في واحدة من أيام عام 2016 التي يصعب تذكرها بدقة عرّفني صديق على «رودريغيز» للمرة الأولى قائلًا لي إن قصته قد تفوق في إثارتها موسيقاه نفسها، وأرشدني لمشاهدة الفيلم الوثائقي «البحث عن رجل السكر». الأربعاء، في التاسع من آب عام 2023، رحل رودريغيز أو رجل السكر كما عرفه العالم، عن عمر 81 عامًا. خلال هذه الفترة، اتضح أن نصيحة صديقي لم تكن مجرد توصية أخرى يسهل إغفالها أو نسيانها موسيقيًا مثل توصيات أخرى نكوّمها عادةً، وبأن حكاية رودريغيز لم تكن لتنتهي الأربعاء بأي حال، كيف لا وبطلها كان قد عاش ومات مرات عديدة في السابق، دون أن يسجّل التواريخ أو يعلم بها حتى.
سيكستو يولد ويموت
ولد جيسوس سيكستو-دياز رودريغيز في مدينة ديترويت عام 1942، في ظل أطول أبنية العالم كما يقول في أغنيته «لا يمكنك الهروب»، لوالدة من الأمريكيين الأصليين وأبٍ ينتمي للجالية المكسيكية المهاجرة إلى الولايات المتحدة، والتي قادها طريقها إلى ديترويت بدايةً للعمل في معامل شركة فورد، التي كانت الموظِّف الأول لهم في المنطقة.
مع تغيّر السياسات التي تحكم تدفق العمالة المهاجرة وانخفاض سرعة دوران عجلة اقتصاد الحرب، شعرت أسرة رودريغيز ومعها كثيرون من العمال المهاجرين بالثقل، وانتهى المطاف بالموسيقي الأمريكي في ميتم على إثر وفاة والدته وعجز والده عن إعالة أطفاله الستة.
كان هذا المزيج من العمال المهاجرين من المكسيكيين وغيرهم عاملًا في التأثير على المشهد الثقافي للمدينة، فكما يقول بريان بالمر في الفصل المخصص لرودريغيز من كتاب «الماركسية والممارسة التاريخية»، عجّ هذا المشهد بالأغاني الاحتجاجية التي كانت حياة العمال وظروف عملهم وحياتهم في هذا المجتمع الجديد موضوعها، وعرفها رودريغيز من مصادر عدة أبرزها والده الذي كان يعزف الموسيقى هو الآخر. إلا أن الفضل، بسياق أوسع، يمكن نسبه للفترة الزمنية نفسها. ففي الستينيات، وعندما كان رودريغيز شابًا، لم يكن عزل الموسيقى الجديدة عن السياق السياسي ممكنًا، إذ كانت الستينيات الحقبة التي شعر فيها رودريغيز وهو يكتب كلمات أغانيه بأن الولايات المتحدة مقبلة على ثورة. وبالفعل، شهدت الفترة بين منتصف الستينيات حتى نهايتها احتجاجات عدة في الولايات المتحدة ولأسباب مختلفة كالتمييز العرقي والحرب في فييتنام وحقوق العمال، ولعبت هذه الفترة دورًا في تشكيل الوعي السياسي والموسيقي لدى الفنان، الذي بدأ العزف عندما كان في السادسة عشرة من عمره.
يفترض التسلسل المنطقي لكل هذه الأحداث أن يدخل الشاب الخجول، الذي كان يشتغل في أعمال البناء، الاستوديو في نهاية المطاف وهو ما جرى بالضبط، حين سجّل إصدارًا منفردًا في البداية عام 1967، ثم أطلق ألبوميه الوحيدين، «حقيقة باردة» عام 1970 و«آتٍ من الواقع» عام 1971 تحت اسم «رودريغيز». كما يفترض التسلسل المنطقي أيضًا، نجاحًا يحققه هذا الفنان باعتبار أن وفاته اليوم تستوجب كتابة مقالة عنه، وهو ما جرى بالفعل، إنما بأطول الطرق الممكنة.
فشل رودريغيز في تسجيل اسمه كموسيقي، وبدا أنه لن يعتلي خشبةً أكبر من تلك التي كانت توفرها حانات مدينته، إذ لم يحقق ألبوماه أي نجاح يذكر، وبحلول عام 1976 تخلّى رودريغيز عن طموحه الموسيقي وأغلقت «تسجيلات ساسكس»، التي أطلقت ألبوميه، أبوابها بعد أن تخلّت عنه.
يقترح بالمر أسبابًا لهذا الفشل، ومنها أن حالة رودريغيز كغريب وحيد لم تكن مجرّد محاولة لاحقة لأسطرته، بل حقيقة أضرت بفرصه داخل وسط يحتاج كل الصلات والمعارف الموجودة، فضلًا عن تأخره في إدراك أي الجهات تهب منها الريح. فبحلول الفترة التي صدر فيها الألبومان، كانت الموجة السياسية التي ميّزت العقد المنصرم قد انكسرت وزال معها النفس الاحتجاجي الذي نجح فنانون آخرون في التملّص منه وإخفائه وبدأ معها عصر «الديسكو»، معلنًا موت الفنان الذي حمل في أحد الأيام اسم رودريغيز.
الولادة غير المتوقعة لرجل السكر
لم تكن الظروف في الولايات المتحدة مهيأة لقبول رودريغيز إذن، إلا أن موسيقاه وصلت بطريقة أو بأخرى إلى أماكن أكثر جهوزية لتقبلها. ففي السبعينيات نفسها، كانت جنوب أفريقيا تخوض معركتها ضد نظام الفصل العنصري أو الأبارتهيد، الذي جثم على البلاد حتى تسعينات القرن الماضي. واليوم توصف السبعينيات بالمرحلة المفصلية في النضال ضد هذا الحكم، إذ شهدت الفترة تنسيقًا بين النقابات والحركات الطلابية ومناهضي الأبارتهايد، وترافق ذلك مع الدعوات العالمية لفرض العقوبات على جنوب أفريقيا والضغط عليها. مقابل هذا المشهد، فرضت الحكومة حينها تضييقات وملاحقات على الناشطين، ورقابة محكمة على وسائل الإعلام والتعبير ضمن ثقافة محافظة.
ضمن هذا السياق، ظهرت شرائط رودريغيز. لا يعلم أحد بالضبط كيف وصلت إلى جنوب أفريقيا، إلا أنها لاقت شعبية واستحسانًا، خصيصًا لدى أبناء الطبقة المتوسطة البيض الذين كانوا ضمن الحراك المناهض للأبارتهايد، كاسرة عددًا من المحظورات داخل البلاد.
هذا ما يقوله فيلم «البحث عن رجل السكر» عن انتشار موسيقى رودريغيز في جنوب أفريقيا، وما تخللها من محاولات لبناء قصة حياة لفنانٍ أمريكي بلا معلومات شخصية أو تغطية في وسائل الإعلام. شاع حينها أن رودريغيز، الذي صار يُعرَف بـ «رجل السكر» نسبة لواحدة من أغانيه، حرق نفسه أو أطلق النار على نفسه في المسرح أمام الجمهور، بينما قال آخرون إنه توفي في السجن. لم يشبه هذا الانتشار أي شيء آخر، لا من حيث موضع «النجم» داخله، ولا حتى من ناحية الانتشار القانوني وغير القانوني لأشرطة رودريغيز، الذي لم يحصل على أي مردودٍ معنوي أو مادي ولم يعلم حتى بأن ألبوميه يغذيان مخيلات الشباب ويقضان مضجع الرقابة في بلدٍ بعيدٍ عنه، حتى التسعينيات حين نجح صحفي موسيقي ومالك متجر تسجيلات في تتبع الفنان الذي اتضح أنه لا يزال على قيد الحياة وتتويج قصته بنهاية سعيدة عبر إحيائه مجموعة من الحفلات في هذه الوجهة المفاجئة.
كتب الفيلم الذي صدر عام 2012 عمرًا جديدًا للفنان. فرغم الصلة التي يحاول الفيلم رصدها بين رودريغيز وجماهيره الجدد، لم يكن بالإمكان وصفه بالنجم العالمي أو الأمريكي حتى، إلى أن صار موضوع الفيلم الوثائقي نفسه للمخرج السويدي من أصل جزائري مالك بن جلول.
روى الفيلم حكاية الولادة المفاجئة، ببطلها المغمور الذي صار ظاهرة في مكان آخر من العالم، مع محاولات غير متماسكة لتقصي موضوع العوائد المالية والظهور اللذين لم يجدا طريقهما إلى رودريغيز، وملمحًا بطريقة غير مباشرة لتحمل شخصيات أخرى مسؤولية ذلك، منها المنتج الموسيقي كلارنس أفانت، الذي توفي بعد رودريغيز بأيام قليلة.
نال الفيلم استحسانًا جماهيريًا ونقديًا، وظفر بعدة جوائز كانت أبرزها جائزتا الأوسكار والبافتا لأفضل فيلم وثائقي، بل ربما ساهمت قصة إنتاج الفيلم، بكل الصعوبات التقنية والمالية التي واجهها بن جلول أثناء صناعته في مقاربة حكاية رودريغيز وصانع الفيلم، كبطلين معذبين، ودفع موسيقى رودريغيز، التي تظهر في الفيلم، إلى جمهورٍ واسع لم يكن يعرف بوجودها حتى وقت قريبٍ جدًا وحينها فقط صار من الممكن الحديث عن ولادة «رجل السكر»، الذي صار يجوب العالم في جولات موسيقية ونال لقب «العالمي» بعد كل شيء.
حيوات رودريغيز العديدة
ينفع ربما أن نخرج الآن من رواية القصة بعد المرور السريع عليها، والتفكير بما تعنيه. فنحن أمام موسيقيٍ تأثّر تلقيه بعدة عوامل، بل وربما أمام مادة فيلمية كوّنت تصوراتنا عن هذا الموسيقي من جهة، وتأثر تلقيها من جهة أخرى بأن مخرجها قرر أن ينهي حياته بعد إصدار الفيلم بفترة قصيرة في عام 2014، فاتحًا الباب للتكهنات حول سبب ما جرى ومعيدًا الفيلم وبطله إلى الواجهة.
وبينما تبدو المقولة النهائية لقصة رودريغيز مرتبطة بالعدالة أو الموهبة التي لا يمكن أن تضيع مهما جار عليها الزمن، فإن المزيد من التفكير يفتحها أمام تصدعاتٍ تحتاجها هذه القصة لفهمها بشكلٍ كامل. عندما ظهر فيلم «رجل السكر» عام 2012، كان هذا الكائن محكومًا بسرديته التي ذكرناها أعلاه ونعمل الآن على تفحصها. فكما يقدمه الفيلم، يعيش رودريغيز حياة كاملة لا يعرف عنها شيئًا حتى تحين لحظة إعادة ولادته عام 1998. تغفل القصة السابقة بعض التفاصيل الأساسية مثل جولتين قام بهما في أستراليا عامي 1979 و1981، وذكر تفاصيلٍ كهذه ليس بغرض تحرّي الدقة المفرط، بقدر ما يرتبط بشكل السردية نفسها.
فمع تركيز حكاية الفيلم، التي أصبحت الحكاية شبه الرسمية لرودريغيز، على هذا المسار المبسّط، يلحظ من يتابع الفيلم غياب الجهد الاستقصائي عن مسائل مثل العوائد المالية الضائعة، أو بالأحرى أسئلة أكثر دقة؛ هل كان أفانت المسؤول فعلًا عن سرقتها؟ وإن لم يكن، فعلى من تقع هذه المسؤولية وكيف لتفصيل كهذا أن يمر؟
لا يمكن للحكاية التي يرويها الفيلم أن تمر على هذه الأسئلة، لأنها مشغولة بالدرجة الأولى بالعثور على رجل السكر، لا بمعرفة سبب اختفائه وكيف. وبينما يصعب تحميل الفيلم مسؤوليةً لا طاقة له بها، يمكن الخروج باستنتاج مختلف: ربما قتلت «صناعة الترفيه» رودريغيز مرتين، الأولى حين استغلّت طمسه، والثانية عندما استطاعت تحويل فعلتها الأولى إلى قصة ملهمة وجديرة بـ«الهايب» الذي يصعب معه تخيّل كل هذه الأسئلة وهي تُطرَح، وقدمت لنا نتاج رودريغيز بوصفه «اكتشافًا» مغمورًا ليس لأي مستمعٍ، إنما لهواة النبش. ربما ساهمت طبيعة رودريغيز، كما نتلمسها خلال المقابلات على الأقل، في تكريس سوء الفهم مع كل مرّة أكد فيها أنه متصالح مع كيفية مرور سيرته الفنية، ما يعطي الانطباع الأول بأن ما جرى لم يكن بالأمر الجلل.
ترك رودريغيز إرثًا موسيقيًا لم يستطع هو ذاته توقع كيف سيتم تأويله والتعاطي معه، ليجد نتاجه، هو الذي لم يعرف مدينة سوى ديترويت، طريقه إلى معادلات أخرى بأزمنة وأمكنة مختلفة كل الاختلاف.
إلا أن رودريغيز، كما نتعرّف عليه في أغانيه، يبدو أكثر مباشرةً حيال الظلم. ففي أغانٍ مثل «بلوز المؤسسة» أو «أغنية في غاية القرف»، نلحظ اندفاعًا أعنف وإشارات ليست بالخفية تجاه السلطات السياسية والمنظومة التي تحكم عملنا وعلاقاتنا وكيف ننظر إلى الحب والجمال، بينما توضح أغانٍ مثل «اصلِب عقلك» براعته اللغوية والتي عززت من الحجة القائلة إنه يستحق مكانته بجانب موسيقيين كبار مثل بوب ديلان أو بول سيمون.
يبدو الصراع حين يتعلق الأمر برودريغيز إذن صراعًا على القصة؛ من يعرّف رودريغيز وكيف. ولمّا حفلت حياته بمواقفٍ ذات طابع سياسي واضح مثل محاولاته الترشح لمجلس مدينة ديترويت وعمدتها، محاربًا الفقر الذي ينتشر في المدينة ورجالَ شرطتها، فإن معظم هذه التفاصيل ليست بالوضوح ذاته في سرديته المتناقلة اليوم والتي تبدو تكرارًا آخر لحكاية «الفنان المعذّب» التي لا تنصف الفنانين، أو أي ممن يبيعون عملهم حقيقة، وهو ما يؤكد ضرورة البحث عن إطار جديد لهذه القصة.
ضمن هذا الإطار لن يكون رودريغيز، بالمقام الأول، مجرد فردٍ امتهن الفن، بل ممثلًا لموضع الكثيرين من أمثاله في صراعهم مع صناعة محكمة التنظيم ومتراصة الصفوف وتعرف كيف تدير مصالحها، منذ صدور أولى وسائط التسجيل وحتى عصر البث مستغلةً كل ما يقع تحت يديها، بما في ذلك أخطاءها.
وبهذه الطريقة، ستبرز حيواته الكثيرة، حينما تُدرَس بالعلاقة الوثيقة بالسياق الذي ينتجها ويتلقاها، ما يمكن له أن يفوق بكثير مجرد مصادفات وحظ سعيد ابتسم لرودريغيز (الذي استغرقه الأمر حتى العام الماضي لينال حقوقه المادية). فما يجري اليوم لا يخلّف وراءه مأساة واحدة يمكن إصلاحها بتعويض متضررٍ واحد، بل مآسٍ عدّة تبدأ باحتكار عدة مؤدين للصناعة، وتمتد حتى ممارسات الأستوديوهات من العقود الطويلة الاستغلالية وآلية توزيع العوائد التي تتقاسمها الاستوديوهات ومنصات البث اليوم وتشكل عصب الصناعة، ليصل الأمر إلى الموسيقى الحية والتذاكر التي بيّنت فضيحة «تيكيت ماستر» مقادر الخلل فيها. وإزاء كل هذا، لا يجب أن يكون أقصى ما يمكن التفكير به محصورًا باحتمال أن تمدنا الصناعة ذاتها بدفقات عشوائية من العدالة كل فترة كاشفةً لنا عن فنان آخر كان خفيًا لسبب ما.
لا تنكر هذه القراءة العوامل التي تشكّل فرادة تجربة رودريغيز في الوقت نفسه. فكما يثبت الامتحان الأهم، ترك رودريغيز ككاتب كلمات ومغنٍ إرثًا موسيقيًا لم يستطع هو ذاته توقع كيف سيتم تأويله والتعاطي معه وملء ثغراته من قبل المتلقين، ليجد نتاجه، هو الذي لم يعرف مدينة سوى ديترويت، طريقه إلى معادلات أخرى بأزمنة وأمكنة مختلفة كل الاختلاف، ويستطيع أسلوبه الذي يمزج الفولك والروك والبلوز أن يحافظ على سحره اليوم بعد عقودٍ تلت لحظة إنتاجه.
يخاطب رودريغيز في واحدة من أولى حفلاته في جنوب أفريقيا الجمهور، ويقول لهم «شكرًا لإبقائي على قيد الحياة». ينفع تأمل هذه العبارة الآن أكثر من أي وقت مضى. كيف يموت الفنانون؟ والأهم كيف يعيشون؟ ولن تكون الإجابات سهلة أو بسيطة، بل ستتشابك فيها ذات الفنان مع أعماله، التي تتفاعل هي الأخرى مع القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وستختلط الطبيعة المتسامية للفن مع الفواتير والنفقات وأساسيات الحياة المادية، التي تفرض نفسها على الفنان والبنّاء بنفس الطريقة. وفي الواقع، فإن الدعوة الصريحة للتفكّر بكل هذه الأسئلة قد يكون أهم ما سيضمن بقاء رودريغيز على قيد الحياة اليوم وفي المستقبل كقامة لا يمكن اختزالها بقالب تراجيدي، حالها حال الأعمال التي تركها لنا وتزخر هي نفسها بالدعوة للـ«تساؤل»، كما تقول واحدة من أشهر أغانيه.