لا ينتهي هذا العام بتوقفٍ صارخ، بل بمسحة من الخذلان، لأن لا عتبة تُرجعنا إلى المألوف، ليس أمامنا إلا تلة مغمورة بنفس عدم اليقين العميق الذي ساد آخر الأشهر. أتذكر بوضوح عندما تجلّى لي، في نهاية الشتاء الأخير، أن نظامنا الحالي سيتغير على نحوٍ لا رجعة فيه؛ ربما كان هذا الكليشيه ليّنًا في البداية، لكنه الآن تحول إلى حجر. وكأننا في أحد أفلام يورجوس لانثيموس؛ نشاهد دخول عنصر ديستوبيّ إلى ما كان سابقًا العالم الجائر المألوف، ونشهده يكشف عن نفسه عاجزين. هذا العنصر -أي الفيروس- كان آخر جديدًا، أغرقنا فيما لم يُشهد من قبل.
أحسّ أنني حبيسة حلم فيروس كورونا، هذا الخصم الأجنبي الجديد، الذي يشنّ الحروب بدقةٍ وسريةٍ لا هوادة فيها، قبل أن يعلن عن نفسه داخل أجسادنا. أتأمل في كيفية سفره، وكيفية عيشه داخلنا، وما يقتل، وما يقتله، وأين يكون أكثر تركيزًا، وأين نكون في مأمن منه. تدهشني بشكل خاص رؤية ميمات تتخيل سمات الفيروس، كأن يكون يرقص، ويفكر. لو كان يفكر، فمن الممكن ترويضه. ولو تم ترويضه، فقد يمكن هزيمته. يفضّل أغلب الناس تصديق أنهم يتعاملون مع وجود ذكي، وإن كان قاسيًا. الخوف الفعلي من أن يكون غبيًا بقدر ما هو غير متوقع. إنها راحة كوميدية، تلك التي نأخذها من الهوس المبالغ به بفكرة الحضور الكلّي غير المنقطع للفيروس. كتبت الفنانة الأمريكية جيني هولزر في أحد نصوصها المبكرة أن الحرب ستكون سرية في بدايتها. الحرب العظمى بين العدو الخفي، الفيروس، وبين جيش البلاستيك: من البدلات الواقية، ومعدات الفحص، وأنابيب التنفس، والقفازات البلاستيكية، والكميات الوفيرة من المعقمات المستنشقة. إن خفاء العدو يحكم عليه أن يكون كليّ الوجود، إنه موجود في كل مكان حولك، وربما بداخلك، إنه حصان طروادة.
إن من الكرامة أن نقاوم تهذيب غرابة ما هو غير مألوف لنا. ومن النبل التمسك بالفرح الجادّ في عالم لم يكن ملكًا لأيّ منّا أساسًا.
أشاهد الأجسام تلمس بعضها البعض في الأفلام وكأنني أدرس التاريخ. يلهم ذلك في داخلي إحساسًا عميقًا بالحسد. يبدو الأمر أشبه بحضور حفلة لست مدعوًا إليها، أستطيع أن أدرك بحدّة الإشارات الاجتماعية، وآداب السلوك، وعادات وسلوك فئة من الناس ربما انتميت إليها ذات مرة، ولكنني لم أعد أنتمي. ربما يمكن تحويل كل الحرمان والبعد والضآلة والعزلة إلى لذّة. إن العزلة لذيذة من منظور الحنين إلى الماضي، لكنها مُرّة في الحاضر. ربما توجد طرق جديدة لاختراع ألا ترى شفاه الغرباء، طرق جديدة لأن يجفلّك قرب شخص منك في ممر المتجر. ما كان عاديًا سابقًا، صار الآن غير متاح بصورة مذلة. أتذكر، بانزعاج وازدراء، بعض الذكريات؛ كم بات ما كان يومًا عاديًا، غير طبيعي. أليس هذا هو أصل كل التحليلات؟ محاولة جعل ما كان في السابق مألوفًا للغاية، غريبًا من جديد؟ مثل التحديق في كلمة عادية لمدة تكفي لتشويهها. بمرور الوقت، ستتحول العيوب الصغيرة للوباء في الذاكرة إلى أعمق أشواقها: ولادة جديدة للحميمية العامة. ليس الأمر أن الحياة الطبيعية لن تعود مجددًا، بل أنها لا ينبغي أن تعود.
أصبح التخطيط لتجمع عائلي أو رحلة إلى الخارج مقيدًا ومثقلًا بالشكوك، وبالتالي بالقلق. إن القلق، مثله مثل الألم، لا يحتاج إلّا نفسه كدليل على وجوده. سمته الأساسية هي ذلك اليقين بأن شيئًا فظيعًا يحدث، أو يوشك أن يحدث، ولكن مع عدم اليقين من ماهية هذا الشيء. والخوف هو القلق الذي يُسقِط على شيءٍ ما يقينًا معينًا إذا صح التعبير، تمامًا كما أن الوحدة هي العزلة مضافًا إليها عقبة، كما تأملت الكاتبة الأمريكية ماجي نيلسون سابقًا. القلق لا هدف له، وبالتالي فهو قادر على الاستمرار إلى ما لا نهاية. إن الإحساسين، كلاهما، قد شكلا قاعدة حجر الأساس للعاطفة الجماعية.
حافظت الجائحة على العديد من أعراض الخوف والقلق والاكتئاب نفسها، وليس مستغربًا أن تستمر هذه المشاعر بالذات طوال فترتها. الاكتئاب، بمعناه الأصعب والأعمق، هو «العجز عن تشكيل المستقبل»، وفقًا لتعريف عالم النفس الوجودي الأمريكي رولو ماي. إن تصور الشخص لمستقبله، لوحده، صرح يصعب تسلقه، إن العجز عن تخيل العالم كاملًا هو من أعراض النقص العامة الذي يذوب في كل شيء. كيف يمكن أن نتخيل، بشكل ذي مغزى، مستقبلًا لا يحتفظ بأي من سمات ماضينا القريب؟
إن القلق، مثله مثل الألم، لا يحتاج إلّا نفسه كدليل على وجوده. سمته الأساسية هي ذلك اليقين بأن شيئًا فظيعًا يحدث، أو يوشك أن يحدث، ولكن مع عدم اليقين من ماهية هذا الشيء.
إن الرغبة في تصور مستقبل ما تدفع العديدين إلى الرضوخ ضمنيًا، والتطبع بسمات الجائحة. هذه النزعات تدفع، بشكل خفي ولكن لا هوادة فيه، نحو القمع. أتذكر شعورًا عميقًا بالجزع عندما رأيت لأول مرة شخصًا يطابق ملابسه مع كمامته، وقاومت أي تبنٍ دائم لهذا. بالنسبة لي، كانت الكمامة أداة، لا شيء جميل فيها. وكانت رؤية الأشخاص يرتدون كمامة طبية أمرًا مطمئنًا؛ يجب أن يبدو الذئب ذئبًا. ليس لدي اهتمام بملابس الخراف.
ولكن هذا الآخر الأجنبي، الذي رمانا في عزلة مجهولة، يشبه بشكل هزلي إحدى السمات التافهة، ولكن الضرورية، لوجودنا؛ أنفاسنا. كتب المحلل النفسي جاك لاكان في محاضرته العاشرة حول أول صدمة للطفل البشري بعد الولادة، أن أول جسم غريب يقابل الطفل بعد خروجه من الرحم، هو أول نفس له. واستندت المحللة النفسية المعاصرة، جاميسون ويبستر على ملاحظات لاكان في مقابلة جرت في الأشهر الأولى للوباء، وما يشبهها في الوقت الحاضر، وكانت صداها مؤلمًا، سياسيًا ووبائيًا. تكمن استعارة في مكان ما هنا. هناك شيء استجوابي بصورة عميقة في بنية الجائحة؛ في قمعها وكشفها عن الحياة التي كنا نعيشها أصلًا. كيف نبدأ في التفكير في منازلنا، ومراقبة والدينا، وأزواجنا، وإخوتنا، وأنفسنا. لا يمكن للمرء أن يعيش حياة ذات معنى دون أن يشاهدها الآخرون. يجب أن نؤدي، يجب أن نراقب، يجب أن يُنظر إلينا. استُبدلت نظرة الآخرين، استبدالًا مؤلمًا، بنظرة فيروس قاتل. المراقبة المتبادلة للمرض تجعلنا منفيين مذعورين من أجسادنا.
أتذكر أنني قرأت عنوانًا لمقالة منذ سنوات عن أن بعض مليارديرات وادي السيليكون قد اشتروا منازل محصنة في نيوزيلندا، ليستعملوها فقط في حالة حدوث كارثة عالمية. أتساءل الآن نفس السؤال الذي راودني حينها: إلى أي مدى يمكن للشخص أن يرغب في البقاء على قيد الحياة، عندما يواجه الكثير من الموت؟ هناك إبداع غريب، وقسوة في تلك الغريزة. المنازل الملاجئ، والأرحام، والمناطق الخالية من الفيروسات، هناك راحة وفي نفس الوقت انزعاج عميق في الأمر كله. تخيل طفلًا يخرج من الرحم، ليدخله مرة أخرى، إلى ما لا نهاية، هكذا أتخيل النجاة من الجائحة في ظلّ الحداثة الرأسمالية. يختار بعض الناس البقاء مقيدين في الرحم. هذا هو الوباء الحقيقي: وهم المرء أن لديه خيار فعلًا.
لا يمكن للمرء أن يعيش حياة ذات معنى دون أن يشاهدها الآخرون. يجب أن نؤدي، يجب أن نراقب، يجب أن يُنظر إلينا.
إن من الكرامة أن نقاوم تهذيب غرابة ما هو غير مألوف لنا. ومن النبل التمسك بالفرح الجادّ في عالم لم يكن ملكًا لأيّ منّا أساسًا. إن العالم المبتلى يوزّع نوعًا من الغياب الذي يطلب الشعور به؛ غياب واعٍ بوجودك. حتى على مستوى المرض، لم يكن لدينا شيء جديد نقدمه. أرى أنّ من القسوة المبهمة أن تكون أعراض المرض عبارة عن مجموعة من أعراض أمراض أخرى مختلفة يعاني منها معظم الناس بانتظام. إن العديد منها أعراض نوبة الهلع فعلًا. العالم المبتلى هو عالم مذعور، ولم أشعر أبدًا بأنني أكثر مرضًا وأكثر صحةً في الوقت نفسه في حياتي. إن بساطتها المنيعة، المصحوبة بفتكها الواضح، تجعلنا حمقى خائفين نحارب أجسادنا. عندما انتهى الخيال، بدأت أتصور الحرية الحقيقية الوحيدة المتبقية: الإصابة بالفيروس. ربما يوجد يقين مؤقت وساخر في هذا، فلم يعد موجودًا في كل مكان، وإنما هنا، في الداخل.
لكن ماذا بعد ذلك؟ في نظام يشجع الوحدة، ويعزل الأصحاء، ويقتل المريض وحده، ويمنع الحداد عليه، ويترك حداثة البنية التحتية سليمة، فماذا يمكن للمرء أن يتوقع؟ خطوط الكهرباء مرنة. كل الزجاج في المدينة يبدو كما هو. لا توجد أنقاض تتراكم، ولا جثث. هذا عدو يراقبك، لكنه لا يترك أي أثر.
التوقعات العامة هي أن عام 2020 سيكون عتبة. لم أجد ذلك العام متعفنًا بشكل خاص، ما حدث هو مجرد الكشف عن العفن الموجود أصلًا. لم يكن الوباء طبقةً مضافةً، بل طبقة تمت إزالتها. ما يأتي بعد هذا هو بلا شك أسوأ بكثير. يجب أن نكون قادرين على تخيّل شيء آخر. كتب لاكان في نفس المحاضرة: «العمل هو انتزاع اليقين من القلق». قد نصل إلى وجهة لا يمكن تمييزها عن نقطة المغادرة. ما يأتي بعد عدم اليقين العميق هو عدم جدوى تحمله. هذا جزء من أعظم نكت الوباء: لا شيء بخصوصه له معنى جوهريًا.
*بعض الأفكار التي أعبر عنها في هذا المقال تم تطويرها أو ظهرت في مشروع عملت فيه كفنانة مقيمة في دارة الفنون بين نيسان وحزيران 2020.