أكوان الحيوان

ثعابين تبلع الأفيال وتماسيح تبكي الأرانب: رحلة مع «أكوان الحيوان»

تصميم محمد شحادة.

ثعابين تبلع الأفيال وتماسيح تبكي الأرانب: رحلة مع «أكوان الحيوان»

الخميس 09 آذار 2023

«الكبار لا يستطيعون إطلاقًا أن يفهموا أي شيء بأنفسهم، وإنه لمن المزعج حقًّا للأطفال أن يضطروا دائمًا وأبدًا إلى أن يشرحوا لهم كل شيء».
أنطوان دو سانت إكزوبيري، الأمير الصغير

يحكي لنا راوي قصة «الأمير الصغير» عن النقطة التي بدأت عندها حياته الحقيقية، حين رأَى في السادسة من عمره صورة رائعة في كتاب بعنوان «قصص حقيقية من الطبيعة» يظهر فيها ثعبان يعتصر فريسته ويبتلعها، فتأمَّلها طويلًا وحاول أن يرسم ثعبانًا يهضم في بطنه فيلًا، لكن الكبار لم يستطيعوا أن يروا في الرسم سوى قبعة، وفشلوا تمامًا في فهم لوحته حتى بعد محاولاته لشرحها، ونصحوه بالتركيز على دراسة العلوم النافعة كالجغرافيا والحساب، بدلًا من رسم الثعابين. وهكذا تخلَّى حينها عن حلمه بأن يصير رسامًا عظيمًا، لكنه لم يتخلَّ عن لوحته التي كان بين الحين والآخر يُريها لبعض مَن يقابلهم ويتوسَّم فيهم شيئًا من الذكاء، لكن الجميع كانوا يقولون إنها قبعة. حينئذٍ كان يقرر ألا يحدثهم عن الغابات والنجوم والثعابين العاصرة وإنما عن السياسة والرياضة وربطات العنق، وحينئذٍ كانوا يشعرون بالسعادة الغامرة لمقابلة شخصٍ في رجاحة عقله.‎

ثعابين تبتلع الأفيال

أما أنا، فربما كان حبي للحيوانات أقدَم من أن أحدِّد له نقطة بداية، لكنني أتذكَّر منعطفات معيَّنة كان هذا الحب يأخذ عندها أبعادًا جديدة. أتذكَّر مثلًا ألبوم «حيوانات العالم» من شركة «بانيني» الإيطالية، الذي كان يصوِّر في كل صفحتين متقابلتين قارة أو منطقة من العالم، وينثر فيهما إطارات فارغة كُتِب تحت كلٍّ منها سطران أو ثلاثة، تسرد بالإنجليزية معلومةً عن حيوانٍ لن أراه إلا إذا اشتريتُ تلك الظروف الورقية التي كان كل واحد منها يحوي ست صور لاصقة، ويحمل صورة مصغَّرة فاتنة لغلاف الألبوم -الذي صدَر على ما يبدو في عام 1989- يَظهر فيها دب بني مع صغيره.

غلاف ألبوم حيوانات العالم

كانت أمي تعرف حينها أن لا فرحة عندي تُعادِل فرحة رؤيتها تعود إلى البيت وتُخرِج لي من حقيبتها ظروف صور الألبوم. وكنتُ أتردد كثيرًا في تمزيق غلافها الورقي الرقيق، لكن اللهفة كانت تغلبني في كل مرة، فأفتحها وتتوهج فرحتي بكل صورة جديدة، وأتخيَّل مكان إطارها في صفحات الألبوم قبل أن ألصقها هناك بأقصى حرص ممكن على مطابقة حدود الإطار، ثم أعيد قراءة السطور تحتها للمرة الألف دون ذرة ملل. ساعات طويلة من المتعة الصافية قضيتُها في محاولة إكمال نسختي من الألبوم، لا يُثنيني عن ذلك تراكُم الصور المكررة عندي بالمئات ربما. وهي مشكلة حاولَت أمي مساعدتي في حلِّها حين تطوَّعَت بالعمل كساعي بريد بيني وبين طفل من أقارب إحدى صديقاتها (تُرى أين أنتَ الآن في الدنيا يا بسَّام؟) كنتُ أبادل معه صوري المكررة. رغم كل هذه المساعي لم أنجح في امتلاك ألبوم كامل، لكن الألبوم -على ما يبدو لي الآن بمنتهى الوضوح- هو الذي نجح في امتلاكي بالكامل. إلى درجة أنني وجدتُ نفسي ذات يوم أحاول تقليد فكرته، فأكتب معلومة عن «دموع التماسيح» وأرسم بجوارها تمساحًا يجري خلف أرنب ثم يفترسه ويبكي.

تماسيح تبكي الأرانب

لا أنسى ولعي بألبوم الحيوانات، وما زلتُ أملك نسختي الناقصة المهترئة. لكن هناك كتابًا آخر اشتراه لي أبي، لا أنساه ولم أتوقف يومًا عن البحث عنه. على غلافه الأبيض كُتبَت كلمات: «إيرينا ياكوڤليڤا، الباليونتولوچي، علم الحيوانات المنقرضة، سجل مصور» ورُسِمَ ديناصور ضخم مدرَّع ومسلَّح بثلاثة قرون. لم أكن أتذكَّر من كلمات الغلاف سوى عبارة «الحيوانات المنقرضة» التي كانت مكتوبة بخط اليد. أما رسوم الكتاب -التي عرفتُ لاحقًا اسم مبدعها «روبين ڤارشاموڤ»- فما زالت كلها تضرب إلى اليوم ذاكرتي كالبرق. حاولتُ طويلًا البحث عن الكتاب أو حتى عن لوحة واحدة منه، وفشلتُ، إذ لم أكن أعرف أي معلومات يمكن أن تقودني إليه. في الخامسة من عمري، أو ربما السادسة، لم أكن بالطبع أهتم بأسماء المؤلفين ودور النشر. كان ذلك آخِر ما قد يثير اهتمامي وخيالي في صفحات كتاب مثل هذا.

غلاف كتاب علم الحيوانات المنقرضة

لكن صُدفة لا تكاد تصدَّق قادتني -قبل سنة بالضبط- إلى نسخة إلكترونية، وهكذا جلستُ أتأمل الرسوم المحفورة بتفاصيلها في أعمق طبقات ذاكرتي وتكويني، وأقرأ الكلمات التي سحرَتني تمامًا في طفولتي، وأكتشف أنني ما زلتُ واقعًا في سحرها بالقدر نفسه بعد كل تلك السنين. كانت «إيرينا ياكوڤليڤا» تستطيع أن تكتفي بتقديم بعض المعلومات تحت رسوم بعض الديناصورات على طريقة ألبوم الحيوانات، لكنها اختارت أن تجعل من كتابها كله محاكاةً للفكرة التي يقوم عليها علم الأحافير، إذ تقول في المقدمة: «إن التاريخ الذي تقوله لنا الصخور هو تاريخ الكرة الأرضية نفسها، وصفحات التاريخ هي طبقات الرمل والصخر. وكلما كانت طبقات الأرض عميقة كانت أقدم من التي أقل عمقًا منها. في هذا الكتاب سترى حيوانات وزواحف وطيور ونباتات، بنفس الترتيب الذي ظهرَت به في صفحات تاريخ الصخور. ففي البداية سنصف لك الحيوانات التي تشبه حيوانات العصر الحالي، أما أقدم الحيوانات والنباتات فستأتي في النهاية».

ولهذا وجدتُ نفسي في منتصف الكتاب تقريبًا أمام لوحة لم أنسها يومًا، يظهر فيها ديناصور يقف وحيدًا على شاطئ يتأمل أمواجه، بينما تلمع عينه بين ظلال وجهه ببقايا الضوء البرتقالي للشمس الغاربة، وأقرأ وأنا أغالب دموعي -في الصغر وفي الكبر- كلمات «إيرينا» التي حفرت مكانًا أبديًّا في قلبي: 

«حيوانات صغيرة سريعة كانت تجري من مكان إلى آخر، تمد إلى الأمام أنوفها الطويلة وتمضغ بأسنانها الحادة كل شيء تجده. تُوقِف المضغ وتُرهِف السمع ثم تُوجِّه أنظارها نحو نقطة معينة. وفي لمح البصر تختفي هذه الحيوانات الصغيرة، إذ يظهر عملاق قبيح المنظر رتيب الحركة ويقف في المكان الذي كانت تحتله منذ برهة هذه الحيوانات الصغيرة. وحين تغرب الشمس وتمر الأشباح الداكنة على الأرض، تبدو الأحجار والصخور على شاطئ البحيرة في حمرة تنذر بالشؤم، إذ تنعكس حمرتها في عيني هذا العملاق، وتبدو مخالبه الضخمة كأنها جذوع أشجار دبت فيها الحياة فتحركَت، ثم فجأة يدوي صوت ندائه الحزين فوق ماء البحيرة، ثم يسود صمت رهيب وتعود الحيوانات الصغيرة سيرتها الأولى فتخرج من تحت الصخور والأحجار ثم تستأنف الجري واللعب كما كانت. لم تهتم بهذا العملاق الوحيد الذي اعتاد أن يأتي كل يوم عند غروب الشمس وينتظر عبثًا أن يجيب أحد نداءه. لقد اعتادت الحيوانات الصغيرة هذا الأمر كما اعتادت الصخور الخشنة ورائحة الطحالب. أما العملاق فلم يكن هو الآخر يعطي أهمية ما لهذه الحيوانات الصغيرة إذ إنه لم يكن يدري أن زمانه قد آذن بالزوال، وأن هذه الحيوانات الصغيرة هي الأجداد الأُوَل للفيلة والكركدن وفرس البحر والحيتان، وأن هذه التي تجري الآن تحت وحول أرجله الثقيلة دون أن يعيرها أي اهتمام سوف تتطور وتنمو وتصبح سادة الأرض لآلاف السنين».

عملاق ولَّى زمانه

نقلتُ هنا الفقرة بأكملها ليتجلى الفارق بين ألبوم «حيوانات العالم» وكتاب «الحيوانات المنقرضة»؛ إذ اكتفَى الأول ببراعة عرض الصور والتشويق إلى اقتنائها، بينما اعتمد الثاني في عرض العلوم على استخدام الفنون بكل صورة ممكنة، من رسوم فاتنة إلى لغة ساحرة هي إلى الشِّعر أقرب ما تكون. وليتجلى الفارق بين كتاب ينجح في امتلاك قلب طفل يحب التملُّك، إلى آخَر يغوص بهذا القلب إلى أعماق لم يكن يتصور وجودها، ويطوف به في آفاق لانهائية من الجمال تتلاشى فيها الحدود بين العلم والفن.

من كلمات «إيرينا ياكوڤليڤا» فهمتُ طبيعة الإنسان الذي كنتُه يومًا، ولماذا صرتُ إلى مَن أصبحتُه الآن، وكيف أمضيتُ عمري بين محاولة النظر في أمم الحيوانات، ومحاولة التعبير عن روعة ما أراه. فأنشأتُ صفحة «أمم أمثالكم» على فيسبوك في عام 2010، واشتغلتُ بعدها في الصحافة العلمية فكتبتُ -وترجمتُ- لعدة مواقع تقارير صحفية مختصرة تغطي نتائج واكتشافات الدراسات العلمية وتُحاوِر مؤلِّفيها (حاولتُ ألا أخرج فيها أبدًا عن مواضيع علم الحيوان) ثم كتبتُ مقالات أطول تستعرض الجوانب الفريدة لحياة الحيوانات وعلاقاتنا بها. وكتبتُ حتى بعض النصوص لمناهج تعليمية للأطفال حدَّثتُهم فيها عن الحيوانات، واحتفظَت الحيوانات ببطولة نصف قصص كتابي الأول «حكايات بعد النوم». وفي كل ما كتبتُ حاولتُ ألا أنسى ما تعلَّمته من «إيرينا»، فحرصتُ على ألا أكتفي بعرض المعلومات المجرَّدة -مهما كانت مدهشة- دون أن أشير إلى انعكاساتها في مرآة الروح، وأن أتجاوز التشبُّث بلغة العلم الباردة إلى توظيف ألوان الأدب الدافئة (دون التخلي بالطبع عن دقة التوثيق العلمي)، وأن أستحضر دائمًا روح التراث الثقافي الإنساني، وهو المزيج الذي يعبِّر عنه أستاذنا الدكتور محمد المخزنجي بمصطلح «الثقافة الثالثة»، وتعبِّر عنه -بأبهى صورة ممكنة- كتاباته الفريدة في هذا الباب.

وفي شباط 2023، صدر في مصر عن دار «عصير الكتب» كتابي «أكوان الحيوان» ليجمع ستين مقالًا تتباين في الطول والنوع وتشترك في الفكرة والروح، تتناول العديد من الجوانب الفريدة في حياة الحيوانات، وتحاول تسليط الضوء على قدراتها المدهشة التي يكشف لنا العلمُ المزيدَ عنها كل يوم. وعلى صفحاته الملونة -والمزوَّدة بأكثر من مئة صورة- سوف يقابل القارئ أسماكًا تستطيع تمييز انعكاسات صورها والتعرُّف على أنفسها، ونوارس تتواصل أجنتها فيما بينها قبل أن تخرج من بيضها، وفئرانًا تتحاور بالغناء في ثنائيات، ودلافين تختار أصحابها على أساس الاهتمام المشترك، وحيتانًا تتلاعب بالأسماك لصيدها، وخنافس تلعب بالضوء وتستخدمه سلاحًا للبقاء، وسناجب تتوهج في الظلام، ونملًا لا يعاني أبدًا زحام المرور، وثعابين تتفنن في طبخ السموم، وعناكب تتقن التمثيل، ودبابير لها أساليب حياة تتضاءل إلى جوارها أفلام الرعب، وقرودًا تُنافس البشر في استخدام الأدوات، وضفادع تبني قلاعًا من الحجارة، وتنانين حقيقية مسلحة بالدروع الثقيلة، وبومًا يروّع فرائسه في ضوء القمر، وأسُودًا تنجح في تهديد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وكائنات مجهولة تمامًا تسكن ظلام الأعماق، وأساطير مخلوقات عتيقة هيمنَت على الأرض لملايين السنين قبل أن تنقرض، وحكايات عن مخلوقات جديدة قد تهدد العالَم كله بالانقراض، وعجائب أخرى لا حدود لها من أكوان الحيوان.

غلاف كتاب أكوان الحيوان

لا شك أن التقصير في إخراج هذه القصص حتمي إذا كان ما أحلم به هو كتابة ما يداني في الجمال كتاب «الحيوانات المنقرضة» الذي لم أعتبره يومًا مجرد كتاب تاريخ طبيعي، وإنما وجدتُ فيه -بصورة أو بأخرى- تاريخي أنا وطبيعتي أنا، رغم أنني لم أجد نسختي منه حتى هذه اللحظة. ولهذا سأرجوكم: إذا رأى أحدُكم كتابًا يظهر على غلافه الأبيض ديناصور ثلاثي القرون، وقلَّب صفحاته فوجد عملاقًا كئيب المظهر تعكس عينه آخِر شعاع للشمس المحتضرة، فليُرِح قلبي ويُرسِل لي أن كتابي الصغير قد عاد أخيرًا.


هذا المقال مبني على مقدمة كتاب «أكوان الحيوان»، الصادر عن دار «عصير الكتب» في شباط 2023.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية