قبل عقودٍ نشر ريموند لوي، أحد مؤسسي التصميم المعاصر، مذكراته «القبح يُباع بشكل سيئ». كان ريموند ينتمي إلى مدرسة التصميم الصناعي، التي أرادت إضفاء طابع جمالي على عالمنا من خلال إنشاء أشياء يومية جميلة وعملية في نفس الوقت. كان الأمر يتعلق بجعل العالم أكثر انسجامًا من خلال تصميم أشياء بسيطة تجمع بين فضائل المفيد والممتع بهدف المزيد من الاستهلاك. لكنه لم يكن يتوقع في أسوأ كوابيسه أن «القبح يمكن أن يُباع بشكل أفضل». هذا ما جعل حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس حديث الألسن المعجبة والمثارة بقوة الأضواء والألوان، أو المنتقدة لخدش المشاعر الدينية أو لطغيان تمثيل الأقليات الجنسية المضطهدة ونسيان الأغلبيات المسحوقة تحت شتى صنوف الإبادة الفعلية والرمزية. لا أعني بالقبيح الحفل نفسه؛ أشكاله وفقراته ورقصاته. ربما أعجبتني لوحة هنا أو حركة هناك، حالي حال الملايين الذين شاهدوه. لكن القبيح في كل هذا البهرج هو سياقه وشرطه الذي يقام فيه. لكن من الواضح أن هذا القبح مقصود في ذاته للتغطية على أنواع أخرى من القبح المثير للغثيان.
في بلدٍ مفككٍ على نحو غير مسبوق، لأول مرةٍ منذ ستة عقودٍ، جاءت الألعاب الأولمبية هديةًَ من السماء للرئيس إيمانويل ماكرون كي يجدد روابط شعبيته البالية، وهديةً للصحافة السائدة –يمينًا ويسارًا– كي تنفخ في قربة العظمة الوطنية، وعزاءً للشعب الفرنسي ومصدر فخر يتيم، وسط شعورٍ بأن بلده الذي كان يومًا قوة عظمى، يمشي الهوينا ليحتل مكانًا إلى جانب «الدول العادية». لذلك، كانت زفرة الفرح والصخب بالحفل قويةً. يتقاذف السياسيون من كافة الأطياف التهاني، باستثناء جان لوك ميلانشون زعيم حزب «فرنسا العصية»، الذي أعجبه الحفلّ، لكنه نفر من مشهد دمية تمثل ماري أنطوانيت مقطوعة الرأس، بينما تغني إحدى أغاني الثورة الفرنسية في خلفيته قائلًا: «لماذا هي وليس هو (في إشارة للملك)؟ ألم يكن مثلها خائنًا خادمًا لأعداء فرنسا، بل وأقسم على احترام الدستور والوفاء لوطنه؟»، وليس واضحًا إن كان الزعيم اليساري يسقط الماضي على الحاضر أم لا. كما انتقد مشهد محاكاة لوحة «العشاء الأخير»، التي تقدم المسيح وحوارييه، بينما ظهرت في المشهد مجموعة من المتحولين جنسيًا والرجال الذين يرتدون ثياب النساء، متسائلًا: «لماذا المخاطرة بإيذاء المؤمنين؟ حتى عندما نكون مناهضين للإكليروس! كنا نتحدث إلى العالم في ذلك المساء. من بين مليار مسيحي في العالم، كم عدد الأشخاص الشجعان والصادقين الذين يساعدهم الإيمان على العيش ومعرفة كيفية المشاركة في المجتمع، دون إزعاج أحد؟».
عندما تعيد مشاهدة حفل باريس تخال نفسك أمام حفل مسابقة يوروفيجن للأغاني الأوروبية، التي تمثل انعكاسًا للقيم المجتمعية الأوروبية.
يشارك ميلانشون في هذا النقد –الغريب على شخصية بارزة في اليسار– عالم الأنثروبولوجيا إيمانويل توود، الذي كتب باكرًا منذ 2015 كتابًا مرجعيًا في نقد العلمانوية الفرنسية وعلاقتها بأزمة المعنى التي يعيشها المجتمع الفرنسي تحت عنوان «من هو تشارلي؟ سوسيولوجيا الأزمة الدينية». يفسر توود هذه الأزمة من خلال مفهوم «الكاثوليكية الزومبية». حيث تتجلى الأزمة في تحول العلمانية الفرنسية من موقع الحياد وضمان حرية ممارسة العقائد وضمان حرية نقدها، إلى دين قائم بذاته، له مقدساته، وينتمي له مؤمنون، يسميهم توود «الكاثوليك الزومبي»، أي أنهم ليسوا كاثوليكين إلا بالأصل العائلي. بالعودة إلى مسار طويل من تشكل السياسة والاقتصاد في فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ينتهي توود إلى تحديد الأزمة الدينية في أن اليورو «العملة الموحدة قد حل محل الإله الواحد» والإسلام أصبح «كبش فداء جديد» محل اليهود. وما بينهما، تقع الغالبية الكاثوليكية، التي فقدت أي معنى خارج منطق السوق، وأصبحت تلوذ بالعلمانية المفرطة للتعبير عن أشواقها الروحية من خلال مناصبة العداء لروحانية الآخرين.
هذا ما بدا واضحًا في مشهد محاكاة لوحة العشاء الأخير، التي لم تكن يومًا مقدسةً في المسيحية، لكنها تشير بشكل أو آخر إلى رمزٍ مقدس. ربما يكون ذلك للبعض مجالًا لحرية التعبير والنقد. لكن منذ متى كانت حفلات افتتاح الفعاليات الرياضية العالمية، التي يشاهدها الملايين من الناس بمختلف معتقداتهم، منبرًا للمناظرة والنقد؟ عندما تعيد مشاهدة حفل باريس تخال نفسك أمام حفل مسابقة يوروفيجن للأغاني الأوروبية، التي تمثل انعكاسًا للقيم المجتمعية الأوروبية. وهنا يبرز الجانب الحقيقي في هذا النزوع نحو طغيان النقد المبتذل للمقدس وطغيان ظهور فئات اجتماعية بعينها في مشهد الحفل، وهو إرادة الهيمنة المتأصلة في عقل الأوروبي الأبيض، الذي تعود منذ خمسة قرون من السيطرة المديدة على العالم بالقوة واللين؛ تلك الفكرة التي تنص على أن ثقافته المحلية هي الثقافة العالمية وأن على بقية العالم أن يتبنى هذه الثقافة بقوة الحشد والضوء والمال والتقنية.
أما المفارقة الأكثر فجاجةً في الحفل فهي الاحتفاء بالتنوع العرقي والجنسي، في وقت منعت فيه السلطات الفرنسية لاعبة ترتدي الحجاب من المشاركة في حفل الافتتاح بدعوى أنها يمكن تخشد مشاعر العلمانية السائدة، فيما سمح لكل من شارك في الحفل بأن يلبس ما شاء، على قاعدة الحرية المقدسة للمرء في أن يرتدي ما يريد كيفما يريد. المفارقة الثانية تمثلت في الاحتفاء بالتقاليد الثورية الفرنسية في حفل أشرف عليه رئيس لا يريد –بعد شهر من ظهور نتائج الانتخابات– أن يعترف بهزيمته ويرفض تكليف تحالف اليسار الفائز بتشكيل حكومة. أما الاحتفاء بالتسامح، فكان على مرأى ومسمع الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، الذي كان جالسًا في منصة كبار الشخصيات، والذي لم ينس قبل قدومه إلى باريس أن يوقع على أحد القذائف المتجهة نحو غزة للمشاركة في حفل الإبادة المستمر منذ حوالي عشرة أشهر ضد الشعب الفلسطيني.
لكن رغم الابتذال المفرط جماليًا والقبح السياسي، لم يخلُ حفل الافتتاح من مشاهد جميلة وبسيطة، كصفير الاحتجاج القوي من الجمهور عند مرور الوفد الإسرائيلي وسط نهر السين، والتصفيق الحار عند مرور الوفد الفلسطيني، فضلًا عن الراية الفلسطينية التي توزعت في أكثر من مكانٍ. وكذلك حفنة الزهور التي ألقى بها الرياضيون الجزائريون في نهر السين وفاءً لأرواح المئات من الجزائريين الذين قتلوا وألقيت جثثهم في النهر الباريسي العميق، في مجزرة 17 أكتوبر 1961، خلال حرب التحرير.
القبح خلف الشاشات
يمكن أن نختلف على ما رأيناه على الشاشات، لكن ما لم نره يبدو أشد قبحًا. شكّل تنظيم الألعاب الأولمبية منذ ثلاثة عقود دائمًا تحديًا فيما يتعلق بانعكاسه في زيادة الدين العام، وتهجير السكان المحليين، وعسكرة الفضاء العام. فقد كانت النسخة الباريسية فرصة لوزير الداخلية جيرار دارمنان لتنفيذ خطته القمعية للتخلص من مئات الأشخاص غير المرغوب فيهم في الفضاء العام، إما لجذورهم العرقية أو لانتمائهم الطبقي. فالحكومة الفرنسية تريد أن تكنس الفقر تحت السجادة الملونة بالبهرج والعظمة. إذ استبقت الأجهزة الأمنية بداية الألعاب بحملة انطلقت منذ شهور للتطهير الاجتماعي للمدينة، شملت الفئات الأشد ضعفًا في المجتمع كالمشردين وطالبي اللجوء، بما في ذلك عدد كبير من الأمهات والأطفال الذين أجبروا على الخروج من باريس. وقبل أيامٍ قليلة من بداية الألعاب، شهدت العاصمة الفرنسية عملية عسكرة غير مسبوقة، حيث تضاعف عدد المطرودين، وتزايدت عمليات الإخلاء، وجرى تفكيك المزيد من مخيمات المشردين واللاجئين من قبل السلطات في المدينة وما حولها، في منطقة الحوض الباريسي. بحسب منظمات فرنسية، فقد نقلت الشرطة 12,545 شخصًا على مدار عام، حتى لا يفسدوا بمظهرهم غير المرغوب فيه مشهد العاصمة الأولمبية. وشهدت باريس خلال النصف الأول من العام الحالي 138 عملية إخلاء، 64 منها جرت في أحياء فقيرة، و34 في مخيمات و33 في منازل مأهولة، كما أن عمليات الإخلاء هذه لا يتبعها في كثير من الأحيان تقديم بدائل ولو مؤقتة لهؤلاء السكان خارج العاصمة. وتشير المنظمات الفرنسية الناشطة في الدفاع عن ضحايا عمليات التطهير إلى أن هناك حاجة إلى 20 ألف منزل على الأقل في مختلف أنحاء فرنسا، بما في ذلك 7 آلاف منزل في منطقة إيل دو فرانس، لتوفير حل طويل الأمد للمتضررين.
أما الجانب الثاني للقبح خلف شاشات العرض الجميلة، هو استغلال المئات من العمال الأجانب في العمل في مرافق البنية التحتية للألعاب الأولمبية، دون أن تقدم لهم تصاريح العمل والإقامة. فرغم الخطاب السائد سياسيًا حول محاربة الهجرة غير النظامية ومنع عمل الأجانب غير الحاملين للتصاريح، إلا أن الشركات الفرنسية وبدعم من السلطات لا ترى بأسًا في استغلال هذه اليد العاملة، الطيعة والرخيصة، بسبب شرطها القانوني الصعب، لتسريع تسليم مشروعات الألعاب الأولمبية. في 17 تشرين الأول الماضي، أضرب أكثر من 600 مهاجر غير نظامي في 33 شركة في باريس وما حولها احتجاجًا على استغلال أصحاب عملهم ومطالبةً بالحصول على تصاريح العمل والإقامة. ونتيجة للإضراب، تمكن معظمهم من الحصول على استمارة طلب التوظيف، وهي الخطوة الأولى على الطريق إلى عقد عمل كامل. عمل العديد من المضربين في مواقع البناء استعدادًا لدورة الألعاب الأولمبية، مثل عمال البناء في ساحة بورت دو لا شابيل الرياضية، الواقعة على الطرف الشمالي لباريس. وبدونهم، لم تكن الألعاب الأولمبية ممكنة. ونظرًا لعدم حصولهم على الأوراق الرسمية، فإنهم لا يتعرضون لخطر الملاحقة والترحيل فحسب، بل هم مجبرون على ابتلاع جميع الانتهاكات في متاهة سلاسل المقاولين من الباطن، كعدم التمتع بالأجور للساعات الإضافية، أو التبليغ عن حوادث العمل التي يتعرضون لها. وبدلًا من تحرير العمل، تحاول الدولة وضع أكبر عدد ممكن من العقبات في طريق الحصول على تصريح الإقامة، حيث توفر عمليًا لرأس المال المحلي كتلة من العمال يمكن استغلالهم بحرية، وهي متاحة باستمرار وأرخص بكثير من أولئك الذين يعملون وفقًا لنظام العمل الرسمي. وعلى الرغم من وضعهم الإداري غير المنظم، فإن معظمهم يدفعون ضريبة الدخل بالإضافة إلى ضريبة القيمة المضافة، وكذلك اشتراكات الصحة والمعاشات التقاعدية، لأن المساهمة الاجتماعية منفصلة عن تسوية الوضع القانوني للإقامة.
جانب آخر أكثر قبحًا يتعلق بالمستعمرات الفرنسية ما وراء البحار وعلاقتها بهذا الحدث الرياضي. ففي الوقت الذي خصصت فيه الحكومة الفرنسية 1.4 مليار يورو لتنظيف نهر السين وجعله قابلًا للسباحة، من بينها 700 مليون ممولة من قبل وكالة مياه نهر السين نورماندي الحكومية، وذلك لخوض بعض المنافسات في الرياضات المائية القليلة، تعاني جزيرة مايوت التابعة للأراضي الفرنسية وراء البحار والواقعة في المحيط الهندي، من العطش الشديد. فمنذ آذار 2023، تعيش الجزيرة حالة جفاف شبه مطلق، حيث وصلت خزانات التلال، وهي احتياطيات اصطناعية تزود 80% من السكان بالمياه، إلى عتبة حرجة في نهاية العام الماضي. وتقضي العائلات عدة ساعات أو حتى أيام بدون ماء، وعندما يتوفر يكون أحيانًا أبيض اللون أو ملوثًا. تزايدت حالات الإسهال الحاد والجفاف والتهاب المعدة والأمعاء، خاصة بين الصغار، الأمر الذي دفع منظمة اليونسيف إلى تنبيه الحكومة الفرنسية إلى ضرورة ضمان الوصول الفعال إلى مياه الشرب من خلال نشر تدابير عاجلة. لكن ذلك لم يكن ذا جدوى، حيث ما زالت الجزيرة تعاني من مشاكل في التزود بالمياه الصالحة للشرب. فيما سجلت المراكز الصحية حالات كثيرة للإصابة بالكوليرا في الأرخبيل الفرنسي، مرتبطةً بمشاكل الصرف الصحي للمياه.
ربما سيكون من الصعب على المشاهد أن يرصد كل هذا القبح المؤسسي العميق وهو يشاهد حفل الافتتاح الأسطوري. ربما تكون غزة البعيدة بمأساتها، والعمال المهاجرون في ورشهم، وسكان مايوت العطشى لأنهم لا يسكنون باريس، غير قادرين على الظهور في شاشة العرض العملاقة والملونة. لكن وجودهم الموضوعي جنبًا إلى جنب مع هذا الحفل، كافٍ لوحده لكي لا نحبه ولا نمدحه. ربما لا يكون القبح شكليًا، ولكنه قبح روحي واضح.