رحيل حلمي التوني: نهرٌ من الفن يصل مصبّه

الخميس 19 أيلول 2024
عن صفحة مركز دراسات الشرائط المصورة العربية في الجامعة الأمريكية في بيروت.

على لوح رسم صغير أسود في صعيد مصر، رسم حلمي ذو السبع سنوات صورة لبقرة، احتفى والده بإتقانها الشديد وجمالها وعرضَها على عمّه الذي يعمل بالزراعة متحديًا إياه بأن يرسم أجمل منها. منذ ذلك اليوم، خُلقت للمرة الأولى فكرة الفن في رأس الصبي الصغير، الذي سيصبح الرسام والمصمم ومؤلف كتب الأطفال الذي ساهم في تشكيل الهوية البصرية للأدب العربي، برسمه أكثر من أربعة آلاف غلاف كتاب.

ولد الفنان حلمي التوني في ربيع عام 1934 في بني سويف شمال صعيد مصر. وعاش مع والدته وإخوته بعد وفاة والده حين كان عمره 16 عامًا. على المستوى الدراسي، لم يكن حلمي موفقًا، فقد أخفق في العديد من المواد ورسب في ثلاثة صفوف، وحصل على شهادة الثانوية العامة في عمر 21 عامًا مُتأخرًا عن أقرانه. لكن هذه العلاقة المُضطربة مع الدراسة سرعان ما انقلبت إلى تميز واجتهاد فور دخوله كلية الفنون الجميلة في القاهرة، ليحصل عام 1958 على البكالوريوس باختصاص ديكور مسرحي، وهو التخصص الذي وافقت عليه العائلة التي عمل أغلب أفرادها بالهندسة، بعد مفاوضات طويلة، على اعتبار أن احتمالية إيجاد وظيفة في مجال الديكور ستكون أكبر من غيره من التخصصات الفنية.

في ذلك الوقت، كان حلمي قد بدأ العمل بالفعل، فبعد أن عاش ظروفًا اقتصادية جيدة مع العائلة في طفولته، أدرك في شبابه أن الحال قد تغير للأبد، حين ناولته أمه قطعًا من مجوهراتها ليبيعها في سوق قريب. فبدأ العمل مُدركًا ضرورة تأمين مصروفه الشخصي على الأقل، كشكل من الدعم لوالدته التي تحملت هذه المسؤولية وحيدة.[1]

عمل التوني في البداية كرسام توضيحي لمجلة الكواكب المتخصصة بالموسيقى والسينما. لينتقل لاحقًا بعد تخرجه للعمل كرسام صحفي في دار الهلال للنشر في القاهرة، وأصبح بعد سنوات المدير الفني للدار. وسمحت له طبيعة عمله في تلك المرحلة بالاحتكاك بعدد من الصحفيين والكُتاب والأدباء، الأمر الذي أكسبه مدخلًا إلى قضايا وطنية مفصلية عديدة، عبّر عنها بوضوح في فنه لسنوات طويلة، بلا مهادنة أو تراجع، وعلى رأسها قضية احتلال فلسطين.

من الأعمال المبكرة لحلمي التوني

في أوائل السبعينيات، ومع تولّي أنور السادات الحكم، استشعر عدد من الفنانين والكُتاب والمُفكرين السياسة الجديدة التي تميل للسلام مع الاحتلال، فرفعوا أصواتهم الرافضة لهذه السياسة. لتبدأ معها حملات قمعية فرضت عليهم قيودًا في عملهم.

تلقى التوني عروضًا كثيرة للانتقال للعمل في بيروت، كان أهمها من دار الآداب وجريدة السفير اليومية حديثة الإنشاء. لم يصمد التوني طويلًا أمام إلحاح الزملاء في بيروت، فقد بات الأمر حتميًا حين فُصل من عمله بدار الهلال عام 1974 بتهمة الشيوعية، ليُغادر إلى بيروت برفقة مجموعة من الكُتاب والعاملين بدار الشروق التي ربطته علاقة جيدة بإدارتها. كان يعلم أنها ليست فرصة عمل بظروف أفضل فحسب، بل هي فرصة للاستمرار بممارسة التعبير عن آرائه السياسية من خلال الرسومات والمطبوعات في مؤسسات تحتضنه.

أغلفة عدد من الكتب من تصميم حلمي التوني

في بيروت -المشتعلة ثقافيًا آنذاك- توحدت القيم الثقافية والتحمت خبرات المثقفين المصريين المتراكمة مع استعداد اللبنانيين لتوظيفها، مما أسس لأرضية عربية قومية ثقافية مشتركة، تتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة. وتعبيرًا عنها، شاع حينها المثل الشعبي بين الناشرين «مصر تكتب، ولبنان يطبع، والعراق يقرأ». كانت خبرة التوني في الرسم والتصميم محط اهتمام كبير في بيروت، لا لندرة الممارسين الفنيين، بل لخبرته التي تجمع بين الممارسة الفنية والصحفية،[2] مما أتاح له فرص عمل مع جهات عديدة. فعمل مع إبراهيم المعلم في دار الشروق، وسهيل إدريس في دار الآداب، وفي جريدة السفير لطلال سلمان (التي صمم شعارها)، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر التي أسسها عبد الوهاب الكيالي وأدارها من بعده شقيقه ماهر.

أبدع التوني لجميع هذه المؤسسات عددًا كبيرًا من أغلفة الكُتب والمجلات والرسوم المرافقة للمقالات. إذ كان يتتبع الجمال ما بين سطور المواد المكتوبة، ويحول الفكرة خلفها، أو الحالة الانفعالية أحيانًا، لرسم موازٍ أكسبها بُعدًا جديدًا في ذهن المتلقي. وأحدث توازنًا عجيبًا بين إظهار هويته الفريدة كفنان واستحداث هوية بصرية خاصة لكل مؤسسة أو دار نشر عمل معها. كما استمر في رسم اللوحات وإقامة المعارض حين أتاحت له الفرصة في ذلك. وعام 1974 صمم شعار معرض الكتاب العربي في بيروت والمُلصق الترويجي له، لتستمر رؤيته الفنية هذه لعشرات الدورات اللاحقة من المعرض.

أسئلة الهوية والطريق للفن الشعبي

بعد سنوات من الإنتاج الكثيف في بيروت، اضطر التوني للعودة من جديد للقاهرة في العام 1982، فقد ازدادت الحياة صعوبة بعد الحصار والاجتياح، وكان أبًا لطفلة لم تتم الثالثة من عمرها بعد، بات من الصعب تأمين غذائها. غير أن مُسببات رحيله الأول مع رفاقه عن القاهرة زالت مع انتهاء عهد السادات. بعد ثلاث سنوات من الاستقرار في مصر، أقام التوني معرضًا فرديًا، دفعه لإعادة التفكير في موضوعات فنه. في هذه الفترة، عاش التوني حالة يصفها بالصحوة الفنية. فكّر كثيرًا في جدوى أن يكون فنانًا عربيًا منسوخًا عن الفنانين الرواد من الغرب، وسأل نفسه السؤال الأهم «من أنا؟ هل أنا الفرعوني أم القبطي أم المسلم؟»، ليصل لاستنتاج كان مُرضيًا له بدرجة كافية، وهو أنه الفنان المصري الشعبي الذي يستخدم رموزًا ذات دلالة، يتعامل معها الناس في تعبيراتهم وأحاديثهم بشكل يومي. مع هذا الوعي الجديد، بدأت مرحلة جديدة في مسيرته كفنان، واضعًا نُصب عينيه هدفًا أدى لإنتاج فن ميزته الأساسية هي الأصالة. تخطى التوني الرسم بالطريقة الأكاديمية الجامدة التي تعلمها في كلية الفنون واعتمدت على مدارس الفن الأجنبية، فأنتج فنًا مُشبعًا بالثقافة المحلية، وصفه بعض مُحبيه بالمحاولة الجادة لإنهاء الاستعمار الثقافي.

من أعمال حلمي التوني التي عرضت في معرض «المغنى حياة الروح» عام 2015 في القاهرة

يقول المصمم والحروفي حسين الأزعط إن الأثر ظهر في فن التوني من خلال توظيف مخزون لا ينضب من التراث الإسلامي الفاطمي والمملوكي والعثماني الذي تشرّبه في القاهرة. هذه الثقافة الواسعة انعكست بطريقة لم يسبقه إليها أحد في لوحاته وأغلفة الكتب وملصقات المسرح على حد سواء، التي قدمها الفنان جميعها بجرأة كبيرة على مستوى الموضوع والتقنية. استقبل المُتلقي جرأته هذه بصدر رحب، وذلك لاستنادها لموروث تاريخي عظيم عمره آلاف السنين. ومن الأمثلة على ذلك تصرفه بالحروف بالرسم بدلًا من التخطيط، فتجده يختار نوعًا معينًا من الخطوط العربية التي استُعملت منذ ما يقارب 700 سنة، ويعيد تصنيعها وطرحها بصورة عصرية، لا نسخ فيها ولا تقليد.

عام 1999 أطلقت دار الشروق مجلة «وجهات نظر»، التي عمل فيها الفنان حتى توقفها عام 2011، وأسس لهويتها البصرية وأدارها فنيًا. كانت مهمة التوني بعد حضور اجتماعات التحرير واستلام النصوص من رئيس التحرير رسم الأغلفة والرسوم الداخلية المرافقة للنصوص، إضافة لتصميم بصريات أخرى ليرسمها غيره من زملائه من الفنانين في المجلة كمحمد حجي وسيد سعد الدين. يقول أيمن الصياد، رئيس التحرير السابق لمجلة «وجهات نظر»، إن التوني منح للمجلة من فنه ما يعبر عن شعارها «مجلة مختلفة لقارئ مختلف» فباتت لا تخطئها العين حين ترى خطوطه وألوانه.

وحول ما حمله فنه من فكر سياسي عبر السنين، يضيف الصياد أن التوني لم يكن ناشطًا سياسيًا بالمعنى التقليدي والمباشر للكلمة، لكنه كان كذلك بريشته وقلمه. فسواء رسم لوحة عن الحق بالمقاومة، أو كاريكاتيرًا ساخرًا من السلطة، أو حتى لوحة تؤسس لصورة ثقافية عن وطنه مصر، وتعزز هوية شعبه أمام العالم، كان فن التوني بحد ذاته فعلًا سياسيًا.

أغلفة عدد من المجلات من تصميم حلمي التوني

فلسطين والطفولة

«علاقته بفلسطين حقيقية جدًا.. قوله الدائم إن فلسطين بدمه تجلى بوضوح من خلال فنه»، تقول ميسون سكرية، الباحثة والمؤلفة التي رسَم الفنان كتابها الأخير للأطفال بعنوان «العودة تبدأ منك» والصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. في مكالمة هاتفية قصيرة، شرحت سكرية الفكرة وراء الكتاب. ولم يحتج التوني أكثر من خمس دقائق للموافقة على هذا التعاون. طلب منها أن ترسل له قطعًا مطرزة لأثواب فلسطينية وبعض الصور الحقيقية من مخيم شاتيلا في لبنان. وبعد أسبوعين، سلمها إضافاته البديعة على القصة، مُحولًا الطفلين عائد ورملة من مجرد فكرة في خيالها إلى رسومات مليئة بالحياة، مُوظفًا الصور وأنماط التطريز بأفضل صورة ممكنة. في القصة يخوض الطفلان رحلة بين الحلم والحقيقة بحثًا في ماضيهما، محاولين إجابة أسئلتهما الفضولية حول مفهوم العودة للوطن. قبل النشر، اتصلت سكرية بالتوني للتأكد من اطمئنانه للنسخة النهائية من الكتاب، فأخبرها أنه يحب رسومات هذا الكتاب جدًا، ويحب فلسطين جدًا كذلك، رافضًا تقاضي أي أجر عن هذا العمل.

انتمى حلمي التوني لجيل مُلتزم في مواقفه تجاه فلسطين، يرى فيها قضية عادلة لا يمكن المساومة عليها. سخر فنه للمساهمة في رسم أغلفة مجلة شؤون فلسطينية، وإصدارات عديدة لدار الفتى العربي التي اعتبرها كُثر المشروع الثقافي الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. ساهم نتاجه الفني فيها، إلى جانب فنانين آخرين، بالتركيز على الثقافة البصرية في وسائل التواصل مع اليافعين في تلك المرحلة، وتعزيز الثقافة الشعبية والوطنية لديهم.

من أعمال حلمي التوني لدار الفتى العربي

امتد اهتمام الفنان بمستجدات الأحداث في فلسطين من خلال متابعته الحثيثة لأخبار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في الشهور الأخيرة من حياته. لم يمنعه المرض من إنتاج سكيتشات أرفقها بوصف توضيحي عبر حسابه على فيسبوك، موجهًا الانتقادات للمُطبعين، ومتحدثًا عن معاناة الأسرى، ومشجعًا على المقاطعة الشعبية، ومحتفيًا بصمود النساء أمهات الشهداء والمقاومين. كما انتقد بسخرية تقصير الفنان العربي بالتعبير عن القضايا الوطنية، واصفًا هذا التقصير بالقبيح وغير المُبرر، فللأمة والشعوب واجب على الفنان تسديده.

تثير غزارة إنتاج التوني الفنية الدهشة. فقد رسم أغلفة الكتب بتنوع مواضيعها، فتراه تارة يرسم من الأدب أثقله، كأغلفة كتب عبد الوهاب البياتي ونوال السعداوي ومحمود درويش ورضوى عاشور. وتارة أخرى يرسم أغلفة كتب الأطفال ببساطة شديدة. ولم يتوقف أبدًا عن رسم ما يسمى بالموتيفات[3] وملصقات المسرحيات. لم يتوقف أيضًا عن رسم اللوحة بشكلها التقليدي الذي برع به، وكان آخر معارضه يحمل عنوان «يحيا الحب» في جاليري بيكاسو بالقاهرة. وفي مقابلات صحفية عديدة، تحدث عن نظرته الخاصة للون، فهو يتعامل مع كل لون كآلة موسيقية مُنفردة تُؤسس لمعزوفة جميلة في نهاية العمل عليها، فيلحن اللوحة تلحينًا.

لم يُنقص ثقل مواضيع التوني من المتعة البصرية في أعماله، ولم يفقد يومًا لهفة الطفل في صوته وهو يتحدث عن فنه. يُفسر الفنان الأزعط هذا الشغف الاستثنائي الذي أدى لاستمرار الإنتاج حتى آخر أيام حياته، أن التوني منح نفسه مساحة كبيرة من الحرية، سمحت له بالعمل دون أي قيود، وبنهج تجريبي اتبعه بنفسه طوال 90 عامًا عاشها.

من لوحات حلمي التوني

كان حلمي التوني يعرف جيدًا أن الوعي الفني العام يتطلب جعل الفن مُتاحًا لأكبر عدد ممكن خارج نطاق دور العرض، ولهذا أبقى فنه بسيطًا شديد الوضوح، مُبتعدًا عن التكلف في تورية المفاهيم، ما سهّل وصول فنه لشريحة كبيرة من عامة الناس، على رأسها الأطفال. وقد كان مُدركًا لأهمية ذلك حين استبدل الرسومات المستوردة للشخصيات الكرتونة العالمية في دفاتر تلوين الأطفال، برسومات لأطفال يرتدون ملابس شعبية ويلعبون في مناطق شعبية ألعاب يعرفها الطفل العربي.

عام 2022، أقام التوني معرضًا فنيًا مُخصصًا للأطفال، هو الأول من نوعه في المنطقة العربية. في دعوة خفيفة الظل، خاطب الأطفال مباشرة بالقول «يسمح للبنات والصبيان باصطحاب أمهاتهم وآبائهم على أن تكون أعمارهم فوق الثلاثين»، ليبني جسرًا مستمرًا لفنه، يمتد أثره لسنوات وأجيال قادمة.

  • الهوامش

    [1] ما ذكره الفنان عن بداياته في مقابلات صحفية وتلفزيونية مختلفة.

    [2] بحسب بحث لزينة المصري، أشار للمناخ الثقافي في بيروت في فترة الستينات وما تبعها من سنوات.

    [3] التفاصيل البصرية والتخطيطات الملونة التي تُرفق بالمجلات والمقالات والنصوص الأدبية.

Leave a Reply

Your email address will not be published.