شهدت ستينيات وسبعينيات القرن الماضي صعودًا بارزًا لحركات المساواة وحقوق الإنسان والحركات المناهضة للحروب والإمبريالية الغربية المهيمنة على العالم. ومن بين هذه الحركات الثورية ظهرت أصوات مؤيدة للقضية الفلسطينية، إذ ارتأت فيها فكرًا ثوريًا عالميًا مناصرًا للفكر السياسي اليساري، في دول مثل الاتحاد السوفيتي سابقًا ودول أمريكا اللاتينية. كما ارتبط الكفاح الثوري الفلسطيني كذلك بحركات ثورية أخرى كحركة الفهود السود[1] في الولايات المتحدة، والتي رأت في ثورة الفلسطينيين لغة مشتركة في مواجهة القوى التي تنكر أحقية وجودهم وهويتهم.
ولم يأخذ بعض هؤلاء المثقفين الثوريين على عاتقهم الكلام أو الكتابة عن الفلسطينيين فحسب، بل كان من بينهم من سافر إلى مخيمات اللجوء الفلسطيني ومعسكرات الفدائيين في الأردن ولبنان، سعيًا إلى تقريب الحقائق في تمثيل القضية الفلسطينية للغرب، مثل الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي جان جينيه والمخرج السينمائي الفرنسي جان لوك غودار.
إلّا أن مهمّة كهذه سرعان ما كشفت عن تحدّياتها، لا سيما في مواجهة السرديات التاريخية الثابتة والخطابات السياسية الغربية المهيمنة. فعلى الرغم من كل الذي قيل وكُتب عن القضية الفلسطينية، ما يزال الفلسطينيون مجهولين، خصوصًا في الغرب، كما يعتقد إدوارد سعيد في كتابه «ما بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية»، الذي أنجزه بالتعاون مع المصوّر السويسري جين مور عام 1986، إذ يقول:
«في الغرب خصوصًا وفي الولايات المتحدة على وجه التحديد، لا يمثّل الفلسطينيون شعبًا، بل مجرّد ذريعة للنزاع المسلّح. ومن المحتّم أننا لسنا معروفين بالقدر الذي يُعرف به اليهود. منذ عام 1948 بدأ وجودنا بالاضمحلال، وهناك الكثير من الأمور التي حدثت لنا دون أن يجري توثيقها، فقد قُتل وذُبح وأبيد الكثيرون منّا بلا أثر. أما الصور التي استُخدمت لتمثيلنا، فأمعنت في الانتقاص منّا لا أكثر. يبدو الفلسطينيون لمعظم الناس كمقاتلين إرهابيين ومتمردين منبوذين وخارجين عن القانون، وكلّ ما عليك قوله هو كلمة «إرهاب» كي يظهر رجل ملثّم يرتدي كوفية و يحمل كلاشينكوف أمام عيونهم. إلى حد ما، فإن هذه الصورة المُخيفة قد استُبدلت بصورة اللاجىء العاجز والبائس فيما يمثّل أيقونة «فلسطين» الحقيقية».[2]
وعلى الرغم من أن سعيد كان قد أنجز كتابه قبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي ساهمت في تغيير هذه الصورة جزئيًا، إلا أنّ الجهل في أمور القضية الفلسطينية لا زال موجودًا عند الغرب -مع الأسف-.
وإذا ما قرأنا كلام سعيد عن الفلسطينيين تبعًا للنظرية السيميائية،[3] فإن ارتباط صورة الفدائي المُلثّم، الذي يحمل كلاشينكوف (الدّال) بمفهوم الإرهاب (المدلول عليه)، يخلق رمزًا أو أيقونة تجمع الصورة بالمفهوم في كلمة واحدة: فلسطين. لذا يمكن القول إن ارتباط صورة الفلسطيني بمفهوم «الإرهاب» في عيون الغرب تبعًا لوصف إدوارد سعيد، لا يمثّل تشييئًا لكيانه واختراعًا لهويته فحسب بل وترسيخًا لسردية تاريخية محددة، ومن ثم اختزالها في أيقونة وتوظيفها لتصبّ في مصلحة الخطاب السياسي الصهيوني والغربي.
من هنا، فإن عملية تفكيك هذه الأيقونة البنيوية وإعادة خلق أيقونة بديلة للفلسطينيين، هي ما عمد عدد من المثقفين الثوريين لفعله من خلال توظيف النص والصورة في أساليب بديلة وحرة، إلّا أن عملية كهذه تقتضي المساءلة والحذر دائمًا حتى لا تقع في فخّ الخطاب ذاته مرة أخرى، نظرًا لصعوبتها الشديدة أو حتى شبه استحالتها في عالم تسيطر فيه الإمبريالية الغربية على وسائل الإعلام.
جان جينيه يعتلي مسرح الفدائيين
في مطلع سبعينيات القرن الماضي اتجه الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي جان جينيه إلى مخيّمات اللجوء الفلسطيني في الأردن على خلفية انخراطه السياسي في حركات ثورية أخرى مثل حركة الفهود السود في في نهاية الستينيات.[4] وبعد أن كانت النية أن يقضي وقتًا محدودًا هناك، ألفى جينيه نفسه «أسيرًا عاشقًا» لمدة سنتين مع الفدائيين الفلسطينيين، ولبث جزءًا لا يتجزّأ من روتينهم الثوري ونقاشاتهم الساخنة وحتى أحلامهم المتّقدة.
بعد أكثر من عشر سنوات، كتب جينيه سيرته «أسير عاشق» ونُشرت بعد وفاته عام 1986، جمع فيها ذكرياته في الأردن ولبنان وجزءًا من لقاءاته مع زعماء حركة الفهود في الولايات المتحدة. كتب جينيه ذكرياته دون أن يتبع تسلسلًا محدّدًا ولا أسلوبًا معينًا، وهي بذلك أقرب للسردية الفلسطينية وشتاتها وتبعثر مخيمات لجوئها، وحيث لا حدود فاصلة بين الشخصي والسياسي في هذه السيرة، فإن جينيه قد رأى في الثورة الفلسطينية نهجًا يفضي إلى الفكر الثوري في أي مكان آخر في العالم، وفي العالم العربي على وجه التحديد.
إذ أدرك جينيه من خلال لقائه مع عدد من الشبّان القادمين من أقطار المغرب العربي لمساعدة الفدائيين أن ثمّة رابط قوي يجمع بين هؤلاء، فيقول:
«عبر هذا المسار «غير الشرعي» كان مدّ من المقاتلين الآتين من أقطار المغرب العربي الأربعة أو الخمسة ينهمر على المخيّمات الفلسطينية لمساعدتها. عبر هذا ببساطة، عرفت قوة النداء والأصداء والترداد شبه الفوري الذي كان للمقاومة الفلسطينية في العالم العربي. لا شكّ أنه كان ينبغي مساعدة الفدائيين في رفض الاحتلال الصهيوني بالرغم من أميركا، إلا إنّني كنت ألمح تحت هذا الإلزام إلزامًا آخر: كان شعب كلّ من الأقطار العربية يريد أن يتخلّّص من الاستعبادات القديمة: فالجزائر وتونس والمغرب، بهزّها أوراقها كالأشجار، أسقطت الفرنسيين الذين كانوا متخفّين فيها؛ كوبا أسقطت أمريكيّيها، وفي فيتنام الجنوبية لم يعد الأخيرون ليتمسّكوا إلا بخيط للعذراء…».[5]
إلا أن جينيه كان قد أدرك حقيقة تردّد أصداء الثورة الفلسطينية حول العالم الناجم عن توظيف الصورة تبعًا لأيديولوجية معيّنة، ولذا سعى بنفسه أن يُفكّك أجزاءها بحذر وينتقد توظيفها كلّما سنحت له الفرصة.
فبعد أن منحته حركة فتح تصريحًا للمرور بين معسكراتها، وطلب منه ياسر عرفات وزعماء آخرون أن يكتب عن الفلسطينيين، كان جينيه في تلك الأثناء مراقِبًا مُتمرِّسًا يتجوّل بعين مسرحية ناقدة وأخرى شاعرية حالمة، ينظرُ إلى واقع الفدائيين، فيمتدحهم حينًا وينتقدهم أو ينتقد ما يجري لهم أحيانًا أخرى، مُسلّطًا الضوء بذلك على مساعي الصحافة والتلفاز والمُصوّرين في نقل صورة الفدائي إلى العالم:
«في «مخيم البقعة» كان المهانون ينتقمون. وكان اليابانيون والطليان والفرنسيون والألمان والنرويجيون هم المصوّرون السينمائيون والفوتوغرافيون ومسجّلو الصوت الأوائل. وعلى خفّته صار هواء «البقعة» أثقل. وأولئك الذين لم يأمرهم أحد باتّخاذ وضعية التصوير «البوز» أمام العدسة، والذين سيفوزون بالنجومية إذا ما صوّروا نجمًا -أي كل فلسطيني يرتدي هنا بذلة الفهود ويحمل كلاشينكوفًا- كانوا يمسكون بفريستهم. كان اليابانيون بعصبيتهم شبه الطبيعية… يهدّدون، بالإنجليزية، بالإقفال راجعين إلى طوكيو بلا صورة، تاركين اليابان في جهلها للثورة الفلسطينية… ولقد جعل الفرنسيون فدائيًا يكرّر الوقفة اثنتي عشرة مرة. وبثلاث كلمات ناشفة، أوقف الدكتور ألفريدو هذه المهزلة كلها. فحتى يثبت الإيطاليون معرفتهم باللقطة التصاعدية، كانوا يأمرون المقاتلين بإسناد الرشاشة إلى الكتف بعد إفراغها من الرصاص، ثم يرتمون إلى الأرض بحركة سريعة ويصوّرون الفدائيين على هذه الشاكلة».[6]
ورغم أن غرض الصحافيين الأساسي هو نقل صورة الثائر الفلسطيني وتمثيلها للعالم، إلا أنهم كانوا يحوّلونه بذلك إلى وسيلة تلبّي حاجاتهم وترضي أهواءهم، تحت ذريعة تصوير البطل النجم الذي لا يتعب ولا يُقهر، بسطحيّة وسذاجة لا تكشفان للناظر عن ذلك العالم الخفيّ وراء هذه الصور.
ولم يسلم جينيه نفسه من الوقوع في فخّ «السذاجة» عينها كما وصف نفسه «بالوافد الساذج بألوان كاذبة» لاحقًا، إلا أن طول المدة التي قضاها مع الفدائيين وانخراطه في أحاديث سرية معهم كشفت له عن حقائق أعمق، لم يستطع المصوّرون الصحفّيون الوصول إليها بفلاشات كاميراتهم اللامعة. إذ ليس الفدائي وحده في ساحة المعسكر دون سياق خارجي مؤثّر، وليس الدعم الخارجي الذي يتلقّاه الفلسطينيون صافي النوايا، ولذا يفصح جينيه عما أدركه لاحقًا، فيقول:
«لم يكن لديّ عند وصولي واستقبال الفدائيين إياي بمثل هذه التفخيم، الاستعداد الذهني لأقدّر القوى المتصارعة ولأميّز انقسامات العالم العربي. كان عليّ أن أرى مبكرًا أن الدعم المقدم للفلسطينيين كان وهميًّا. كان سواء أتى من الخليج أم من أقطار المغرب، ظاهريًّا، تصريحيًّا، إنما غير ذي قوام».
ويعلّق في صفحات أخرى على الفرق بين ذلك الضوء الاصطناعي الذي يسعى لإبراز نفسه من خلال هذا الدعم الخارجي وتلك المساحة الحرة المشمسة التي كانت تنمو فيها براعم الثورة الفلسطينية بعيدًا عن الزيف:
«عندما نتحدّث عن الثورة الفلسطينية ما بين عامي 1970- 1973 وما يليها، (فإن) ما عرف عنها في الصحف والإذاعات من قصص تفخيمية طريفة، قينيّة، ومؤثرة كان في خاتمة المطاف قصصًا موجهة لدعم إسرائيل وحسين والديمقراطية الغربية لا منظمة التحرير الفلسطينية. كان يُشغل بها أو بالأحرى أنها شغلت أعين نفر من القراء، إلا أن الثورة هذا الجسم الحي، كانت تنمو لوحدها بالرغم من الدعم المعتدل من قبل الاتحاد السوفيتي والصين وجزائر بو مدين والمساندة الظاهرية من الدول العربية».[7]
وفي سعيه نحو رؤية الذي لا يُرى، ألفى جينيه عند الفدائيين ملاذًا وحياةً ثورية أخرى وكأنها حياة سابقة عاشها ولم يتوقف عن تذكّرها. من هنا، أصرّ جينيه على رؤية الفدائيين بعين مناقضة لتلك التي تسعى بورتريهات الصحافة والإعلام إلى تصويرها، فقد كانوا يصفون الفلسطينيين خلافًا لما هم عليه في الواقع، حاصرين إياهم بشعارات كما يقول جينيه:
«وإذ عشت مع الفلسطينيين، فإن اندهاشي دائم الضحك كان آتيًا من تلاقي بديهيتين: إنهم ما كانوا يشبهون «البورتريهات» الصحافية بل كانوا نقيضها».[8]
انتقد جينيه توظيف الصورة، وأصرّ على كتابتها وتفكيكها في عالم أمسى أكثر انشغالًا في استهلاكها. وبعيدًا عن صور التلفاز المتحركة ذات البعدين، تلك التي وصفها بأنها على صلة مع «المتخيّل»، وبالتالي «أحلام اليقظة»، كان جينيه يتجول بين الجثث في مجازر صبرا وشاتيلا في بيروت عام 1982 ناقلًا عالم ما وراء المجزرة لنا في مقال «أربع ساعات في شاتيلا» عام 1983، وكل الذي لا تستطيع الصورة نقله:
«الصورة لا تكشف عن رائحة الموت الكثيفة البيضاء، ولا تكشف كذلك عن الكيفية التي يجب أن تقفز بها عن الجثث وأنت تمشي بينها».[9]
جان لوك غودار: صناعة الصورة واستهلاكها
بينما انتقد جينيه توظيف صورة الفدائي في سيرته «أسير عاشق»، ركّز المخرج السينمائي الفرنسي جان لوك غودار على عملية صناعة الصورة واستهلاكها حول العالم. ففي مطلع السبعينيات سافر غودار إلى مخيمات اللجوء الفلسطيني في الأردن وأراد أن ينجز فيلمًا وثائقيًا حول الثورة الفلسطينية بعنوان «حتى النصر»، لكن بعد أن عاد غودار إلى فرنسا أنجز فيلمًا آخر مختلفًا تمامًا عن الذي جاء من أجله بعنوان «هنا وهناك» عام 1976، بالتعاون مع آن ماري فيل وجان بيير غورين. ينقسم الفيلم إلى جزئين يتمحور حولهما؛ هنا: عائلة فرنسية نمطية تجلس أمام التلفاز وتشاهد صورًا متحركة، وهناك: الفدائيون الفلسطينيون من بينهم أطفال في معسكرات التدريب وحياتهم اليومية، وصورًا أخرى للموت والدمار.
من خلال تركيز غودار على حرف العطف الـ«و» في اسم الفيلم: هنا وهناك، يربط غودار الصور التي التقطها أثناء زيارته للأردن قبل سنوات مستخدمًا أسلوب الكولاج، وعبر تلاعبه بهذه الصور يحاول غودار أن يعكس ذلك التلاعب القائم على الصور في الإعلام وثقافة استهلاكها اليومية، خاصة فيما يتعلّق بمونتاج القضايا العالمية كقضية الفلسطينيين، مسلّطًا الضوء بذلك على الجهات التي حاولت استغلال الفلسطينيين واستهلاكهم فيما يخدم بروباغاندا الفكر اليساري.[10]
يأتي صوت الراوي للنص مصاحبًا لصور الفيلم المختلفة، كما يصاحبها أصوات متفرقة كصوت فيروز تغني أو صوت محمود درويش وهو يلقي قصيدة أو أصوات قادمة من نشرة الأخبار الفرنسية أو حتى النشرة الرياضية. وعبر أسلوب الكولاج هذا لا يعكس غودار تشتت الفلسطيني الثائر وتذبذب صورته في عيون العالم فحسب، بل يعرض كيف تصبح صورة الذات جزءًا من نظام أكبر؛ «نظام معقد ومبهم في العالم كله..» وكيف «بنت الرأسمالية العالمية ثروتها على هذه الحقيقة» حقيقة الصورة الواحدة وهي صورة التلفاز. يقول غودار: «ليس هناك صورة أكثر بساطة، إلا صورة الناس البسطاء الذي أُجبروا على البقاء هادئين مثل الصورة».[11] ولذلك يرواح غودار بين صور تمثّل هدوء وسلبية من هم أمام الصورة ومن هم في داخلها؛ العائلة الفرنسية هنا تجلس بكامل الصمت والهدوء والانصياع أمام صورة التلفاز المتحركة، وامرأة فلسطينية أمّية تردد شعارات وبنود منظمة التحرير الفلسطينية أمام الكاميرا ولا نرى من يقف وراء الكاميرا ويُصحّح لها أخطاءها ويأمرها بالاستمرار، أمّا النص فيتحدّث عن كيفية انخراط المرأة الفلسطينية في العمل الثوري.
يركّز غودار على عملية التكرار، تكرار المرأة للنص رغم تعبها وظهور علامات عدم الفهم على وجهها، تكرار الصور في تلفاز العائلة الفرنسية، التكرار الذي يصنع الصورة ويستهلكها كأي عملية تسويق تجارية.
في مشهد آخر، نرى امرأة فلسطينية لاجئة في بيروت، تخبرنا أنها حامل وفخورة بأنها ستهب ابنها للثورة الشعبية، لكن أكثر الأمور تشويقًا كما يقول الصوت في الفيلم ليس هذا، وإنما عالم آخر وراء المشهد. أولًا؛ نرى الشخص الذي يتلقّى التوجيهات والأوامر وليس الشخص الذي يصدرها، فنسمع شخصًا من وراء الكاميرا يطلب من المرأة الفلسطينية أن تعدّل رأسها وتكرّر كلامها مرة أخرى. ثانيًا؛ المرأة هي ممثلة ومثقفة متعاطفة مع القضية الفلسطينية وهي ليست حامل في الحقيقة، لكنها، كما يقول لنا الصوت في الفيلم، جميلة وشابة وهذا ما يجعلنا نظلّ صامتين. لكن السؤال هنا ما الذي سنفعله إزاء صور المحارق البشعة والجثث والموت التي تُعرض علينا بعد ذلك؟
عبر رؤيتنا لعملية صناعة الصور ومونتاجها داخل الفيلم نفسه، يتسنّى لنا أن ندرك أن التلاعب وارد دائمًا، وأننا لا نسمع ونرى ما يجب علينا سماعه ورؤيته، بل نحن في استهلاك دائم لما يُتاح لنا فقط، ولذلك يقتضي أن نتساءل:
«من أين أتت هذه الصور غير القابلة للاستماع والمشاهدة؟ علينا مثل أي شخص آخر أن نقول شيئًا حيالها، شيئًا آخر غير الذي يقولونه، يبدو أننا على الأرجح لا نعرف كيف نسمع أو نرى، أو أن الأصوات عالية وتطغى على الواقع، تعلّم أن ترى هنا من أجل أن تفهم هناك، تعلّم أن تفهم الخطاب من أجل أن ترى ما يفعل الآخرون، «هناك» من أجل «هنا».[12]
بهذه السطور يختتم الفيلم مركّزًا مرة أخرى على الرابط الذي يجمع الناس هنا وهناك (الغرب والشرق)، وضرورة فهم السردية والخطاب وتفكيكهما من أجل أن تصبح الرؤية ممكنة ويصير الصوت مسموعًا أكثر.
إدوارد سعيد: الرؤية المزدوجة في سماء الفلسطيني الأخيرة
«إلَى أَيْنَ نَذْهَبُ بَعْدَ الحُدُودِ الأخِيرَة ِ؟
أَيْنَ تَطِيرُ العَصَافِيرُ بَعْدَ السَّمَاءِالأَخِيرَةِ
أَيْنَ تَنَامُ النَّباتَاتُ بَعْدَ الهَوَاءِ الأخِيرِ؟
سَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا بِالبُخَارِ..»[13]
رغم ضرورة الجهود الغربية البديلة لتمثيل الفلسطينيين للعالم، يظلّ الفلسطينيون في الحقيقة من يملكون مفاتيح سرديتهم التاريخية ومسؤولية تمثيل أنفسهم للآخر بشكل أساسي. لكن، ناهيك عن التحدّيات التي يقتضي مواجهتها لإنجاز مهمة كهذه، بما في ذلك محاولات التصدّي للخطاب الصهيوني الغربي والهيمنة الإمبريالية على وسائل الإعلام، فإننا إذا ما نظرنا إلى مسألة الشتات الفلسطيني والصراع الدائم والقائم على الكيان والهوية في ظل احتلال المساحة الجغرافية التاريخية واستمرار تآكل ما تبقّى منها بفعل مخططات الاستيطان الإسرائيلية، فإن عملية تأسيس نظرية واحدة أو خطاب واحد لتناول القضية الفلسطينية تمسي أمرًا معقدًا. فكما يقول إدوارد سعيد:
«لا توجد نظريّة واحدة يمكن استخدامها لوصف الثقافة والتاريخ أو المجتمع الفلسطينيّ. لا يمكن الاعتماد على صورة واحدة مثل صورة الهولوكوست أو الهجرة أو المسيرات الشعبيّة الطويلة. لا يوجد خطاب واحد لوصف السياق الفلسطينيّ، وإنّني حقًّا أشكّ في أنّ أحدهم سيأتي بمثل هذا الخطاب يومًا ما».[14]
ولذلك يحاول سعيد في كتابه «ما بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية» أن يعبّر عن تلك الصعوبة التي نواجهها عند تمثيل القضية والفلسطينيين، وأن «يستنكر طرق تمثيل الفلسطينيين البسيطة والمؤذية» في الوقت ذاته، من خلال استبدالها بصورهم الأقرب إلى الحقيقة وتجارب وجودهم المعقّدة.
من خلال توظيف النص والصورة معًا، تعاون سعيد مع المصور السويسري جين مور ليخلق تجربة بديلة باستخدام أساليب متنوعة ومتشظية ومهجّنة، إيمانًا منه بأن أساليبًا كهذه هي الأجدر بتمثيل الفلسطينيين باعتبارها تحاكي واقع غربتهم وتشتّتهم، ليخلق بذلك أسلوبًا تعبيريًا بديلًا ومغايرًا لذلك الذي تستخدمه «وسائل الإعلام والعلوم الاجتماعية وكتب الخيال الأدبي».[15]
يشكَل النص الذي يبني على الفكر البديل، والذي تصحبه الصور المغايرة لما تُروّجه وسائل الإعلام، مفعولًا مضاعفًا. إذ يناقش سعيد في مقدمة الكتاب السبب الذي دفعه لإنجاز كتاب يتضمّن النص والصورة جنبًا إلى جنب. ففي عام 1983 كان يعمل مستشارًا للمؤتمر الدولي للأمم المتحدة، واقترح أن تُعلّق صور جين مور الاستثنائية التي التقطها لحياة الفلسطينيين في الأردن وسوريا ولبنان والضفة الغربية وغزة على مدخل القاعة، فقُبلت الصور شريطة ألا تصحبها أي كتابة. وحسب قول سعيد، فإن السبب وراء ذلك حسبما يتذكر هو اعتراض بعض أعضاء المؤتمر من الدول العربية، كما يوضّح:
«لقد كانت فلسطين مفيدة لهم إلى حد ما في مهاجمة إسرائيل، والتصدّي للصهيونية والإمبريالية والولايات المتحدة، والفجع أمام احتلال واستغلال الأراضي العربية في المناطق المحتلة. وخلافًا لذلك، عندما يتعلّق الأمر باحتياجات الشعب الفلسطيني كشعب، والظروف القاسية التي يعيشون بها في البلدان العربية وفي الأرض المحتلة، فإن مواقفهم تتوّج بالانسحاب».[16]
وسعيًا لإنتاج صيغة بديلة، يخلق سعيد في كتابه مفهوم «الرؤية المزدوجة»[17] على أكثر من صعيد. أولاً؛ أنتج سعيد من خلال توظيفه لصور جين مور التي التقطها على مرّ عقود محتوىً يجمع بين النص والصورة في نفس الحيّز، لكن ليس الرؤية نفسها، فرغم حوارات سعيد مع الصور أو عن الصور، تظلّ صور مور قادرة على التعبير عن ذاتها في رؤية أخرى، وهي رؤية المصوّر الغربي/ الآخر الذي وصفه سعيد بأنه «رآنا كما كنّا سنرى أنفسنا، فهو بذلك في داخل عالمنا وخارجه في آن معًا». ثانيًا؛ يحمل سعيد نفسه رؤية مزدوجة عن القضية والفلسطينيين نظرًا لغربته في الولايات المتحدة التي لطالما أرّقته وجعلت من هويته موضوع مساءلة وبحث، خاصة بأنه دائمًا ما اعتبر نفسه خارج المكان.[18] وأخيرًا؛ إن مفهوم الازدواج في الرؤية يتضمّن أن ينظر صانع المحتوى بعين واعية وناقدة للمحتوى الذي يصنعه، ومن خلال هذه الرؤية يطرح سعيد مشكلة العنف وسوء الفهم والتهميش التي تتعرّض لها الأقليات عندما تكون موضوعًا للصورة.
ولأن عناصر الرؤية بما فيها الصورة، كما يعتبرها فوكو، أداة تستعملها الدولة للسلطة على الحياة (Biopower)،[19] والسيطرة على الفرد من خلال توجيه رؤيته، فإن عنف الصورة لا يطال من هم ضحايا في داخلها وإنما من يتفرّجون عليها كذلك. لكن من وجهة نظر أخرى، يمكن القول إن صانع الصورة والناظر إليها قد يتورّطان في إلحاق عنف من نوع آخر ضد الأشخاص الذين تُمثّلهم الصورة إن لم يعتمدا نظرةً تفكيكيةً واعيةً وناقدةً لمحتواها.
في النهاية، أعتقد أن الرؤية المزدوجة للفلسطيني التي حاول سعيد تقديمها في كتابه، لم تغب كذلك عن كتاب جينيه في محاولته لتمثيل الفدائيين، باستثناء بعض الأجزاء التي لم تخلو من الرؤية الرومانسية أحيانًا والانجراف العاطفي نحو جماعة استقبلته وجعلته فردًا من أفرادها. أما غودار، فإن تغييره لرأيه حول صناعة فيلم وثائقي عن الثورة الفلسطينية واختياره أن يركز على عملية صناعة الصورة والتلاعب بها، خصوصًا صورة الفلسطيني في الغرب، خلق به رؤية مزدوجة ينتقد فيها نفسه إلى جانب صانعي محتوى الأفلام في الغرب.
مؤخرًا، تعود حركة حقوق السود في الولايات المتحدة للتقاطع مع القضية الفلسطينية مرة أخرى، مؤكّدةً بذلك على أنّ غياب العدالة والظلم والتهميش آتٍ من المصادر ذاتها. فما اشتعل من حراك في مختلف أنحاء العالم على خلفية مقتل جورج فلويد، وما صدر مؤخرًا من توجهات لضمّ أراضي الضفة الغربية وصفقة القرن التي تُصرّ على أن تُغيّب الفلسطينيين عن ساحة القرار فيما يتعلّق بمصيرهم، وإلى أن يتمكّن الفلسطينيون -وكل الشعوب والأقليات المُهمّشة- من تمثيل أنفسهم بأنفسهم، فإن العالم اليوم بأمسّ الحاجة لصور ونصوص بديلة، تسرد قصصًا تاريخية بأصوات أخرى و تسعى لتفكيك الخطابات السياسية الإمبريالية المهيمنة.
-
الهوامش
[1] الفهود السود هو حزب حقوقي أسسه السود في الولايات المتحدة في عام 1966، وقد تأثر بعض الكُتّاب السود في الحركة بأدب المقاومة في فلسطين، من بينهم جورج جاكسون، الكاتب الثائر الذي قضى في السجن إثر محاولة هربه، وقد عُثر في زنزانته على ورقة بيضاء نسخ فيها بخط يده قصيدة «عدو الشمس» للشاعر الفلسطيني سميح القاسم، ولسنوات عديدة كانت قصيدة سميح القاسم تتناقل بين أفراد الحركة ظنًّا منهم أن جاكسون هو الذي كتبها. انظر/ي جامعة بيرزيت تفتتح معرض «جورج جاكسون في شمس فلسطين»
[2] Said, W. Edward, Jean Moher. After the Last Sky: Palestinian Lives, 1986.
[3] انظر/ي كتاب رولان بارت /مبادىء في علم الدلالة The Signifier and the signified
[4] طُلب من جان جينيه التوقيع على عرائض حركة الفهود السود والتضامن معهم، فلم يكتف بذلك فحسب بل سافر إلى الولايات المتحدة واجتمع بزعماء القادة ليتعرف أكثر على نشاطاتهم والمشاركة في لقاءاتهم واجتماعاتهم.
[5] أسير عاشق/ جان جينيه، ترجمة كاظم جهاد.
[6] نفس المصدر السابق.
[7] نفس المصدر السابق.
[8] نفس المصدر السابق.
[9]Genet, Jean. “Four Hours in Shatila”.Journal of Palestine Studies, Vol. 12, No. 3 (Spring, 1983), pp. 3-22.
[10] في عام 1968 أسس بعض المخرجين السينمائيين المهتمين في الحراك السياسي مثل جان لوك غودار و جان-بيير غورين مجموعة اسمها The Dziga Vertov Group، والتي بنت أفلامها تبعًا للفكر اليساري الماركسي، كما استندت على أفكار الشاعر والكاتب المسرحي الألماني برتولت بريشت التي تتعمد أن تسبب صدمة للمشاهد. حاول غودار من خلال فيلمه «هنا وهناك» أن ينتقد نفسه ومجموعته التي استخدمت صور الفدائيين الفلسطينيين من أجل الترويج للفكر اليساري.
[11] Godard, Jean-Luc, Jean-Pierre Gorin, & Anne-Marie Miéville. Ici et Ailleurs, 1976.
[12] نفس المصدر السابق.
[13] قصيدة تضيق بنا الأرض/ محمود درويش.
[14] Said, W. Edward, Jean Moher. After the Last Sky: Palestinian Lives, 1986.
[15] نفس المصدر السابق.
[16] نفس المصدر السابق.
[17] انظر/ي أيضًا
Kauffmann, Kristia. Double Vision: Visual Practice and the Politics of Representation in Edward W. Said and Jean Mohr’s After the Last Sky
[18] إشارة إلى سيرة إدوارد سعيد الذاتية، خارج المكان 1999.
[19] ورد هذا المصطلح في سلسلة محاضرات ألقاها فوكو بين عامي 1977و 1978 في Collège de France ونشرت بعد وفاته استنادًا على التسجيلات الصوتية في كتاب Security, Territory, Population. انظر/ي أيضًا Foucault: Biopower, Governmentality, and the Subject