من بسطة صغيرة في سوق دير البلح في قطاع غزة، اشترى سهيل سالم أقلام حبر وقلم رصاص ودفتر أونروا مدرسي. في الصفحة الأولى رسمَ بالحبر الأزرق الجافّ بنفسجةً تريد أن تصير وردة، بشجاعة «لم تتجرأ للإقدام عليها أخواتها من زهرات البنفسج»، مُستندًا لبنفسجة جبران خليل جبران الطموحة. بهذا الرسم يرى سهيل غزة، بشجاعتها الكبيرة وعدم التفاتها للخذلان والتخويف من حولها. «هذه الطريقة التي أُعيد فيها النظر للحدث الكبير في السابع من أكتوبر. إنه البنفسج الطموح. هو استراق عودة للوطن ولو ليوم أو ساعات أو دقائق، مهما كانت التكلفة».
ستة دفاتر مدرسية يحمل كل منها ما يقارب الخمسين رسمًا، كانت نصيب الفنان سهيل سالم من المعرض المُشترك «تحت النار» المُقام بدارة الفنون في عمّان، والذي يعرض أعمال لأربعة فنانين من غزة هم سهيل سالم ورائد عيسى وباسل المقوسي وماجد شلا. أنتجوا أعمالهم الفنية تحت نار العدوان الإسرائيلي بما أتيح لهم من مواد شحيحة في ظل الحرب والحصار.
عاش سهيل كل تجارب النزوح والتهجير والقصف. اعتقله الجيش من مكان إقامته في الرمال الجنوبي، وفصله عن أسرته بعد أن أجبرهم على النزوح دونه إلى الجنوب. حقق معه الجنود وهو مُكبّل اليدين معصوب العينين. كتبوا على جبينه رقمًا بالعبرية لا يعرف كيف يقرأه، تهامس الرجال المُحتجزون من حوله عن معنى هذا الرقم، وإذا ما كان يعني بأن الجيش سيقتله أولًا. بعد ساعات طويلة من تحقيقات لم يعرف سهيل خلالها مصيره، أطلق جيش الاحتلال سراحه ليمشي ما يقارب السبع ساعات بحثًا عن عائلته دون أي دليل أو وسيلة تواصل، قبل أن يهتدي لمكانهم في دير البلح. في وقت ما كانت فكرة الرسم بنظره تبدو سخيفة ومُضحكة. ماذا يرسم الإنسان في ظرف كهذا، ولماذا يرسم أساسًا؟ «كان دماغي متضرر فعليًا.. صوت القصف شغال براسي طول الوقت». لكن سرعان ما عادت محاولات الرسم من جديد عند شعوره بالحاجة لتفريغ مخزون بصري من البؤس حفظه في عقله منذ بداية الحرب. كان أشده قسوة مروره مُجبرًا فوق جثث الشهداء خلال النزوح.
لوحة البنفسجة الطموحة لسهيل سالم. المصدر: دارة الفنون، مؤسسة خالد شومان.
عندما يرسم، يقول سهيل، يحاول الانفصال عن محيطه المُكتظ بالنازحين من خلال الاستماع للأخبار على الراديو بأعلى صوت. يرسم المقاومة والشهداء ورفاقه الجدد بعد النزوح. كما يرسم أحلام التحرير ودخول المسجد الأقصى.
اليوم، يختلف أسلوب سهيل بالرسم بشكل كبير عن أسلوبه قبل الحرب، فقد تحوّلت اللوحات التعبيرية الكبيرة، المليئة بطبقات الألوان التي كان يرسمها على مهل، إلى خطوط صغيرة حادة ومضطربة تختزل الخوف والغضب في مساحة الدفتر الضيقة. يعتبر سهيل أن رسوماته اليوم تُعبر عن واقع حياة البشر في غزة، ضيقة ومُختصرة، سريعة لا مكان فيها للتفكير والتخطيط الطويل. لكنه يستمر بالرسم بكل الأحوال، فالرسم هو محاولته الجادة للحفاظ على إنسانيته أمام محاولة الجندي سلبه إياها، بطبعه رقمًا على جبينه.
لوحة حديثة لسهيل سالم من المعرض. المصدر: دارة الفنون، مؤسسة خالد شومان.
لوحة قبل الحرب لسهيل سالم.
من المُنطلق ذاته يعمل زميله باسل المقوسي. منذ بداية الحرب رفع شعارًا واحدًا ردده كل يوم في وجه العالم «أرسم لأبقى مستيقظًا وحساسًا.. أرسم حتى لا تزيل الحرب إنسانيتي». بقرارٍ واعٍ يقول باسل إنه سيكون اليد الناعمة للمقاومة، يُنظم ورش الفن والرسم للأطفال والنساء في خيم النزوح، ولذا لم تعد خيمته في رفح مكانًا للنزوح فقط، بل اعتبرها إقامة فنية فُرضت عليه، وبرنامجه الفني الجديد الذي نفذ من خلاله 45 ورشةَ رسمٍ للأطفال وذويهم، مُلبيًا رغبته المُلحة بتجميع الأطفال في ورشة رسم أملًا في أن يرى ابتساماتهم الحقيقية بعيدًا عن طوابير تجميع المياه والمخابز. وفي ذات الخيمة أنتج باسل مجموعة من الأعمال الفنية التي وصلت للمعرض شكّل الدمار والنزوح الهوية الرئيسية لها.
في لوحات المقوسي، شخوص تحمل في ملامحها الارتياب والذعر. في بعض الأعمال نرى السماء المليئة بطائرات العدو، وإن لم تظهر في بعضها الآخر تُوجّهِنا لها نظرات الأشخاص في اللوحات، وهي ترفع رؤوسها للسماء بترقب، لتدلنا من جديد على السماء كمصدر رئيسي للخطر.
تشترك أعمال المقوسي بخلفية مُشتتة بتدرجات اللون الرمادي، مثلت خيام النازحين مرة والردم والدمار مرات كثيرة. تُعزز مادة الفحم على الورق الشعور بالتشتت والضياع في الأعمال. هذا ما أكده الفنان من خلال حديثه حول استمراره بالرسم بالفحم الأسود بتدرجاته، رغم تمكنه -بصعوبة- من شراء عدد من الألوان في بداية الحرب. الأسود برأيه هو صورة أوضح عن الواقع اليوم في غزة.
المقوسي وهو فنان بصري ومصور، كباقي الفنانين المُشاركين بالمعرض، له العديد من المُشاركات العربية والدولية، وحاصل على جوائز وإقامات فنية عديدة. إلا أنه فقد أرشيفه الفني كاملًا بفعل القصف خلال هذه الحرب، والذي بناه منذ العام 1995. تحتل أعماله التي ينتجها الآن أهمية كبيرة في وجدانه، باعتبارها كل ما تبقى له من فنه، ولذا يحطيها بعناية شديدة، ويغلفها بأكياس نايلون مع كل نزوح جديد ليحافظ على ثبات مادة الفحم على الورق. ومن هنا تأتي أهمية معرض «تحت النار»، حيث لا يقدم أعمال الفنانين كطريقة لنقل حالة انفعالية وإنسانية كاملة من غزة إلى خارجها فحسب، بل ليحافظ أيضًا على جزء -وإن كان قليلًا- من أعمال فناني غزة ويُؤرشف لهذه المرحلة المفصلية من حياة المواطن الغزيّ والفلسطيني بشكل عام.
أمّا كيف شقّت أعمال المقوسي وغيره من الفنانين طريقها للمعرض، فيقولون إن هذه العملية كانت أصعب من عملية الرسم ذاتها، والتي تقطعها محاولات الفنانين تجاوز الصعوبات النفسية، وحالة عدم الاستقرار المستمرة، والموت الحاضر في الأجواء دومًا، ومن ناحية أخرى مساعيهم الدائمة لتلبية متطلبات الحياة الأساسية؛ لهم ولأسرهم. تحدث الفنانون عن أن الفكرة بدت لهم مستحيلة في البداية، إذ كانوا قد طلبوا من الكثير من الأشخاص المغادرين لغزة عبر معبر رفح أن يحملوا معهم بعض الأعمال الفنية، لكن الرفض كان سيد الموقف مِرارًا. رفضٌ تفهمه الفنانون، إذ عند المرور بالمعبر ينبغي عليك حمل الأوراق الثبوتية والأساسيات فقط، ناهيك عن التفتيش الذي يتعرّض له المسافرون. وبعد محاولات عديدة، تمكنوا من إخراج بعض الأعمال بطرق مختلفة.
مجموعة من أعمال باسل المقوسي. المصدر: دارة الفنون، مؤسسة خالد شومان.
يشترك الفنانون الأربعة بتجربة فنية واحدة جمعتهم في دارة الفنون بين الأعوام 1999 و2003، حين تتلمذوا على يد الفنان السوري مروان قصاب باشي في الأكاديمية الصيفية للدارة. أثّرت التجربة بشكل كبير على عدد من الفنانين في كل من فلسطين والأردن وسوريا ولبنان والعراق. أسس فيها قصاب باشي لجيل هامّ من الفنانين المُمارسين بفعالية بالمشهد الفني العربي اليوم، وأولى اهتمامًا خاصًا للفنانين الغزييّن منهم. يصف الفنان رائد عيسى هذه التجربة بأنها تركت تأثيرًا كبيرًا على مسيرته كفنان؛ أولًا لكونها أول مشاركة عربية له، ثانيًا لكونها على يد قصاب باشي الفنان صاحب التجربة الفريدة والخبرة العالية. بحسب رائد فقد بنت هذه التجربة صداقته المتينة مع زملائه في هذا المعرض، وما زالوا يحافظون على هذه الصداقة الآن في ظروف مختلفة تمامًا، فجميعهم خارج بيوتهم ومراسمهم، لكنهم يجتمعون للحديث عن الفن ومعاناة الحياة اليومية كلما سنحت لهم الفرصة.
عرضَ رائد في هذا المعرض أعمال فنية شكلت تسجيلًا يوميًا لمشاهد من حياة الناس اليومية، يراها في الخيمة والسوق والشارع. مشاهد من قبيل قدوم سيارة الماء وتحشّد الناس حولها، في ذلك المشهد يلمح رائد الطفل محمد وهو يُسرع خطواته الصغيرة إليها، سعيًا لتغطية احتياج أسرته من الماء لهذا اليوم، وطمعًا باستراق كأس شاي صغير بما يتبقى من الماء. في المساء يحوّل رائد هذا المشهد إلى رسم صغير بالرصاص والفحم. وكذلك حين يرى الطفل الذي وُلِد مع بداية الحرب وبدأ يخطو خطواته الأولى في الخيمة، والأم التي تحتضن ابنتها وتسرد لها قصصًا من أيام أكثر حنانًا وحياة بلا خيمة. هي مشاهد يلمحها رائد يوميًا في واقع جديد فرضته الحرب. يعيد طرحها لنا بسرد بصري لقصص نفهمها بشكل أفضل من خلال عينيه.
لوحات وجوه من بلدي لرائد عيسى. وقد رسمت اللوحات على كرتون علب الأدوية والمواد الطبية. المصدر: دارة الفنون، مؤسسة خالد شومان.
لعب شح المواد دورًا أساسيًا في تشكيل أعمال رائد. فبعد أن فقد الأمل بالعثور على أيٍ من الأدوات للرسم قرر إنتاج فنه بالاستعانة ببعض حبيبات الرمان والكركديه وأكياس الشاي بدائل عن اللون، واستعان بأغلفة الأدوية والمواد الطبية ورقًا للرسم. باستعمال هذه المواد رسم مجموعة صغيرة من لوحات البورتريه منحها عنوان «وجوه من بلدي».
مع الحرب، تغيرت الطريقة التي يرى فيها الفن، ومعها صار يصف الفن بأنه مقاومة وإصرار أكثر من كونه مجرد تفريغٍ انفعالي. يقول: «دمرت الحرب كل إشي إلا روحنا القوية». أمّا جمهوره الآن فهم عامة الناس والشعوب حول العالم، بعيدًا عن المُتذوقين والمُقتنين. وهدفه إيصال صورة عن هذا الكابوس، على أمل أن يتخلى العالم عن صمته.
في المعرض ذاته يعرض ماجد شلا أعمال مرسومة وفيديو قصير وثقه بكاميرته الخاصة لمُلهمه الأول، بحر غزة، حمل عنوان «هذا البحر لي». استعمل شلا الرسم آلية دفاع نفسية في بداية الحرب حاول من خلالها الانسحاب من الواقع الوحشي عبر العودة لرسم صور يألفها ويحبها بألوان زاهية. رسم الصبار مُزهرًا على شباك مرسمه المحروق، وطيورًا في سماء مُلونة. يصف شلا هذه الحالة بأنها محاولة لكسر تقييد يديه وعجزه عن إنتاج الفن. كانت هذه الطريقة فعّالة، فقد عاد مُجددًا للرسم بسلاسته المُعتادة. خط بالأسود مشاهد للنزوح والقيد والخيمة أعادته للتجذر في واقعه الحالي من جديد، ونقلته من حالة الخوف إلى الوعي. منذ سنوات أسس شلا مع زميله المقوسي وفنانين آخرين مساحة شبابيك للفن المعاصر، والتي دمرها الاحتلال مع مساحات ثقافية أخرى في غزة. كانت هذه المساحات نافذة للعديد من الفنانين الشباب، ولعبت دورًا هامًا في تطوير مهاراتهم وتقديمهم لجمهور واسع في غزة والعالم، وفقدانها جزء من تغيير أكبر تُحدثه الحرب على مشهد الفن في غزة. لا يقتصر هذا التأثير على فقدان حاضنات المواهب فحسب، بل يتجاوزه لتدمير وإخفاء مجموعة كبيرة من الأعمال التي وثقت عشرات السنوات الماضية من الحياة في غزة. يصف سهيل سالم هذا التغيير بقوله إن العمل الفني يُنتج في ظروفه ولا يمكن إعادة إنتاجه في ظروف مختلفة؛ فإنتاج عمل فني هو أكثر من مجرد توزيع لون على مساحات فارغة، بل هو حالة من التراكمات الداخلية التي يُعبر عنها الفنان كصورة مُصغرة عن حالة شعبه الذي ينتمي له ليعبر عن طموحاته وآماله وآلامه.
مجموعة من لوحات ماجد شلا. المصدر: دارة الفنون، مؤسسة خالد شومان.