الغرب صنيعة العالم: تاريخ اختراع «الحضارة الغربية»

الخميس 07 تشرين الثاني 2024
«مدرسة أثينا» للرسام الإيطالي رافائيل، التي تعد نموذجًا لاستدعاء اليونان القديمة في عصر النهضة، وهي جدارية في القصر الرسولي بالفاتيكان. المصدر: ويكيميديا.

هذا النص هو ترجمة بتصرف لمقدمة كتاب «كيف صنع العالمُ الغربَ: تاريخ 4000 سنة»، الصادر عن دار بلومزبري في لندن، في حزيران 2024. جوزفين كوين هي مؤرخة وعالمة آثار متخصصة في التاريخ الإغريقي والروماني والفينيقي، تدرّس التاريخ القديم في جامعة أوكسفورد.

في تشرين الثاني من كل سنة، أجلس على أريكة في جامعتي لأراجع طلبات القبول، وأقرأ الكلام نفسه بالكلمات نفسها تقريبًا: «أريد أن أدرس العالم القديم لأن اليونان وروما هما جذور الحضارة الغربية».

أتفهّم لماذا يرى بعض طلابي المقبلين الأمور على هذا النحو. فمراجع محترمة، من الموسوعة البريطانية إلى ويكيبيديا، تتحدث عن تطور ثقافة غربية خاصة ومحددة، بُنيت على أفكار اليونان وروما وقيمهما، التي فاتت أوروبا خلال عصور الظلام، لتعيد اكتشافها في عصر النهضة. أحيانًا، تشمل القصة أيضًا أرض الإنجيل وأدبياته، لكن حين تذكر «الحضارات» القديمة الأخرى، إن ذُكرت أصلًا، فإن ذلك يأتي فقط في سياق تراجعها أمام العالم الكلاسيكي، في مسيرة وطيدة للتاريخ والثقافة نحو الغرب.

قد يكون أسلاف الإغريق والرومان مثيرين للاهتمام، بل حتى مبهرين، لكنهم ليسوا «لنا». وأي مساهمة قد قدموها تبدو هزيلة أمام مساهمات اليونان وروما، اللتين تُصوران كمصدر كل الأشياء الحسنة، من الفلسفة إلى الديمقراطية، ومن المسرح إلى الإسفلت. يجري تجاهل جيران الإغريق والرومان بالكامل، ومعهم كل التفاعلات اللاحقة بين الأوروبيين الغربيين والبشر عن شمالهم وجنوبهم وشرقهم.

قد تتوقع أن أتفق مع هذا التصور بوصفي أستاذة في الكلاسيكيات.[1] صحيح أنني وجدت الدراسات الإغريقية-الرومانية غنية ومجزية، وصحيح أن المكانة التي يحتلها الإغريق والرومان في قلب الأفكار السائدة عن «الغرب» هي أحد أسباب بقاء تخصصي هذا حتى الآن. إلا أن ثلاثة عقود من البحث والتعليم أقنعتني أن السردية التي تركز فقط على اليونان وروما تُفقر تصورنا للماضي وفهمنا للعالم الذي نعيش فيه. فالقصة الحقيقية وراء ما يسمى اليوم «الغرب» أكبر بكثير.

فمن جهة، كان للإغريق والرومان تواريخهم الخاصة، التي تمتد جذورها إلى أراضٍ وشعوب أخرى، ومعظم أفكارهم وتقنياتهم هي تكييف لما جاءوا به من أماكن أخرى: فالشرائع والأدب أتوا من بلاد ما بين النهرين، والنحت في الصخر من مصر، وأنظمة الري من أشور، والأبجدية من بلاد الشام. كان الإغريق والرومان مدركين لهذه الحقيقة، وقد احتفوا بها.

أدرك الإغريق أيضًا أنهم يتشاركون البحر الأبيض المتوسط مع غيرهم من القرطاجيين والإتروريين والأيبيريين والعبرانيين، وعاشوا جنبًا إلى جنب مع إمبراطوريات أقوى منهم في الشرق. تربط أساطيرهم الأبطال الإغريق بملوك وآلهة من أراض غريبة، حقيقية ومتخيلة، كالفينيقيين والفريجيين[2] والأمازونيين. أما روما، فصوّرتها أسطورتها المؤسسة كملاذ للاجئين، فيما تخيل الشاعر الروماني كتولوس نفسه مسافرًا مع أصدقائه إلى الهند والجزيرة العربية وفرثية[3] ومصر وحتى إلى «البريطانيين في حافة العالم».

من جهة أخرى، نادرًا ما عبّر الإغريق والرومان عما بات يسمى اليوم «القيم الغربية». في الحقيقة، كثير مما اعتبره هؤلاء القدامى مسلمًا به يبدو اليوم غير مألوف أو مقبول. فالأثينيون مارسوا الديمقراطية بين الرجال حصرًا، وامتدحوا إغراء الغلمان، فيما كانت نساؤهم صامتات ومخفيات. أما الرومان، فاعتنقوا العبودية على نطاق هائل وشاهدوا الإعدامات العلنية على سبيل الترفيه.

أخيرًا، ما من صلة خاصة بين قدامى الإغريق والرومان و«الغرب» المعاصر، أي الدول القومية في أوروبا الغربية، والمستعمرات الاستيطانية التي أنشأتها وراء البحار. فقد انتقلت عاصمة الإمبراطورية الرومانية إلى القسطنطينية في النصف الأول من الألفية الأولى للميلاد، وبقيت لما يزيد عن ألف عام. وفي الأثناء، جمع المسلمون علوم الإغريق والفرس والهنود وآسيا الوسطى، حيث تدفقت تقنيات جديدة في إفريقيا والجزيرة العربية والمحيط الهندي، بينما نقل ملّاحو البحار الشمالية وخيّالة السهوب الأوراسية البضائع والأفكار من الصين حتى إيرلندا.

كان هذا هو العالم الشاسع الممتد من المحيط الهادئ وحتى الأطلسي الذي ورثته دول أوروبا الغربية في القرن الخامس عشر للميلاد، لتصنع منه عالمًا آخر. لكن هذه التفاعلات التي دارت على مدى آلاف السنين باتت منسية إلى حد بعيد، بعدما أُغرقت بأفكار ولدت في الحقبة الفيكتورية، التي صنّفت العالم في «حضارات» منفصلة، وغالبًا متعارضة.

أريد أن أروي قصة مختلفة؛ قصة لا تبدأ في البحر المتوسط في عصر الإغريق والرومان لتظهر مجددًا في إيطاليا عصر النهضة، بل تتتبع العلاقات التي بنت ما بات يسمى اليوم الغرب على مدى آلاف السنين، حيث التقت المجتمعات وتداخلت وأحيانًا تفرقت من جديد. بصورة أعم، أريد أن أحاجج بأن هذه العلاقات، لا الحضارات، هي ما يحفّز التحولات التاريخية.

تشيع الحضارات كطريقة للنظر للعالم لدرجة أنها تبدو كحقائق طبيعية، وكنموذج كوني لتقسيم المجتمع البشري. لكنها في الحقيقة اختراع أوروبي حديث نسبيًا، وهي جزء من ظاهرة أسميها «التفكير الحضاراتي».[4] 

في القرن الثامن عشر، أدت المقولة الإنجيلية بأن أبناء نوح سكنوا الأرض كلها بعد الطوفان العظيم لتعزيز مقاربة شمولية تجاه الماضي، تفيد بأن للبشر كلهم أصولًا مشتركة، وبأنهم ينتمون جميعًا لأسرة واحدة. وقد جلب «اكتشاف» العالم الجديد وانتشار التبشيريين المسيحيين في العالم قصصًا مذهلة عن شعوب جديدة، استدخلت بحرص إلى هذه السردية الإنجيلية.

برزت الحضارة على مرحلتين: أحادية ومتعددة. حين استخدم اللفظ للمرة الأولى في فرنسا في خمسينيات القرن الثامن عشر كان يشير إلى مفهوم مجرد للمجتمع المتقدم. في ستينيات ذلك القرن، اعتمد الفلاسفة الاسكتلنديون المصطلح حين رسّموا مجموعة معيارية من التطورات التي قادت إلى تحقيق الممكنات البشرية، من الصيادين إلى الرعاة إلى المزارعين إلى التجار إلى الصناعيين. فالتطور نحو الحضارة، كما شرح الليبرالي البريطاني جون ستيورات ميل لاحقًا، كان بهذا المعنى مُقاسًا بمدى تبني الزراعة والحواضر والصناعة والتقنية والتجارة.

بهذا المعنى الأحادي، كانت الحضارة نظريًا حالة يمكن لأي مجتمع بشري أن يتطلع إليها عبر قدر كافٍ من الجهد والتعليم، ويمكن ترتيب كل المجتمعات البشرية بناءً على مدى نجاحها في هذا المسعى. لكن عمليًا، كانت أوروبا الغربية هي من يضع المعايير. «هذه العناصر»، يشرح ميل، «متواجدة في أوروبا المعاصرة، وخاصة في بريطانيا العظمى، بدرجة أوضح وفي حالة تطور متسارع أكثر من أي مكان أو زمان آخر».

وفّر هذا المفهوم المجرد للحضارة دعمًا مفيدًا للإمبريالية الأوروبية الغربية. تبنى ميل، الذي عمل في شركة الهند الشرقية البريطانية لأكثر من ثلاثين عامًا، الرأي القائل بأن المجتمعات المتحضرة اكتسبت الحق بالحرية والسيادة، وهو حق لم تمتلكه نظيراتها الأقل تطورًا. لذا، كان عليها واجب مساعد المجتمعات الأخرى في مسيرتها على الطريق نفسه، لكن كما قال ميل عام 1859، فإن «الطغيان هو نمط مشروع من الحكم عند التعامل مع الهمج، في حال كانت الغاية هي تطويرهم».

على مدى قسم كبير من القرن التاسع عشر، لم تكن هناك «حضارات»، بل «حضارة»، ويمثل رأي ميل ذروة هذه المرحلة الأولى من التفكير الحضاراتي. بالنسبة إليه، إن كان بالإمكان تصنيف الحضارات، فإن ذلك يتم فقط من حيث الدرجة.

لكن في الفترة التي نشط فيها ميل، كانت كونية التنوير وفكرة التقدم التاريخي المستمر تتراجع لتحل محلها الخصوصية والنسبية الثقافية، وكان بعض الكتاب قد بدأوا بالفعل باستخدام صيغة الجمع من «الحضارات» لوصف مجموعات بشرية محددة في أماكن معينة لها تواريخها المختلفة وخصائصها الدائمة، التي يحدث التطور وفقها كعملية داخلية مولّدة ذاتيًا.

عام 1828، قدم المؤرخ والسياسي الفرنسي فرانسوا جيزو سلسلة محاضرات في جامعة السوربون حول «التاريخ العام للحضارة في أوروبا». في أولى تلك المحاضرات، ناقش «الحضارة العامة للعرق البشري ككل». لكن في المحاضرة الثانية، انتقل للحديث عن «الحضارات»، أي الحالات الفردية لهذه الحضارة العامة، خاصة تلك التي سبقت الحضارة «الأوروبية»، والتي كان لكل منها طبعها الخاص، بحسب جيزو: «حين ننظر للحضارات التي سبقت أوروبا الحديثة، من المستحيل ألا نندهش من وحدة ماهيتها.. إذ تبدو كل منها وكأنها انبثقت من حقيقة واحدة، من فكرة واحدة.. سادت بشكل شامل وحددت طبيعة مؤسساتها وعاداتها وآرائها». في مصر مثلًا، كانت تلك الفكرة هي الثيوقراطية، وفي فينيقيا، كانت التجارة.

وضع ذلك تلك الحضارات على مسارات مختلفة عن الحضارة «الأوروبية في جوهرها» في عصر جيزو، التي تشاطرتها إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا، والتي تميزت بالتعقيد والحرية: «بينما نتج الطغيان عن هيمنة مبدأ واحد في كل مكان آخر، فإن تنوع عناصر الحضارة الأوروبية، والحرب المستمرة التي انخرطت فيها، قادا أوروبا إلى ولادة تلك الحرية التي نقدرها بشدة». تمثلت هذه العناصر المتعددة، في نظر جيزو، في الكنيسة المسيحية، والرومان، و«الهمج الأجلاف في ألمانيا» الذين خلفوهم.

يوضح هذا جانبًا آخر من جوانب التفكير الحضاراتي الأوروبي، وهو البحث عن أسلاف ثقافيين أصليين. فقد اتجه البعض، مثل جيزو، نحو ألمانيا وروما والكنيسة الرومانية. أما آخرون، فقد شجّعهم الدعم الأوروبي «الهليليني» لحرب الاستقلال اليونانية عن الأتراك العثمانيين (1821-1830) للاتجاه نحو اليونانيين. ويعبر بدقة عن هذا النهج الادعاء المذهل الذي قدمه جون ستيوارت ميل نفسه عام 1846 بأن هزيمة أثينا للفرس في معركة ماراثون[5] كانت إحدى أهم الأحداث في التاريخ الإنجليزي:

إن الأسلاف الحقيقيين للأمم الأوروبية ليسوا من تنحدر هذه الأمم من دمائهم، بل أولئك الذين تستمد منهم الجزء الأغنى من إرثها. إن معركة ماراثون، حتى باعتبارها حدثًا في التاريخ الإنجليزي، أهم من معركة هاستينغز.[6] ولو كانت أحداث ذلك اليوم مختلفة، لكان ممكنًا أن يكون البريطانيون والساكسونيون اليوم هائمين في الغابات.

بصرف النظر عن تفضيلاتهم بين النماذج التاريخية، ركز المثقفون الأوروبيون في القرن التاسع عشر بشكل متزايد على «الحضارات» بدلًا من «الحضارة»، وعلى تحديد وتصنيف السمات الثقافية المتأصلة في المجتمعات كل على حدة، بدلًا من التقدم نحو مثال إنساني مشترك. لم تكن الثقافات في هذا المنظور منفصلة تمامًا عن بعضها فحسب، بل كانت لها أيضًا سقوف طبيعية تحد تطورها. وبمرور الوقت، ساعد ذلك في تبرير أشكال أقسى من الحكم الإمبراطوري لمن نُظر إليهم في ذلك الوقت على أنهم شعوب مختلفة ودونية بشكل جوهري. وبذلك، لم تعد للإمبراطورية غاية طبيعية.

بطبيعة الحال، لم يكن التمييز بين الشعوب المختلفة أمرًا جديدًا، كما لم يكن اكتشاف البعض بأن سمات القبيلة التي ينتمي إليها كانت -بمحض الصدفة- الأكثر جاذبية موضوعيًا. لكن بناء تصنيف شامل للثقافة البشرية كان بالفعل أمرًا جديدًا. وقد شجع عليه مفهوم شعبي آخر ظهر في الوقت نفسه تقريبًا، مفاده أن البشر يمكن تقسيمهم إلى «أعراق»، تختلف في قدراتها الطبيعية وذكائها، وأن تطورها كان مقررًا ـأو مقيدًاـ بهذه الخصائص البيولوجية الفطرية. ثم صُنّفت هذه الأعراق في مجموعة من الأنظمة المحددة باللون، وضعت الأستراليين [الأصليين] في أسفل القائمة، يليهم الأفارقة والشرق-آسيويون على الترتيب، والأوروبيين في القمة.

لكن فكرة الحضارة الأوروبية كانت ما تزال إشكالية. إذ رأى العديد من المستوطنين الأوروبيين في الولايات المتحدة الجديدة أن الثورة الأميركية كانت بمثابة قطيعة واضحة مع العالم القديم. وفي الوقت نفسه، كانت المخاوف بشأن روسيا تلوح في الأفق على نحو متزايد بين من بقوا في أوروبا. لذا، كان «الغرب» بديلًا جذابًا، فهو مفهوم أشد مرونة يمكن استخدامه إلى جانب مفهوم أوروبا أو بدلًا منه. ويمكن أن يشمل قدرًا من أوروبا تحدده الأهواء، ويمكن أن يمتد إلى المستعمرات الاستيطانية الأوروبية وراء البحار.

عمل هذا «الغرب» جنبًا إلى جنب مع مفهوم مرن بالقدر نفسه عن «الشرق». ففي القرن التاسع عشر، مثّلت الحدود بين المفهومين في كثير من الأحيان دلالة على الانقسامات السياسية داخل أوروبا نفسها. عام 1834، وصف وزير الخارجية البريطاني الفيسكونت بالمرستون التحالفَ بين بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا بأنه «حلف بين الدول الدستورية في الغرب» و«قوة مضادة للحلف المقدس في الشرق»: روسيا وبروسيا والنمسا. ويظهر تناقض مشابه في المناقشات الداخلية الروسية بين «المتّغربين» و«محبي السلاڤ».

بالتمييز الثنائي ذاته، يمكن أن نقارب العرق والدين، وليس فقط على طول الحدود بين أوروبا وآسيا. عام 1896 نشر إدوارد فريمان، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة أكسفورد، كتابًا بعنوان «تاريخ صقلية»، أقام فيه التناقضات الأساسية ذاتها بين سكان الجزيرة القدماء من اليونانيين والفينيقيين، ولاحقًا بين سكانها المسيحيين والمسلمين:

كان لا بد من الخوض في مسألة.. ما إذا كانت الجزيرة الوسطى في البحر الأوسط يجب أن تنتمي إلى الغرب أم إلى الشرق، إلى رجال من أصول الآرية أم سامية. وكما يحدث دومًا عندما ينزل رجال من أصول سامية إلى الميدان، فإن الصراع بين المعتقدات جعل الصراع بين الأجناس أشد حدة منذ البداية. كان لا بد من حماية صقلية أو الظفر بها، باعتبارها موقعًا متقدمًا لأوروبا، أولًا من الفينيقيين ثم من الساراسين.[7]

شيئًا فشيئًا، اجتمع التفكير الحضاراتي و«الغرب» في مفهوم «الحضارة الغربية» التي تتميز بالديمقراطية والرأسمالية والحرية والتسامح والتقدم والعلم. كانت هذه الحضارة مسيحية في الأساس، وتستند إلى التقاليد التوراتية، ولكن الكنيسة اللاتينية والعهد اليوناني الجديد ساعدا في نسج اليونان وروما في قلب القصة. وبحلول عام 1912، كان المحاضر في جامعة كامبريدج ج. ​​س. ستوبارت يعمل بفخر على كتابه الشهير «العظمة التي كانت روما»، ليرافق كتابه الذي صدر عام 1911 بعنوان «المجد الذي كان اليونان»، ليقول: «تقف أثينا وروما جنبًا إلى جنب كأبويْ الحضارة الغربية».

استمرت الحدود المتخيلة للحضارة الغربية في التحول في القرن العشرين. فقد رسم «الستار الحديدي» الذي امتد عبر أوروبا عام 1945 حدودًا جديدة مع النفوذ الروسي، وأصبح «الغرب» نقطة التقاء للتحالف بين الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية. ثم ساعدت أحداث أيلول 2001 في إعادة تنظيم الشرق ليصبح مرادفًا العالم الإسلامي. لكن في الوقت الذي أكتب فيه هذا الكتاب، فإن الحرب في أوكرانيا تعمل على تعقيد الصورة مرة أخرى.

تغيرت الطريقة التي يكتب بها الناس عن الحضارات أيضًا. فبحلول منتصف القرن العشرين، باتت الترتيبات الهرمية الواضحة بالية، وحلت محلها دراسات اتخذت نهجًا محايدًا في الظاهر، لتقارن الحضارات المختلفة بدلًا من تصنيفها، لكنها ظلت تنظر إلى الحضارات بوصفها منفصلة. عام 1963، نشر المؤرخ الفرنسي الكبير فرناند بروديل كتابًا مدرسيًا بعنوان «تاريخ وقواعد الحضارات»، حاجج فيه بأن لكل «حضارة» شخصيتها الخاصة، فضلًا عن «لاوعْيها الجماعي» الخاص. وكان منفتحًا على فكرة أنها مسامية على المستوى السطحي: «للوهلة الأولى، تبدو كل حضارة بالفعل مثل ساحة نقل البضائع، حيث تتلقى وترسل باستمرار شحنات متنوعة». ولكن الاختلافات بينها ظلت «تمثل خصائص دائمة إلى حد ما»، «تكاد تكون غير قابلة للتغيير التدريجي».

بعدها بجيل، شهدت نهاية الحرب الباردة ولادة حياة جديدة للتفكير الحضاراتي. عام 1996، اعتبر عالم السياسة بجامعة هارفارد صمويل هنتنغتون أن الحضارات هي السمة التي تحدد العصر الجديد، وأن الفوارق الأهم بين الناس باتت ثقافية ودينية لا سياسية أو اقتصادية. حدد هنتنغتون تسع حضارات معاصرة تحمل تسميات جغرافية ودينية، شملت الحضارة «الغربية» التي تمتد إلى الستار الحديدي القديم، وحضارات أخرى خلفه «أرثوذكسية» و«إسلامية». الأهم هو أن هذا الوضع مثّل بالنسبة له حالة إنسانية دائمة: «التاريخ البشري هو تاريخ الحضارات. ومن المستحيل أن نفكر في تطور البشرية بأي مصطلح آخر». وعلاوة على ذلك، «خلال معظم الوجود البشري، كانت الاتصالات بين الحضارات متقطعة أو غائبة تمامًا».

في هذا التصور، تنمو كل ثقافة مثل شجرة فردية، بجذورها وفروعها المختلفة تمامًا عن جذور وفروع جيرانها. تظهر كل منها وتزهر ثم تذوي، وتفعل ذلك بمفردها إلى حد كبير. النمو والتغيير هما نتيجة التطور الداخلي، لا الصلات الخارجية. وقد تغير الحضارات أسماءها وفق هذا النموذج، لكنها لا تغير طبيعتها.

في القرن الحادي والعشرين، لا تزال هذه الطريقة في التفكير سائدة، مميزةً «الغرب»، ذا الثقافة المسيحية ذات الجذور اليونانية الرومانية أو حتى «الهندو-أوروبية» السابقة، عن «الشرق»، سواء كان مركزه روسيا أو الصين أو الإسلام. وحتى المفاهيم الليبرالية عن «التعددية الثقافية» تفترض وجود، بل وقيمة، «الثقافات» المتمايزة كنقطة انطلاق. لقد أصبح التفكير الحضاراتي حقيقة حضارية.

عاد التصنيف التراتبي إلى الموضة أيضًا. في نسخته الأكثر إيجابية، تتخذ فكرة الإرث الغربي الخاص، المبني إلى حد كبير على القيم اليونانية والرومانية، من أثينا القديمة نموذجًا للمشاركة السياسية والتعبير الإبداعي وحرية التعبير. ولدى هذه الفكرة أبطال جدد في التعليم العالي أيضًا، مثل «مراكز رامزي للحضارة الغربية» التي افتتحت في ثلاث جامعات أسترالية رئيسية منذ عام 2020. وفي مجالات أخرى، يستدعي المتطرفون، الذين يرتدون خوذات إسبارطية أو يشمون أنفسهم بشعارات رومانية، القيمة الجوهرية للإرث الأبيض الغربي والأوروبي، تحت تهديد «الاستبدال العظيم» من الخارج.

من السهل صرف النظر عن فكرة الجذور اليونانية والرومانية للغرب الحديث باعتبارها فكرة بالية، ومن المؤكد أنك لن تجدها في الدراسات الحديثة الجادة، أو حتى في كثير من الكتب المدرسية النظامية. لكنها لا تزال موجودة، وتزداد شعبيةً، وهي جزء من مشكلة أكبر. يرسّخ التفكير الحضاراتي افتراضًا بوجود اختلاف دائم ومعبّر بين المجتمعات البشرية، وهو ما يمكن أن يسبب ضررًا حقيقيًا. يموت الناس على أيدي المتعصبين للغرب الأبيض، فيما يظهر تفاوت المواقف في بعض البلدان الأوروبية تجاه اللاجئين الفارين من الحروب في سوريا وأوكرانيا قوة الاستثنائية الحضارية في محو المعاناة الإنسانية.

لقد دُحض النموذج القديم لـ«الأعراق» البيولوجية الثابتة المنفصلة أخيرًا عبر العلوم الوراثية. يرتبط البشر جميعًا ببعضهم ارتباطًا وثيقًا. بالطبع، تتزايد الاختلافات الجينية بين مجموعات الأشخاص الذين يعيشون بعيدًا عن بعضهم البعض بمرور الوقت. ولكن التطورات الأخيرة في جمع ودراسة الحمض النووي القديم كشفت أن المجموعات المتقاربة جينيًا التي يمكن توزيعها على خريطة العالم اليوم مختلفة تمامًا عن تلك التي كانت موجودة حتى في الماضي القريب نسبيًا، فهي عبارة عن لقطة واحدة من عملية بشرية مستمرة من الاتصال والتبادل.

لقد سافر أسلافنا كثيرًا، وسافروا مسافات طويلة، وكثيرًا ما التقوا بأشخاص جدد. فالهجرة، والتنقل، والاختلاط هي أمور متأصلة في التاريخ البشري. وكما قال عالم الوراثة في جامعة هارفارد ديفيد رايش، فإن الشجرة «تشبيه خطير للمجموعات البشرية. لقد علمتنا ثورة الجينوم أن امتزاج المجموعات السكانية شديدة التباعد أمر حدث مرارًا وتكرارًا. فبدلًا من الشجرة، قد تكون الاستعارة الأفضل هي العريشة التي تتفرع وتختلط منذ الماضي البعيد».

لقد حان الوقت لتقديم حجة مماثلة حول الثقافة البشرية، فالتفكير الحضاراتي يزيف قصتنا بشكل جوهري. الثقافات المحلية المميزة تأتي وتذهب، ولكنها تنشأ وتستمر عبر التفاعل. إنني أحاجج بأنه لم تكن هناك قط ثقافة غربية أو أوروبية خالصة واحدة. إن ما يسمى بالقيم الغربية ليست غربية فقط أو غربية المنشأ، والغرب نفسه في جزء كبير منه نتاج روابط طويلة الأمد مع شبكة أكبر كثيرًا من المجتمعات، إلى الجنوب والشمال وكذلك إلى الشرق. وبالتأكيد، لم تكن هذه التفاعلات دومًا إيجابية أو سلمية، بل إن أكبر التحولات قد تحدث في أوقات الاضطرابات الكبرى والحروب.

تفصل حوالي أربعة آلاف عام بين ثورتين تحددان الفترة التي أدرسها في بحثي في تاريخ الغرب: الإبحار في المياه المفتوحة عبر البحر الأبيض المتوسط، وتطوير الملاحة الجديدة التي وسعت الأفق الغربي بشكل كبير. خلال جزء كبير من هذه الفترة، كانت أوروبا هامشًا لشبكات ثقافية وتجارية وسياسية أكبر، إلى أن بدأت الدول البحرية في أقصى الغرب في إنشاء عالم أطلسي جديد تحت السلطة المسيحية؛ عالم كان أكثر ترابطًا عبر مسافات أطول، لكنه عزز إيديولوجيات جديدة تكرس التباعد والانفصال.

خلال هذه الفترة، كان البشر يسافرون من أجل التجارة والدبلوماسية والازدهار والمغامرة والنهب. ولم يكونوا مقيّدين بمفاهيم الحضارات، بل بالحواجز الحقيقية المتمثلة في الصحاري والجبال والبحار. لكنهم لم يرضوا بالبقاء وحيدين، بل تغلبوا على تلك الحواجز.

  • الهوامش

    [1] يقصد بالكلاسيكيات دراسة اليونان وروما القديمتين، في مجالات الأدب والتاريخ والفلسفة وغيرها.

    [2] شعب فريجيا، وسط غرب الأناضول، حكموا آسيا الصغرى بين القرن الثالث عشر والسابع قبل الميلاد.

    [3] فرثية إمبراطورية حكمت جزءًا كبيرًا من إيران والعراق بين القرن الثالث قبل الميلاد والثالث بعد الميلاد، وتعرف أيضًا بالإمبراطورية الأرسكيدية نسبة لمؤسسها أرساكيس الأول.

    [4] Civilisational Thinking، تُرجمت إلى التفكير الحضاراتي لا الحضاري على الصيغة القياسية في النسب للمفرد، تجنبًا للخلط مع Civil.

    [5] معركة وقعت عام 490 قبل الميلاد في سهل ماراثون قرب أثينا، نجح فيها الإغريق من صد محاولة الفرس لغزو اليونان.

    [6] معركة وقعت عام 1066 للميلاد قرب بلدة هاستينغز جنوب شرق إنجلترا، انتصر فيها الجيش النورماني-الفرنسي بقيادة ويليام، دوق نورماندي، على الجيش الأنغلو-ساكسوني بقيادة الملك هارولد، ليبدأ معها عصر الغزو النورماني لإنجلترا.

    [7] ساراسين أو ساراكين هو لفظ استخدمه الرومان للإشارة لسكان الصحراء، ثم بات يستخدم أوروبيًا للإشارة للعرب، ثم للمسلمين عمومًا، خاصة خلال الحملات الصليبية. توجد روايات مختلفة حول أصل الكلمة، منها ما يقول إنها تعود لجذر «شرق» بالسريانية، للإشارة للمشارقة عمومًا، ومنها ما يرد الكلمة لـ«سرق» بالعربية، وبالأخص للاسم «سرّاقين».

Leave a Reply

Your email address will not be published.