأخر»، خاصية ليست مرتبطة بعمر الفنان، بل بتعمير أسلوبه الفني أطول من المقبول أو المعتاد، برفضه مجاراة مسيرة التاريخ أو تغير الأساليب من حوله، شيء رأى فيه سعيد نوعًا من المنفى.[1]
ولدت إيتيل في بيروت عام 1925، وهو العام السابق لإعلان الفرنسيين ولادة الجمهورية اللبنانية رسميًا، وظلت حتى وفاتها تجسد نوعًا متلاشيًا من كوزموبوليتانية ما قبل الدول الوطنية، جاء على صورة إمبراطورية عثمانية لم تعد موجودة. فأبو إيتيل كان عربيًا دمشقيًا وأمها يونانية، مما أدى إلى تنقل إيتيل المستمر بين التركية واليونانية والعربية والإنكليزية وخصوصًا، الفرنسية، التي صارت لغتها الأولى مع غياب العربية عن منزلها ومنع الانتداب لممارستها في المدارس اللبنانية. بعد دراستها الفلسفة، انتقلت إيتيل إلى بلدة سوساليتو، كاليفورنيا، مستمرة بالكتابة بالفرنسية، بالتزامن مع اندلاع الثورة الجزائرية ومعها مشاعر العروبة لديها. بغضون أوائل الستينيات، بدأت إيتيل تشعر بأن كتابتها بالفرنسية تضعها على الجانب الخطأ من التاريخ، لكن عربيتها لم تكن قوية كفاية كي تكتب بها. «حلَ مشكلتي شيء غير متوقع» تذكرت لاحقًا، «لم أعد بحاجة أن أكتب بالفرنسية بعد الآن، سوف أرسم بالعربية».[2]
كانت إيتيل في أواسط الثلاثينيات، وجاءت لوحاتها الأولى كالأخيرة تجريدية. معظمها مشاهد طبيعية مرسومة باقتصاد مذهل، مربع أو دائرة مكان الشمس ومجموعة أشرطة أفقية بدل الجبال، الألوان بسيطة وموحّدة، شكلتها إيتيل دون استخدام الفرشاة، بإخراجها من الأنابيب مباشرة وتطويعها بالملاعق المسطحة والسكاكين. تتبادل العناصر ألوانها الطبيعية، سماوات خضراء، شموس زرقاء وبحار صفراء (تبادل يذكر بإحدى أولى قصائد إيتيل التي كتبتها في بيروت عن «علاقة شبق كوني بين الشمس والبحر»).[3] ألوانها مشمسة، لكن الدفء لا يشع منها بسهولة. الزهري كامد، والمزيج المتوسطي للأخضر والترابي منطوٍ على ذاته. طاقة لوحاتها اللونية تبدو دائمًا كامنة، محتقنة، تصدّ المشاهد بسماكتها وتصعّب عليه أي استمتاع سهل أو تأمل قد يكون اعتاد عليه في المشاهد الطبيعية الأكثر تقليدية.
إيتيل عدنان، بدون عنوان، 2010، زيت على قماش، 24*30 سم، متحف الفن الحديث، اللوكسمبورج. المصدر: متحف جراند ديوك جان للفن الحديث.
يمكن تتبع أسلوب إيتيل هذا نحو منابعه في بداية القرن العشرين، خصوصًا فيما سمي لاحقًا بمدرسة باريس الثانية، فنانون مثل نيكولا دوستال وسيرج پولياكوف، ربما اكتشفتهم إيتيل أثناء إقامتها في باريس بضع سنوات في الخمسينيات، وأخذت عنهم تقنية السطوح الهندسية موحّدة اللون وحبهم للمشاهد الطبيعية. أما حساسيتها للألوان بتدرجاتها وتضاداتها المختلفة، فتذكر بأعمال الألماني يوزيف ألبيرس وطلابه، أيضًا من أوائل القرن، وطريقتهم في تبسيط الأشكال الهندسية إلى حدها الأدنى للتركيز على الألوان وتفاعلاتها مع بعضها. وأخيرًا، تأتي طريقة إيتيل الروحانية في الحديث عن فنها لتزيد من تشويش مؤرخ الفن الذي يرى في وصفها للألوان بالـ«كيانات الميتافيزيقية» أقرب لخطابات التجريديين الأوروبيين الأوائل من أمثال فازيلي كاندينسكي وپول كليه.
إيتيل عدنان، بدون عنوان (تفصيل)، 1960، زيت على قماش. المصدر: متحف ليل مترو بول للفن المعاصر.
نيكولا دي ستال، «أشكال على طرف البحر» (Figures au bord de la mer)، 1952، زيت على قماش، 161.5*129.5 سم، المجموعة الفنية لمقاطعة نوردرهاين – ويستفاليا، دوسلدورف. المصدر: موقع MutualArt.com.
إيتيل عدنان، «وزن العالم» (Le poids du monde)، 2016، جاليري سربنتين، لندن. المصدر: موقع wallpaper.com.
يوزيف ألبيرس، «تحية إلى المربع» (Hommage to the Square)، 1949-1976، المصدر: فنون وثقافة جوجل.
لكن في الستينيات، حين بدأت إيتيل الرسم، كانت هذه المقاربة نحو الفن (التجريد الهندسي، الهوس الروحاني بالألوان) تعيش أيامها الأخيرة، خصوصًا في الولايات المتحدة حيث بذل من تبقى من كبار الفنانين التجريديين ما في وسعهم للانفصال عن التجريد الهندسي الأوروبي بعدما صار مرتبطًا بالنخبوية وبنوع من الفن السهل الذي يزين أغلفة الألبومات وبيوت الضواحي. لتمييزها عن الحداثوية الأولى لبداية القرن العشرين، يطلق مؤرخو الفن اسم «الحداثوية المتأخرة» (Late Modernism) على تلك المرحلة من الخمسينيات والستينيات التي فقد فيها الكثير من الفن الحديث (خصوصًا التجريدي) زخمه الثوري ليصبح مجرد تكرار للوصفات القديمة، متخليًا عن عهده الأول بإعادة اختراع ذاته باستمرار كما قضي مفهوم الحداثة تعريفًا.
بالفعل، تجسد إيتيل تلك المرحلة بتمسكها بذات الأسلوب طيلة حياتها. فبينما اشتهر الفرنسي پول سيزان مثلًا بتمثيله لذات الجبل، سانت-فيكتوار، على مدى سنوات، مفككًا إياه تدريجيًا، اشتهرت إيتيل كذلك بتمثيلاتها المستمرة لجبل تامالپايس في كاليفورنيا. لكن سيزان رأى في الجبل حجة لطرح مشكلة تقنية، ألا وهي تمثيل الواقع دون تقليده حرفيًا، وذلك بتحويل ألوانه وأشكاله إلى سطوح لونية ظلّ يعدّل في مقدار دقتها سنة بعد سنة، متخليًا تدريجيًا عن الواقعية الأكاديمية في سبيل الأسلوب الجديد الذي سيعرف لاحقًا بالتجريد. أمّا جبل إيتيل فلا يبدو وكأنه يتطور باتجاه واضح، حيث يعود ليظهر على مدى سنوات بذات التقنية، مغيرًا لونه تارة أو مقاسه، مثل تنويعات مختلفة على ذات الثيمة. لأكثر من ستين سنة، يكاد أسلوب إيتيل يخلو من أي تغير جذري.
قد يفسر ذلك أربع عقود من لامبالاة مؤسسات الفن الغربية بأعمال إيتيل التشكيلية، بعكس نتاجها الأدبي الذي نال مكانته سريعًا نسبيًا. فما الفائدة من أن تأتي مهاجرة لبنانية لتكرر ما فعله فنانون غربيون قبلها بعشرات السنين؟ جاءت السبعينيات والثمانينيات وصار التجريد في الغرب مرادفًا للمحافظة والرجعية، فبدأ الفن المعاصر بالتعامل مع تقنيات كالفيديو والتصوير الضوئي والتجهيز، وبمعالجة قضايا سياسية واجتماعية أقرب للحياة اليومية وصورها، أما إيتيل، فظلت عالقة في زمن آخر. عاش الفن الحديث ومات وولدت ما بعد الحداثة وانقضت، وظلت إيتيل ترسم ذات المربعات والدوائر، ذات السطوح اللونية وذات الجبال، غير آبهة بأي مستجدات أو معايير فرضها المشهد الفني حول ضرورة تطور الفنان أو تغيير فنه بتغير الظروف.
إيتيل عدنان، «وزن العالم 2» (Le poids du monde II)، 2016، نقش، 48*38 سم. المصدر: Fineartmultiple.
تاكيهيكو ميزوتاني، «دراسة في التفاوت اللوني المتوازي (صف يوزيف ألبيرس)»، 1927، جواش على كرتون، 80*55 سم، أرشيف الباوهاوس، برلين. المصدر: Pen online.
هل لنا الاحتفاء بثبات أسلوب إيتيل كحركة بطولية تقاوم النموذج التطوري لتاريخ الفن وتفرض إيقاعها الخاص؟ أو بالعكس، إدانته كنوع من المحافظة والانعزال عن الواقع؟ يتعقد السؤال عندما ندرك أنه يتجاوز إيتيل بكثير. عام 1950، أوفدت الحكومة اللبنانية الفنان الشاب صليبا الدويهي ممثلًا ثقافيًا إلى الولايات المتحدة. بعد سنوات من رسمه مشاهد طبيعية مستوحاة من قريته في جبل لبنان، اكتشف الدويهي تيارًا تجريديًا عرف باسم «الحقل اللوني» (Color field painting)، وهو أسلوب نيويوركي اشتهر في الأربعينيات والخمسينيات، وقام على سطوح واسعة من الألوان المتجانسة التي لا تظهر أي أثر لضربات فرشاة الفنان. تبنى الدويهي الأسلوب هذا واستمر بالعمل فيه حتى الثمانينيات، أي بعد انقراضه من الولايات المتحدة. بشكل موازٍ، وصل فنان لبناني آخر، هو شفيق عبود، إلى باريس عام 1947، تمامًا سنة وفاة الفنان الفرنسي پييار بونار، وتبنى منذها اللبناني أسلوب الفرنسي ليستمر حتى التسعينيات برسم لوحات قد نظنها للوهلة الأولى تعود لبدايات القرن العشرين. في كتابه عن الحداثة اللبنانية، يشير الباحث روبين كرزويل إلى ظاهرة تأخر أدبية مماثلة لدى شعراء مثل أدونيس ويوسف الخال، اللذين رددت طروحاتهما في الستينيات والسبعينيات أصداء كتاب ومفكرين غربيين من أوائل القرن.[4]
أعمال إيتيل ليست متأخرة إلا من وجهة نظر تاريخ الفن الرسمي كما صنع في عواصم كباريس ونيويورك، وأنها من وجهة نظر المشرق كانت ولا تزال تعبيرًا عن حداثة صادقة وعربية
تتجلى معالم ذلك التأخر بأوضح أشكالها في كلمات وزير المعارف السوري لدى افتتاحه المعرض الرابع للفنون الجميلة عام 1953 في دمشق: «أصبح لدينا ولله الحمد فنانون يطرقون كل مواضيع التصوير والنحت ويجولون في كل ميادين الابتكار والإبداع ويتبعون المذاهب الفنية الكلاسيكية كما يحاورون المذاهب الجديدة كالانطباعية الحديثة والرمزية السريالية والتكعيبية وغيرها التي يتبعها الفنانون الغربيون المعاصرون».[5] من الواضح أن الوزير لم يكن على دراية بأن الانطباعية والرمزية كانتا قد انتهتا منذ الحرب العالمية الأولى.
تشير تلك الأمثلة والعشرات غيرها إلى ما يشبه اختلاف توقيت جماعي، ظاهرة تأخر تاريخية تجعل من السؤال حول بطولة أو رجعية أسلوب إيتيل بلا معنى، كونها تتجاوز قرارات الأفراد ومواقفهم الشخصية. بانتظار دراسة جدية لتقييم ذلك التأخر، تكفي الإشارة إلى أن الاستخفاف بأعمال إيتيل الفنية لكونها مكررة، مقلدة، أو متأخرة، وبحجة أننا العرب دائمًا متخلفون عن الغرب، هو تسرع بالحكم وتناسٍ لحقيقة أن عملًا ما لا يمكن أن يكون «متأخرًا» على موعد اتفق عليه آخرون في مكان بعيد، أي أن أعمال إيتيل ليست متأخرة إلا من وجهة نظر تاريخ الفن الرسمي كما صنع في عواصم كباريس ونيويورك، وأنها من وجهة نظر المشرق كانت ولا تزال تعبيرًا عن حداثة صادقة وعربية، مما قد يفسر شعور عدنان بأنها «ترسم بالعربية» بينما تبدو لنا تلك اللوحات تجريدية، أي منفصلة تعريفًا عن أي مرجع واضح، «عربي» كان أو «أجنبي».
اقرأ/ي أيضا:
لكن بالمقابل، وكونه لم يعد من السهل فصل الشرق عن الغرب وكوننا نعرف بأن التشابه بين تجريد إيتيل وتجريد بداية القرن العشرين ليس وليد صدفة بل تأثير مباشر، وأن إيتيل سارت على طريق دوستال وألبيرس، تكلمت لغاتهم وعاشت بالقرب من عواصمهم، فإن النظر إلى تأخر فنها بعيون غير ناقدة قد يعني أيضًا تجاهل الشروط التاريخية التي أنتجت ذلك التأخر، شروط لا بد من البحث عنها في موقعنا كهامش معتمد اقتصاديًا وسياسيًا وفكريًا على مراكز القوى الاستعمارية سابقًا، النيوإمبريالية حاليًا. أشارت إيتيل ذاتها إلى تلك الحقيقة عندما تذكرت طفولتها: «لقد تعلمنا من ذات الكتب التي تعلم منها الأطفال الفرنسيون في أوروبا. بدت لنا باريس عاصمة العالم، وتعلمنا أسماء الكثير من الأشياء التي لم نرها ولم نسمعها في حياتنا، أنهارًا فرنسية، جبالًا فرنسية».[6]
تفاعلت إيتيل، مثلها مثل عبود والدويهي وغيرهم، مع تركة نظرائها الغربيين من موقع اللامساواة التاريخية هذا وضمن ما فرضها من محددات وتفاوتات في المفاهيم والتطلعات. لماذا شكل أسلوب فني محتضر، هو التجريد، مصدر جذب للكثير من الفنانين المهاجرين نحو الغرب؟ هل تبنوه كمحاولة لمجاراة الذوق السائد والاندماج ببيئتهم الجديدة؟ أم رأوا فيه فعلًا إمكانات تحررية (لمن وأين؟) في وقت لم تعد فيها تلك الإمكانات سارية المفعول في الغرب؟ أي تأريخ فني لإيتيل لا يأخذ بعين الاعتبار تلك الأسئلة والشروط التاريخية التي ولدتها يغامر بالتسرع في الاحتفاء به أو إدانته.
هذا يقودنا إلى مفارقة أخيرة، وهي أنه لولا قرار المؤسسة الفنية الغربية ذاتها التي أقصت إيتيل عن المشهد لعقود، أن «تعيد اكتشافها» وتحتفي بمسيرتها، لما كان معظمنا في الوطن العربي قد عرف بإيتيل الفنانة من الأساس. بدأت القصة عام 2012، حين سُحر زوار «دوكومينتا 13» في ألمانيا، أحد أهم فعاليات الفن المعاصر في العالم، بصالة من أعمال إيتيل. يعود الفضل لتلك المشاركة إلى چاليري «صفير-زملر» اللبناني- الألماني الذي كان قد عرض أعمال إيتيل للمرة الأولى في بيروت عام 2010، قبل أن يقترح عرضها في ألمانيا. تلا ذلك التحول المفاجئ لإيتيل إلى نجم صاعد وتسابق متاحف الفن الحديث في نيويورك وسان فرانسيسكو وباقي العالم لاقتناء أعمالها، بينما تبنتها في باريس (مكان إقامتها الأخير) مؤسسات مثل چاليري لولون وهانس أولريخ أوبريست مدير چاليري سيرپنتين في لندن وأحد أكثر الشخصيات تأثيرًا على المشهد الفني المعاصر اليوم.
هل لنا الاحتفاء بثبات أسلوب إيتيل كحركة بطولية تقاوم النموذج التطوري لتاريخ الفن وتفرض إيقاعها الخاص؟ أو بالعكس، إدانته كنوع من المحافظة والانعزال عن الواقع؟
لا يمكن فصل كل ذلك الحب المفاجئ عن اعتبارات السوق، فقد ترافق عرض إيتيل في «دوكومينتا» بولادة الموجة النسوية الرابعة وتركيزها على التقاطعية وعلى تجارب النساء من أصول أجنبية، مما دفع صالات العرض والمتاحف لتوسيع مجموعاتها الفنية والاحتفاء بفنانات منسيات غالبًا من أصول أجنبية، غالبًا مارسن التجريد (آخر تلك الفعاليات كان معرض «هن يصنعن التجريد» في مركز پومپيدو). دفعت زيادة الطلب هذه إلى تسليع أعمال لم تكن ذات قيمة تذكر سابقًا، وتزامنت تلك الموجة مع تضاعف إنتاج إيتيل الفني لمجاراة السوق الوليد (غالبية لوحاتها تعود إلى العشرين سنة الأخيرة)، كما صرحت الفنانة للمرة الأولى بمثليتها، وبدأت الصحافة الغربية تركز على البعد النسوي من حياتها. لأول مرة بعد ثمانين سنة من التأخر، تلاقى درب إيتيل بدرب مجريات عصرها.
«الفرق بيني وبين [نيكولا] دوستال هو أنه يراكم الألوان بينما أنا أضع لونًا وأتركه يستريح بجانب لون آخر».[7] لكن حتى لو بدت كلمات إيتيل اليوم مناسبة لوصف فنها، فعلينا أن نقاوم اختصار ذلك الفن بكونه «مستريح». فلوحات إيتيل التجريدية تشكل ملتقى توترات تاريخية تتجاوز مسيرتها الفردية، بينما يجسد تكرارها العنيد لذات التكوينات والألوان أكثر ما أثار اهتمام سعيد بالأساليب المتأخرة: «توتر غير مستريح، وقبل كل شيء، نوع من الإنتاجية التي تتعمد اللاإنتاج، التي تذهب بعكس التيار».[8] سيُظِهر الوقت ما إن كان نشاز إيتيل عن التاريخ هو الضمان لسمو أعمالها عن الموضات العابرة أو السبب في نسيانها كواحدة من تلك الموضات المتأخرة، لكن الأكيد اليوم هو أن لوحاتها تشكل تذكيرًا لنا بموقعنا من العالم وبضرورة البحث عن إيتيل وأمثالها ومساءلة أعمالهم، بدل أن ننتظر سوق الفن الغربي ليبعث لنا بتاريخنا من الخارج.
-
الهوامش
[1] Edward Said, On Late Style, London, Bloomsbury Publishing, 2006.
[2] Ibid.
[3] Etel Adnan, «To Write in a Foreign Language» (1984), in Unheard Words, London, Allison & Basby, 1985.
[4] Robyn Creswell, City of Beginnings: Poetic Modernism in Beirut, Princeton/Oxford : Princeton University Press, 2019, p. 44, 95, 148, 158.
[5] «النشاط الثقافي في العالم العربي»، مجلة «الآداب»، المجلد الأول، العدد 12، 1953، الصفحة 64.
[6] Etel Adnan, «To Write in a Foreign Language» (1984), in Unheard Words, London, Allison & Basby, 1985.
[7] عيسى مخلوف، «إتيل إيتيل: كتابة اللون»، بدايات، العدد 11/ ربيع 2015.
[8] Edward Said, On Late Style, London, Bloomsbury Publishing, 2006, p. 7.