ربما لا نأتي بجديد حين نقول إن فيلم جوكر قدم رسالة احتجاجية غاضبة ثم أفرغ هذه الرسالة من محتواها السياسي. إذ أن الغضب الاجتماعي والطبقي الذي قدمه الفيلم يظهر في البداية فرديًا ولا يعبر عن نفسه إلا عشوائيًا من دون تخطيط أو تنظيم ومن دون أي لغة أو أدوات سياسية. يصبح هذا الغضب الفردي جماعيًا بتماهي الغاضبين والمهمّشين مع الجوكر، وتصبح هناك حركة احتجاجية من الذين يرتدون أقنعة الجوكر -ويصبح الجوكر بشكل ما جماعةً لا فردًا، كما يشي عنوان الفيلم الذي تخلى عن «ال» التعريفية- إلّا أن هذه الحركة تظل مدفوعة بالكره الفردي لأغنياء بعينهم لا بالوعي السياسي أو الطبقي ولا برغبة التغيير. وينذر الفيلم بدائرة مفرغة من العنف والدمار، تمر بقتل واحد من الذين يرتدون أقنعة الجوكر للمليونير توماس واين أمام ناظري ابنه بروس، الذي نعرف أنه سيصبح باتمان وسيصبح المنافح عن النظام بكل فساده، وسيمثل الجناح غير الرسمي وغير الشرعي للمليونيرات وللنظام الأمني في مدينة جوثام، وسيستمر الصراع بقدر الاستمرار السرمدي لسلاسل باتمان.
في الوقت نفسه، فإن الفيلم حين يعيد تأسيس الصراع في جوثام، ويعيد تأسيس قصة التكوين لباتمان، على أساس طبقي فإنه يكشف، ربما من حيث لا يدري، الجانب الأيديولوجي في سلاسل باتمان. كان كريستوفر نولان قد قدّم في ثلاثيته، وبالذات في آخر أفلام هذه الثلاثية، «فارس الظلام ينهض»، الذي جاء في سنة الثورات العربية واحتلال وول ستريت وتصاعد الاحتجاجات في جنوب أوروبا، الثورة والاشتراكية والعرب على أنهم خطر محدق ينبغي لباتمان، حامي النظام، أن يواجههم بعنف، مهما كان باتمان نفسه قاسيًا وخارجًا على القانون ومهما كان النظام الذي ينافح عنه فاسدًا. فيلم جوكر، الذي تأثر بثلاثية نولان، يكشف أيديولوجيا هذه الأفلام التي تقوم على شبكة مصالح المنتفعين من النظام العالمي. إلا أن الجماهير التي رأيناها خطرًا سياسيًا محدقًا في ثلاثية نولان، حتى أنها اقتحمت المباني وأسست فيها نظامها البديل ومحاكمها الثورية، فقدت قدرتها على التغيير حين أرادت هوليوود أن تنحاز لثورتها، فرأينا شغبها محصورًا في الشوارع ولم نرها تقتحم مبنى أو تقيم نظامًا بديلًا.
ولكننا لا ننكر في الوقت ذاته جاذبية الصورة ورمزيتها، فقد تلقفت الحركات الاحتجاجية في سائر أنحاء العالم هذه الصورة واستلهمتها، فرأينا أقنعة الجوكر في مظاهرات لبنان وتشيلي وغيرهما.
يحتمل الفيلم إذن أكثر من تفسير وأكثر من استلهام، وهذا ما تعمّده معدو الفيلم إذ قدموا لنا راويًا مجنونًا لا يوثق في كلامه. وجنون آرثر – الجوكر في حد ذاته يقدم نقطة التباس في محتوى الفيلم السياسي، ولكنها نقطة التباس غنية بالمعاني وحبلى بالتأويلات.
جوكر ما بين الجنون والتحليل النفسي
الحكاية التي يحكيها راوي الفيلم تقول إن جنون آرثر- الجوكر، وانفعالاته التي لا تخضع للمنطق، تعود لأسباب عضوية وفسيولوجية إذ يعاني من التقلقل العاطفي Pseudobulbar affect (PBA) وهي حالة تنتج عن الاضطرابات العصبية أو الإصابات الدماغية. وفي الوقت نفسه فإن فرضية أن جنون آرثر جنونٌ عضوي لا تمحو الجانب الاجتماعي والسياسي لهذا الجنون تمامًا، حيث يتفاقم جنون آرثر نتيجة إغلاق مراكز الخدمة الاجتماعية التي كانت فيما مضى تمده بالحد الأدنى من الرعاية النفسية والدواء. وبينما تتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في شوارع جوثام، وبينما يزداد المليونير توماس واين ثراءً ويترشح ليصبح عمدة المدينة، تسحب الدولة تمويل مراكز الخدمة الاجتماعية التي يحتاج إليها المرضى النفسيون والعقليون، والتي من دونها قد يهوون إلى الجنون أو الجريمة (أو كليهما كما في هذا الفيلم)، تمامًا كما تفعل الليبرالية الحديثة إذ تجعل الثروة أرقامًا تتفاقم في البنوك في حين تسحب تمويل شبكات الخدمة الاجتماعية وتفككها فيما أسمته عالمة الأنثروبولوجي إليزابيث بوفينيلي بـ«اقتصاديات الخذلان».
هذه الموازاة ما بين الانهيار النفسي لآرثر- الجوكر والانهيار الاجتماعي المحيط به ظهرت بشكل سمعي في ضوضاء المدينة وبشكل بصري واضح في المشاهد المصورة في أزقة ضيقة ووسط القمامة وفي الأضواء المتقطعة؛ في البداية تعطينا هذه التأثيرات السينمائية انطباعًا بجنون آرثر وضلالاته ولكن بعد فترة تصبح هذه التأثيرات الموحية بالجنون والضلال والبارانويا جزءًا من طبيعة العالم الخارجي، كأنها تقول لنا إن الجنون ليس فقط في عقل الجوكر ولكنه كذلك في العالم المحيط به.
ظهر هذا التأثير كذلك في ضوضاء المدينة التي كانت تحاكي في بعض الأوقات ضحكات آرثر الهيستيرية والمزعجة، بل ربما كان قرار المخرج استخدام موسيقى جاري جليتر، المتهم باغتصاب بأطفال (وهو القرار الذي أثار نقدًا شديدًا)، في لحظة هبوط الجوكر على السلم كأنما يهبط إلى الجنون، هي جزء من خلق عالم بصري وسمعي مريض وقذر حول الجوكر.
في البداية يظن الراوي، ويظن آرثر، ويظن المشاهدون معهما أن آرثر قد ولد بهذه الحالة ثم نكتشف مع آرثر أن هذه الحالة هي نتيجة لتعرضه إلى سلسلة من الانتهاكات الجسدية على يد زوج أمه حين يكتشف الوثائق المتعلقة بأمّه في مصحة أركام النفسية. هذه الوثائق تنبئنا أيضًا بأن آرثر وأمّه يعانيان من ضلالات وهلاوس وأن ادعاء أمّه أن أباه الحقيقي هو المليونير توماس واين (والد بروس الذي سيصبح باتمان) هي محض تجن؛ فلا نعرف إن كان آرثر باغيًا أم مغبونًا.
ولكن مخرج الفيلم، تود فيليبس، لا يريد لنا أن نصدق أي حكاية من الحكايات، حتى أننا لا نعرف يقينا إن كان الجوكر الذي يحكي الحكاية هو نفسه الجوكر- آرثر الذي نراه، ولا نعرف إن كان هو الذي ارتكب جريمة القتل التي ألهمت الناس ليرتدوا أقنعة الجوكر ويثوروا، أم أن ضلالاته هي التي صورت له ذلك. بل ربما تكون كل الحكاية، من أولها إلى آخرها، كذبًا اختلقه الجوكر الذي نراه يضحك في اللقطة الأخيرة؛ وهذا يفسر، مرة أخرة، السبب في غياب «ال» التعريف من عنوان الفيلم، كأنه يحكي قصة أي جوكر من بين الجواكر.
ولهذا فمن الممكن أن تكون هذه الوثائق التي تنفي نسب آرثر لتوماس واين والتي تنسب الهلاوس والضلالات لآرثر وأمه هي وثائق مزورة وضعها توماس واين ليتبرأ من عشيقته ومن ابنه غير الشرعي؛ ولا تغيب عنا هنا رمزية أن يكون الجنون والفقر والتهميش هو الابن غير الشرعي لرأس المال.
هذا التفسير يفتح أيضًا الباب لأن يكون جنون آرثر نتيجة لظروف نشأته منذ طفولته لا للضربة التي تلقاها على رأسه من زوج أمه المزعوم، ولا يعيد هذا التفسير فتح الباب لتحميل المجتمع والرأسمالية مسؤولية جنون آرثر فحسب، بل يفتح أيضًا الباب للتحليل النفسي الفرويدي-اللاكاني لفهم علاقة آرثر –وغيره من الجواكر- بالسلطة.
محاولات آرثر للبحث عن أب، التي تقوده إلى فرضية أبوة توماس واين له هي أيضًا محاولات للتماهي مع السلطة المالية والإعلامية «الأبوية». يتعلق آرثر بالمذيع الكوميدي ماراي فرانكلين ويتطلع إليه كما لو كان أباه، ويدخل معه في حالة من الاستيهام (قد يأخذ المشاهد وقتًا قبل أن يفطن إلى أنها محض وهم) وهو يشاهد برنامجه فيرى نفسه بين الحضور ويعلن آرثر وسط الجمهور بأنه يحب ماراي وأنه يرعى والدته. فيبادله ماراي التحية ويشيد بنبل فعله ورعايته لوالدته. في هذه الحالة، يصبح ماراي بمثابة الأب المتخيل (imaginary father) لآرثر بالمعني اللاكاني للمصطلح. ونجد آرثر يحاول تقليده دائمًا.
في غياب المحتوى السياسي للاحتجاج، يتحول الغضب إلى جنون، كما في حالة الجوكر وحالة وائل غنيم، أو إلى فورات فارغة، عنيفة وفوضوية كما في الفيلم، أو فارغة تمامًا كما حدث مع ظاهرة محمد علي.
وتمتد رحلة آرثر في البحث عن أب حين يظن توماس واين أباه ويحاول أن يخاطبه كأبيه (فيصبح توماس واين، بحسب التحليل اللاكاني، الأب الرمزي (symbolic father)). لكن آرثر لا يلقى من واين سوى النكران والخذلان. في الوقت نفسه تدخل أمّه المستشفى ويجلس إلى جانبها لرعايتها فيلقى خذلانًا آخر من أبيه المتخيل حينما يرى على شاشة التلفاز سخرية ماراي فرانكلين من أدائه الكوميدي. ويستمر الخذلان عندما تكشف الوثائق الطبية لآرثر أن أمّه تخلّت عنه في صباه لعشيقها الذي كان يسيء معاملته والذي ربما كان السبب في مرضه. ومع غياب الأب الواقعي (Real Father) فإن قتل آرثر لأمّه كان كذلك قتلًا للأب المتخاذل ممثلًا في أمّه التي لعبت في حياته دور الأب قبل أن يظهر له تخليها عنه. وبنفس المنطق، فإن آرثر أمام رفض توماس واين وخذلانه -وهو ما يتقاطع مع الخذلان المؤسساتي الذي يميز اقتصاديات النيوليبرالية- وأمام رفض ماراي له وسخريته منه، يتحول إلى الغضب وينتهي به المطاف إلى «قتل الأب»؛ وإن كان فرويد قد تحدث عن قتل الأب كمجاز للعملية النفسية التي يتصالح من خلالها الطفل مع السلطة ويحل صراعه معها، فإن آرثر الذي لا يعرف الفرق ما بين الحقيقة والخيال قد قتل الأب المتخيل حرفيًا فأطلق النار على ماراي على الهواء.
ولا يكون قتل الأب هنا مجرد حل على الطريقة الفرويدية لصراعه الذاتي مع السلطة التي يحبها ويرهبها في الوقت نفسه، ولكنه يصبح مقارعة للسلطة؛ إذ يتوازى قتل آرثر لأبيه الخيالي مع قتال جموع المهمشين للأب الرمزي الخاذل (أي سلطة الأمن ورأس المال) ويقتل أحد «المتجوكرين» بالنيابة عن آرثر أباه الرمزي (وربما الحقيقي) توماس واين، ويكون قتل توماس واين في نفس الوقت إطلاقًا للنار على رأس المال وسلطته.[1]
هذا التفسير يجعل الصدام مع السلطة أكثر جذرية ولكنه لا يملأ الفراغ الذي يتركه التنظيم السياسي.
تأويلات الفيلم في عالم تحكمه الرأسمالية والجنون
ولكن لأن الفيلم، كما أراد له مخرجه، حمّال أوجه وتأويلات، فإن لنا أن نفرض تأويلنا عليه. ومن ثم نقرأ تلقف الناس صورة الجوكر والتفافهم حولها، ونزولهم إلى الشوارع متقنعين بها، حتى وصاحب هذه الصورة يعلن عبر شاشات التلفزيون أنه ليس مسيسًا ولا يهدف إلى إنشاء حركة، كمجاز عن عالم يتصاعد فيه القهر ولا يجد الناس بديلًا فيلتفون حول أي صورة تحمل نوعًا من الأمل أو من التحريض. ففي عالمنا، كما في عالم الفيلم، حين يتصاعد الغضب ويلتبس المضمون السياسي بغياب التنظيم السياسي-الثوري القادر على توجيه هذا الغضب واستثماره، قد تتدخل الصورة الإعلامية لملء هذا الفراغ من دون أن تقدر على أن تلعب دور التنظيم السياسي الغائب، كما تلقف الناس صورة الجوكر في المظاهرات في عالم الواقع. وفي أمريكا رأينا يسار أمريكا وعربها يلتفون حول صور هوياتية مستأنسة (في شكل ثوب رشيدة طليب أو لكنة ألكساندرا كورتيز أو الفيديو الذي بثته لنفسها وهي ترقص أمام مكتبها في الكونجرس) وفي مصر رأينا الناس تلتف حول صورة المقاول المنشق محمد علي ورأينا من الناشطين في مصر وخارجها من يظنون أن هذه الصورة قد تكون عوضًا عن التنظيم السياسي قبل أن يخذلهم المقاول ويعتزلهم.
ورأينا كذلك كيف يؤدي بنا غياب التنظيم السياسي إلى أن نختار الجنون؛ صور جنون آرثر واضطرابه، وبالذات صورته وهو يرقص عاريًا، ذكرتنا، بشكل مفزع، بفيديوهات وائل غنيم وبالذات فيديوهاته التي يخلع فيها قميصه ليرقص، وكذلك بالفيديو الذي يبكي فيه وهو يناشد وزير خارجية الإمارات أن يحبه، كأنه يبحث عن ود مفقود مع سلطة أبوية خاذلة.
ليس الهدف هنا السخرية من وائل غنيم أو التعريض به (بالعكس نرى أن هذه الفيديوهات تبث الرعب بأكثر مما تدعو للسخرية)، ولكن الهدف تقديم قراءة سياسية لجنون وائل غنيم، الذي نظنه، على الأقل في جانب منه، صادقًا، ونابعًا من إحساس بالذنب والمسؤولية تجاه الذين خرجوا حين دعاهم فماتوا، وتجاه الحلم الذي ضاع أمام ناظريه. لا نريد ليّ المنطق لنوازي بين جنون آرثر الذي تخلت عنه شبكات الضمان الاجتماعي، وجنون وائل غنيم الذي طلب الحق فأخطأه، ولكن وجه المقارنة هنا هو أن جنون وائل غنيم كان بالفعل البديل عن التنظيم السياسي ونتيجة غيابه. فقد كانت دعوة صفحة «كلنا خالد سعيد» (والتي كان وائل غنيم من القائمين عليها) الناس للنزول في الخامس والعشرين من يناير 2011 دعوة «جوكرية» إذ حاولت أن تحل صورة خالد سعيد محل التنظيم السياسي، وكانت نتيجة هذا الغياب أن تضحيات الناس ذهبت سدى، فلم يكن هناك تنظيم قادر على حماية الناس أو على الأقل على أن يستثمر تضحياتهم، ولم تكن هناك شبكة للتفكير والتخطيط لتقي جماعة الناشطين (ومن بينهم وائل غنيم) من التخبط ومن اتخاذ مواقف تبين فيما بعد أنها متخاذلة ربما كان فيها شيء من الانتهازية وربما كانت نتيجة للتهديد والابتزاز (إذ ما تزال اتصالات وائل غنيم بأجهزة الأمن نقطة «التروما» بمعناها في التحليل النفسي، فهو على استعداد للاستفاضة في كل شيء والاعتراف بكل خصوصياته، ولكنه حين يأتي على هذه النقطة يظهر عليه الألم ويبدأ في سباب الناس وكأن هذا هو الجرح المكبوت الذي تحاول وسائل الدفاع النفسية إخفاءه ومواصلة كبته). وكان غياب التنظيم السياسي يعني أيضًا غياب أي آلية لنقد الذات والتجربة نقدًا موضوعيًا أو لتحمل المسؤولية بشجاعة، أو للتفكر في تلافي أخطاء هذه التجربة. وكان البديل عن هذه الآليات هو احتفاليات الجنون المشاع ووصلات الضحك والبكاء والرقص والشتيمة.
هكذا، في غياب المحتوى السياسي للاحتجاج، يتحول الغضب إلى جنون، كما في حالة الجوكر وحالة وائل غنيم، أو إلى فورات فارغة، عنيفة وفوضوية كما في الفيلم أو فارغة تمامًا كما حدث مع ظاهرة محمد علي.
-
الهوامش
[1] يقدم دانيل توت أيضًا قراءة لاكانية للفيلم إلّا أنه يرى أن ماراي هو الأب الرمزي وتوماس واين هو الأب المتخيل. ولكننا نرى أن توماس هو الأب الرمزي الذي يحتل موقعًا موازيًا للوظيفة الأبوية التي تقوم بفرض القانون وضبط الرغبة من خلال تدخله في العلاقة الخيالية الثنائية بين الأم وطفلها وإقامة ذلك الفاصل الرمزي. بينما ماراي، الذي تنشأ علاقة آرثر به من خلال الصورة ومن خلال شاشة التلفاز، فهو الأب الخيالي الللاكاني من حيث هو صورة ذهنية (Image) تبنيها الذات عبر استيهاماتها حول شخص الأب سواء كانت صورة مثالية أو نقيضها.
ينظر في ذلك: معجم تمهيدي لنظرية التحليل النفسي اللاكانية لديلان إيفانس وترجمة هشام روحانا. دار نينوى.