عندما تفتح كتابًا وتقرأه لكأن فجوةً في قلب الصفحة قد اتسعت فجأةً لتدخل منها إلى عالم اَخر. وحين تنتهي من القراءة تعود من الفجوة ذاتها وتُطبق دفتي الكتاب. هكذا تخيّلتُ القراءة دائمًا منذ كنت صغيرًا. إنها باختصار هروب من مجهول المعرفة إلى عوالم مجهولة.
على مدى قرون، كانت الكتب بمثابة بوابة للإنسان نحو المجهول ومساحة يمكن للخيال أن يتجول فيها دون قيود من حدود الزمن أو الوسائط. كانت القراءة تتطلب نوعًا من الانغماس البطيء في عالم آخر، حيث تتكشف الشخصيات والأفكار تدريجيًا. لكن في عالم اليوم ، حيث تومض الشاشات بمحتوى لا نهاية له، في عصر الـ«ريلز»، تلك الفيديوهات القصيرة التي تتكرر بلا نهاية على هواتفنا، وتقدم لنا الإثارة السريعة والضحك ونتفًا من العالم، تشكلت ثقافة جديدة من الاستهلاك؛ سريعة لا هوادة فيها ومصممة لعقل دائم الحركة. في هذه الدوامة من ملامسة إصبع السبابة للشاشة يبدو فعل الجلوس مع كتاب انفصالًا جذريًا عن العالم.
إدمان الـ«ريلز»
إن قوة القراءة منذ ظهورها كممارسة إنسانية كانت تكمن في تحقيقها المتعة أو الفضول لكل من يمارسها، وذلك ما جعلها مستمرةً وقويةً ومتطورة بتطور الحضارة. لكن العصر الرقمي أعاد تشكيل كيفية تفاعلنا مع القصص والأفكار ومع المتعة نفسها، فلم نعد بحاجة إلى الخوض في صفحات طويلةٍ وعميقةٍ من الكتب للوصول إلى قلب القصة، بل تصل القصة إلينا مكثفةً ومقطّرةً في بضع ثوانٍ جذابة، مع الموسيقى والتعليقات التوضيحية لمنع انتباهنا من الانجراف. حيث تُجسّد الـ«ريلز» الإشباع الفوري في مقطع فيديو معبأ بشكل مثالي، وجاهزة للاستهلاك والنسيان بالسرعة نفسها الذي ظهر بها. لماذا نقرأ بينما يمكننا المشاهدة؟ لماذا نستثمر ساعات في رواية أو كتابٍ بينما تقدم لنا بضع مقاطع قصيرة القصصَ في لحظات؟
لا يتعلق الأمر بقراءة الكتب فحسب، فقد أصبح المجتمع المعاصر يركز بشكل متزايد على الإشباع الفوري؛ سواء كان ذلك من خلال بث مسلسل تلفزيوني أو توصيل الطعام في غضون دقائق، أو تصفح منشورات لا نهاية لها على وسائل التواصل الاجتماعي. ومعه اعتاد الناس الحصول على جرعات سريعة من المتعة والرضا. في المقابل تتطلب قراءة كتاب الجهد والصبر لمتابعة قصة أو تطوير فهم لموضوع معقد. إن مكافآت القراءة مثل زيادة المعرفة أو النمو الشخصي أو التطور الروحي، ليست فورية أو سهلة المنال مثل جرعة المتعة التي نحصل عليها من أشكال أخرى من الترفيه الرقمي، وهو ما يجعلها أقل جاذبية مقارنة بالأنشطة الأخرى التي تقدم مكافآت أسرع، ذلك أن أدمغتنا باتت مشبعةً بالمعلومات المجزأة إلى الحد الذي يمنعها من التركيز على سرد طويل أو حجة معقدة.
تشير أبحاث علم الأعصاب الحديثة إلى أن أدمغتنا ربما تعيد تكوين نفسها استجابة لاستهلاكنا للوسائط الرقمية، فيما يذهب نيكولاس كار في كتابه «المياه الضحلة: ما يفعله الإنترنت بأدمغتنا» إلى أن الإنترنت يعيد تشكيل الطريقة التي نفكر بها ونقرأ بها ونعالج بها المعلومات، موضحًا أن أدمغتنا قابلة للتكيف بدرجة كبيرة، وأن التعرض المستمر للوسائط الرقمية جعلنا أكثر ميلًا للقراءة السريعة والمسح والتصفح السطحي بدلًا من الانخراط في التفكير الخطي والعميق. لذلك كلما قضينا وقتًا أطول على الإنترنت اعتادت أدمغتنا على هذا النمط المجزأ من التفكير، الأمر الذي قد يجعل القراءة تبدو أصعب.
تسليع الوقت
وراء هذا التشتت الرقمي الذي يصيب قطاعًا واسعًا من الذين كانوا قراءً أوفياء للكتب، يوجد دافعٌ أكثر قهريةً لهجرة القراءة العميقة وهو هيمنة النيوليبرالية وأثارها بعيدة المدى على شروط حياة الإنسان وعلى ذاته. تبدو العلاقة بين النيوليبرالية وقراءة الكتب معقدة ومتعددة الأوجه، فقد عملت، بتأكيدها على الأسواق الحرة والعقيدة الفردية والكفاءة الاقتصادية، على تشكيل البيئات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بطرق يمكن ربطها بانخفاض الوقت والميل لدى الناس لقراءة الكتب. فهذا النمط من تنظيم الاقتصاد والمجتمع يميل إلى تحويل الوقت إلى سلعة، وممارسة ضغوط متزايدة لتعظيم الناتج الاقتصادي وتحسين الإنتاجية الشخصية وجعل كل دقيقة من حياة الإنسان في اتجاه تحقيق هدف قابل للقياس يرتبط عادة بالنجاح الاقتصادي.
وهو ما حوّل نشاطًا يتطلب الوقت والتركيز المستمرين ولا ينتج عوائد اقتصادية فورية مثل قراءة الكتب إلى ممارسة أقل قيمة أو مضيعة للوقت. فضلًا عن أن الحاجة إلى أن نكون متاحين دائمًا ومنتجين، كما تفرضها أخلاقيات العمل النيوليبرالية، لا تترك مجالًا كبيرًا للنشاط العميق والتأملي المتمثل في القراءة. وبكلمات أخرى؛ خلقت الطبيعة السريعة للاقتصاد الحديث، وساعات العمل الأطول، واقتصاد العمل المتداخل حيث غالبًا ما يتسرب العمل إلى الوقت الشخصي، حالة يشعر فيها الناس بالانشغال أو الإرهاق الشديدين بحيث لا يمكنهم الانخراط في جلسات قراءة طويلة ومعمّقة.
أما الجانب الثاني لتأثيرات النيوليبرالية على القراءة المعمقة فيكمن في طبيعتها المتوحشة، حيث ساهمت في زيادة التفاوت، الأمر الذي يؤثر بدوره على مقدار الوقت الحر المتاح لممارسة أنشطة مثل القراءة. ومع ركود الأجور يتعين على الأفراد العمل لساعات أطول أو وظائف متعددة للحفاظ على سبل عيشهم، وهذا يترك وقتًا أقل لقراءة الكتب. ومعها خلقت أنماط العمل المؤقتة والهشة، ظروف عمل محفوفة بالمخاطر لكثيرين، وصارت قراءة الكتب بمثابة ترف، وهو ترف لا يملكون منه لا القدرة العقلية أو الوقت للاستمتاع به بعد ساعات عمل طويلة أو غير منتظمة. فضلًا عن أن الضغوط المستمرة لتحسين القيمة السوقية للفرد من خلال تحسين الذات أو التطوير المهني، غالبًا ما تشغل وقت القراءة. ويؤدي ذلك إلى دفع كثيرين إلى إعطاء الأولوية للقراءة المرتبطة بالمهنة أو المساعي التعليمية المرتبطة مباشرة بالنجاح المالي على القراءة من أجل المتعة أو التأمل الذاتي. ولذلك تزدهر في عالمنا العربي والعالم مبيعات كتب التنمية البشرية والنجاح الفردي.
تفكّك الالتزام
إن الجلوس في مقهى أو في ركن من المنزل للقراءة ممارسة بالضرورة مضادة للنيوليبرالية في حد ذاتها، فهي تتطلب الوقت والتركيز والاستسلام. لا تُستهلك الكتب في ثوانٍ؛ بل تستكشف على مدار ساعات وأيام وأحيانًا أسابيع، وتتطلب نوعًا من الالتزام، يبدو غريبًا في عصر الـ«ريلز». وهذا الالتزام هو على وجه التحديد ما يجعل القراءة ذات قيمة كبيرة. وعلى عكس الـ«ريلز» التي صُممت لتُنسى في اللحظة التي تظهر فيها المقاطع التالية فإن الكتاب يبقى وتتجذر شخصياته وأفكاره وعواطفه في أذهاننا وتعيد تشكيل الطريقة التي نرى بها العالم وأنفسنا. ولذا يمكن القول إن أزمة القراءة التي نعيشها اليوم، مرتبطة بشكل ما بأزمة الالتزام.
ربما تكمن خطورة النيوليبرالية الأكبر في العقيدة الفردانية التي رسختها على مدى عقودٍ من هيمنتها. وهي عقيدة تضع العبء على الفرد لتحقيق النجاح والتطور والاستهلاك كجزء من نظام قيم مجتمعي أوسع، ما يؤدي إلى تقويض التقاليد الفكرية الجماعية مثل ممارسة قراءة الكتب ومناقشتها كجزء من تجربة ثقافية مشتركة.
تروّج الثقافة الليبرالية الجديدة لأشكال الترفيه التي تدور حول الاستهلاك الشخصي أكثر من التأمل المشترك. وعلى مدى العقود الماضية كان هناك تحول ثقافي نحو إعطاء الأولوية للحرية الشخصية والتعبير عن الذات والاستقلالية على المسؤوليات الجماعية أو الالتزامات الطويلة الأجل. وفي هذا السياق، قد تبدو فكرة الالتزام بشيء ما، وكأنها قيد على الحرية الفردية والنمو الشخصي. ترتبط هذه الفردية بالسرد الثقافي الأوسع الذي يرى أن السعادة والتطور يأتيان من ملاحقة رغبات المرء وأهدافه، غالبًا في اللحظة، وليس من خلال عملية طويلة الأمد يتجاوز فيها المرء ذاته نحو الآخرين. وقد جعل التركيز على الاختيار الشخصي الالتزامَ يبدو أقل جاذبية، لأنه قد يُعتبر قيدًا على القدرة على إعادة اختراع الذات باستمرار أو السعي وراء فرص جديدة.
الرفوف الصامتة
التحولات الثقافية التي أدت إلى تراجع القراءة لم تهجر الكتب بل حولتها إلى تذكار. خفتَ صوت حفيف الصفحات المطوية وصارت الكتب جزءًا من الديكور لتزيّن خلفيات المقاهي ورفوف غرف المعيشة. لقد عززت النيوليبرالية، مع تركيزها على الاستهلاك وتسليع كل شيء تقريبًا، بيئة لا يقتصر فيها ديكور المنزل على الراحة فحسب بل يتعلق أيضًا بإبراز صورة أو مكانة معينة، وهنا صارت الكتب، وخاصة الكتب ذات الغلاف المقوّى والمجلدات الجميلة رموز للإشارة إلى الفكر والرقي والذوق. ويرجع هذا التحول جزئيًا إلى الطريقة التي يتم بها تسويق المنازل وعرضها في مجلات نمط الحياة ومنشورات إنستغرام والبرامج التلفزيونية حيث غالبًا ما تحظى الجماليات بأولوية على الوظيفة.
اليوم يشتري العديد من الناس الكتب ليس بقصد قراءتها، بل لخلق بيئة تعكس نمط حياة معين. ويعبّر مصطلح «شيلفي» (shelfie) عن ممارسة التقاط صور لرفوف الكتب من الناحية الجمالية ومشاركتها. وفي هذه الصور يكون التركيز على التصميم والتناسق والجاذبية الجمالية الشاملة لرفوف الكتب وليس محتواها نفسها. وبالتالي حوّلت «ثقافة الرفوف» الكتب إلى رموز للمكانة أو علامات على نمط الحياة، مما شجع الناس على رؤية المكتبة كجزء من تصميمهم الداخلي وليس كمصدر للمعرفة أو الترفيه. وغالبًا ما تعمل كرموز لرأس المال الثقافي أكثر من كونها أدوات للتأمل العميق أو التعلم. وهذا يعكس تغييرات أوسع نطاقًا في كيفية تقديرنا للمعرفة والوقت والمظهر في عالم تهيمن عليه الصورة والاستهلاك.
الكتب لم تتغير، فهي تظل كما كانت دومًا مليئة بالوعود مفعمة بالحياة، ولكننا نحن الذين تغيرنا. ذلك أن تراجع القراءة لا يعني فقدان هواية فحسب؛ بل يعني فقدان شكل من أشكال التفكير. إنه دليل على تراجع الانتباه المستمر، وتراجع القدرة على استيعاب تعقيد العالم، وتآكل التعاطف الذي ينمو في التربة الخصبة للقصص، حيث يضع القراء أنفسهم في بواطن الشخصيات. وربما يكون الأمر الأكثر مأساوية هو تلاشي الدهشة، ذلك الشعور الذي لا يأتي إلا عندما نفقد أنفسنا في كتاب وننسى لفترة من الوقت ضجيج العالم الخارجي وسرعته.