هل من الواجب علينا أن نحكي لأطفالنا عن الإبادة؟ كيف نستطيع إخبار صغارنا أن أطفالًا مثلهم في عمر الزهور، يحبون الألعاب نفسها ويتكلمون اللغة نفسها، يقتلون كالذباب على حدود دولتنا؟ هل يجب أن تشرح لطفلك ما هو الموت، ما هو القتل، كيف نورث لتلك الأجيال وجع ومسؤولية القضية الفلسطينية دون أن تصدمهم فيديوهات القتل والقنص والدمار التي تنقلها لنا منصات وسائل التواصل الاجتماعي في أول إبادة جماعية منقولة على الهواء مباشرة؟ شغلت هذه الأسئلة بال الكثير من الأُسر المصرية والعربية منذ بداية حرب الإبادة الجماعية التي شنتها «إسرائيل» على فلسطينيي قطاع غزة منذ تشرين الأول 2023.
في كتاب «ليسوا أرقامًا»، الصادر في تشرين الثاني 2024، أجابت الكاتبة والرسامة سالي سمير عن هذه الأسئلة المعقدة بطريقة عملية وبعذوبة شديدة. فكتابها الموجه بالأساس، وليس حصرًا، للأطفال، يسعى إلى تعريف الأطفال بالقضية الفلسطينية بطريقة ذكية وغير صادمة. يخلّد الكتاب بعض ضحايا الإبادة الإسرائيلية من الشعب الفلسطيني داخل قطاع غزة باستخدام لغة بصرية تناسب الأطفال وتعلي من إنسانية أولئك الذين فقدوا حياتهم في الحرب بدل التركيز على وحشية ودموية مشاهد قتلهم.
يهدف الكتاب، كما هو جلي في عنوانه، إلى تذكير القراء بأن آلاف الفلسطينيين الذين قُتلوا خلال العدوان ليسوا مجرد أرقام في إحصائيات الموت والحرب، بل أرواح وحيوات لهم أحبّة وأحلام كانوا يسعون لتحقيقها ومستقبل كانوا يتطلعون إليه قبل أن تُبيدهم «إسرائيل» وسط تواطؤ عالمي مخجل. اعتمد الكتاب في أغلب رسوماته على مشاهد هزت وجدان جميع مناصري القضية الفلسطينية الذين كانوا يتابعون الإبادة على شاشات هواتفهم. ركزت سالي في رسوماتها على الكلمات الأيقونية التي قالتها عائلات الضحايا عند اكتشافها استشهاد ذويها. تقول سالي إنه بينما اكتسبت هذه الجمل شعبية كبيرة في حينه، لكن خوفها من نسيان الناس هذا القدر الهائل من الألم دفعها إلى توثيق هذه العبارات من خلال الرسم.
حينما قابلتها، حدّثتني سالي سمير عن وجهة نظرها أن الأطفال خارج فلسطين، من جيل ابنتها حليمة ذات الست سنوات، لا ينبغي لهم أن يُطالعوا مشاهد الإبادة التي يتابعها البالغون لِمَا فيها من مرارة وحزن. «قرأت حليمة الجُمل الأيقونية وشاهدت رسوماتي، وتعرف أن هؤلاء الأطفال عند الله الآن، لكنها لا تعرف بعد معنى أن يموت إنسان»، تقول سالي. وبينما ترى أنه لا يجب شرح أن هناك مَن قتل هؤلاء الفلسطينيين لطفلة في هذا السن، فإنها تشير إلى السؤال البديهي الذي يتبادر إلى ذهن ابنتها: «ليه؟». لا تملك الأم إجابة عن هذا السؤال، لهذا قررت أن تحكي لابنتها عن ألوان علم فلسطين وشجر الزيتون، باعتبارها حكايات يمكن أن تستوعبها حليمة دون أن ترتبك طفولتها.
بدأت الرسامة رحلتها مع «ليسوا أرقامًا» في الأيام الأولى من الإبادة، تحديدًا يوم 25 تشرين الأول 2023. في ذلك اليوم، استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي عائلة الصحفي وائل الدحدوح داخل منزل نزحت إليه في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. فقد الدحدوح يومها زوجته وابنه وابنته. وأمام هذا المصاب الجلل، ظهر الدحدوح أمامنا على شاشة الجزيرة مرتديًا سترته الصحفية الزرقاء، وقال مواسيًا نفسه: «بينتقموا منّا في الأولاد، معلش!»، لتتحول جملته في ساعات معدودة إلى تعبير خالد يتداوله الجميع على منصات التواصل الاجتماعي في دهشة من قدرة هذا الرجل على الصبر والاحتساب. وبينما جلس أغلبنا يشاهد بحسرة عمليات القتل والتدمير ضد الشعب الأعزل مع إحساس غامر بالعجز، أمسكت سالي فرشتها وألوانها ورسمت سارية تحمل علم فلسطين، ثم غزلت فيها جملة وائل الدحدوح وذيلتها بإمضائه. ثم نشرت الصورة على حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي مرفقة إياها بوسم وحيد #وائل_الدحدوح. لم تعِ سالي في ذلك الوقت أن هذه اللوحة هي اللبنة الأولى في مشروع كتاب عن الإبادة والطفولة والأمومة والأبوة.
بعدها أيام قليلة، انتشر فيديو جديد من داخل القطاع لأم تبحث عن طفلها ذي السبع سنوات داخل إحدى المستشفيات برفقة زوجها الذي يعمل طبيبًا بذات المستشفى. تصف الأم ابنها للمسعفين والأطباء في الفيديو بينما تتملكها حالة هلع شديد بأنه: «اسمه يوسف، شعره كيرلي، وأبيضاني وحلو»، قبل أن تكتشف أن ابنها راح ضحية في غارة إسرائيلية. من وحي هذا المشهد، رسمت سالي ثاني لوحاتها التي يتوسطها يوسف الذي بات يحمل جناحي ملاك فوق ظهره، كما حوّلت وصف والدته له من ضمير الغائب إلى المتكلم ليعرّفنا الطفل عن نفسه: «اسمي يوسف، شعري كيرلي، أبيضاني وحلو». لم تمنح الرسامة هنا يوسف الحياة من خلال لوحتها فحسب، بل جعلت وجوده في حياة القرّاء من الأطفال أمرًا مستساغًا فهو صديقهم الذي يقدّم لهم نفسه، بيد أن جناحيه باتا يُشيران بشكل ضمني إلى وجوده في حياة أخرى. حينها، قررت سالي أن ترفق لوحة يوسف بوسم جديد هو #ليسوا_أرقامًا. هكذا وُلدت فكرة مشروعها الذي يستخدم الرسم ليوثق لحظات الإبادة الأكثر عنفًا بأسلوب فني لا يرصد بالضرورة الدم والأشلاء المتناثرة والركام، بينما يذكرنا أن هذه الأشلاء والجثث كانوا يومًا أمهات وأبناء وأحفاد وجدات.
على مدار شهور الحرب على غزة، كانت الرسامة ترسم بشكل شبه يومي المشاهد الحية التي توثق المذابح بحق الفلسطينيين، ثم تنشر لوحاتها على منصات التواصل الاجتماعي تحت الوسم الأخير. لم تكن سالي تقوم بذلك وفق منهجية توثيق محددة، بل رسمت ما استطاعت تحمله من هذه المشاهد المؤلمة، مستلهمة جُل أعمالها من تلك العبارات الشهيرة التي جاءت على لسان الأهالي وهم ينعون أحبتهم الذين فقدوهم تحت وطأة آلة الحرب الإسرائيلية، مثل «هي إمّي.. بعرفها من شعرها»، «روح الروح هذه»، «الولاد وين؟ الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا» وغيرها الكثير.
لاقت لوحات سالي قبولًا واسعًا بين جمهور منصات التواصل الاجتماعي. وفيما اتسع جمهورها ليشمل الصغار والكبار معًا، امتد الاهتمام بلوحاتها خارج النطاق الجغرافي لمصر والوطن العربي. إذ تواصل معها عدد من المستخدمين الأجانب يستفسرون منها عن معاني الجمل المكتوبة في لوحاتها. دفعها ذلك إلى التعاون مع المترجميْن هديل عبد السلام وإبراهيم التهامي لترجمة عبارات ذوي الضحايا في اللوحات. وفي الوقت الذي كانت فيه شركة ميتا تحجب المحتوى الفاضح للإبادة، وتحظر المستخدمين الذي يقومون بإعادة نشر فيديوهات القصف والتقتيل داخل قطاع غزة، مثّلت لوحات سالي، لعدد من المستخدمين، سبيلًا ذكيًا للحديث عن الإبادة دون أن يتم حذف منشوراتهم.
تميّزت لوحات سالي بتوثيقها مشاهد الإبادة الجماعية من الناحية الشعورية. حيث استخدمت الرسوم التوضيحية التعبيرية، لأنها تتيح نقل المشاعر الإنسانية من داخل مشاهد القتل والإبادة المروعة متجنبة القسوة البصرية لهذه الأحداث. كما استوحت لوحاتها من ألوان العلم الفلسطيني (الأخضر، الأحمر، الأسود، والأبيض) فقط، لتظل فلسطين حاضرة في ذهن كل مَن يراها، وإن كانت اللوحات رسومًا متفرقة بلا نص.
مع طول أمد الإبادة، التي امتدت لنحو 15 شهرًا، قبل خرق «إسرائيل» وقف إطلاق النار الهش البادئ في كانون الثاني الفائت وعودة الحرب في آذار الفائت، بدأت سالي تلجأ إلى رسومات تفضح النفاق العالمي إزاء الإبادة بشكل خاص والقضية الفلسطينية بشكل عام. ففي اليوم العالمي للطفل، ضمن أعمالها تحت الوسم نفسه، قدّمت سالي رسومات كاريكاتورية سياسية تعكس التفاوت بين معايير العالم. فرسمت فتاة صغيرة تمسك بيمناها العلم الفلسطيني، بينما يدها الأخرى المبتورة التي تحمل بالونًا أحمر تطير نحو السماء بعدما نما لها جناحان صغيران. أرادت سالي من خلال هذه اللوحة أن تسلط الضوء على الحجم المرعب للإعاقات الجسدية التي لحقت بأطفال غزة جراء قصف المدارس والمستشفيات وخيام الإيواء، والذي يحرم الأطفال من طفولتهم ويورثهم القضية في سن مبكرة. وفي اليوم العالمي للمرأة، جسدت سالي معاناة الأمهات الثكالى من خلال لوحة تصور أُمًا تحتضن ابنيها الشهيدين بأجنحتهما الصغيرة التي نمت لهما. كما أرادت الرسامة عكس ازدواجية معايير العالم تجاه القضية الفلسطينية وشعبها الذي يُباد، فرسمت حمامة ترتدي سترة الصحفيين، في إشارة إلى استهداف إسرائيل للصحفيين الفلسطينيين عمدًا، ورسمت في لوحة أخرى طفلة ترتدي منامة وخوذة الصحفيين، مشيرة إلى استمرار التغطية الإعلامية رغم استهداف الصحفيين والمدنيين.
أما لوحتها الأخيرة، فاستلهمتها من اللحظات الأخيرة في حياة الشهيد يحيى السنوار. فحين نشرت «إسرائيل» فيديو اغتياله للتفاخر، شاهد العالم كلّه كيف ظل السنوار يُقاوم حتى الرمق الأخير، ملقيًا عصاه الخشبية في وجه المسيرة الطائرة باتجاهه، قبل أن تقتله الآلة. في لوحتها، رسمت سالي مجموعة أطفال فلسطينيين بينهم حنظلة، الشخصية الشهيرة لرسم الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي، وهم يقاومون طائرة بلا طيار ممسكين عصيان صغيرة في أياديهم.
قررت الرسامة، بعد تلك اللوحة الأخيرة، أن تجمع رسومات الإبادة في كتاب واحد. فلجأت إلى دار «مرح» لكتب الأطفال للنشر. خلال أول ندوة للحديث عن الكتاب التي أقامتها الدار في كانون الأول الماضي، عبرت سالي وكذلك الناشر خالد عبد الحميد، مؤسس دار مرح، عن قناعتهما العميقة بدور الكتب في تشكيل وعي الأطفال بالقضية الفلسطينية، فكلاهما تربى على وتأثر بإصدارات دار الفتى العربي في سنين نشأتهما، وهي دار نشر لبنانية تأسّست في السبعينيات، واهتمت بنشر كتب الأطفال التي تعكس وتعزز الهوية العربية والقضية الفلسطينية.اقرأ/ي أيضا:
رغم عدد إصداراتها المحدود، استطاعت دار الفتى العربي أن تكون في طليعة المؤسسات المستقلة في حقل أدب الأطفال. فقد دعت كوكبة من الكتّاب والرسامين للتعاون معها، حتى وإن لم يكونوا قد قدّموا كتبًا للأطفال من قبل، مثل صنع الله إبراهيم، وغسان كنفاني، وفؤاد حداد، وغيرهم. تأثّر الناشر خالد عبد الحميد بإصدارات تلك الدار دفع دار مرح إلى إتاحة 14 قصة مرسومة عن القضية الفلسطينية من إصدارات دار الفتى العربي على منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى «ألفبائية فلسطين» للرسام محيي الدين اللباد. وبالإضافة إلى الروزنامة الفلسطينية التي تنشرها «مرح» سنويًا، أنتجت الدار أغنية «بكرة الجرح يطرح ورد يا فلسطين»، من تأليف منتصر حجازي وغناء أحمد بحر مع كورال من الأطفال، التي رافق الفيديو الخاص بها بعض رسومات سالي سمير.
عند سؤاله عن اختياره نشر كتاب للأطفال عن الإبادة، لوحاته كلها منشورة ومتاحة على المنصات التواصل الاجتماعي، أكد خالد عبد الحميد على قناعته بأن الكتاب الورقي لا يزال له مكانه، رغم انتشار وسائل القراءة الإلكترونية. تربية النشء على الارتباط بالكتب الورقية كان من دوافعه في تأسيس دار مرح. وفي سبيل تمتين هذا الدافع، تصدر الدار كتبها في أشكال مغايرة لشكل الكتب الاعتيادية لجذب قراء من مختلف الأعمار. وبينما تحدد مقاسات كتب الأطفال وعدد صفحاتها بناء على السن المستهدف في متن الكتاب، صدر «ليسوا أرقامًا» في حجم متوسط وفي عدد صفحات كبير قارب على الخمسين صفحة، مما يشير إلى أن الكتاب موجه للأطفال من سن ثمانية أعوام فما فوق.
اختارت الرسامة أن يكون «ليسوا أرقامًا» عنوانًا لكتابها، تماشيًا مع الوسم الذي نشرت لوحاتها تحته. ثم كتبت مقدمة الكتاب وكأنها قصة قصيرة يفتتح بها الحكي عن فلسطين للصغار والكبار، واختتمت الكتاب بهذه الجملة: «لأن الحكايا تبقى.. سنظل نحكي ونكتب ونرسم ونُوثق عنهم.. ونُقاوم معهم.. فهم ليسوا أرقامًا». وبينما نشر كتابها وفق رخصة المشاع الإبداعي، التي تسمح للناس نشره وتداوله شرط عدم التربح منه مثل جميع إصدارات دار مرح، خصصت الدار جزءًا من عائدات الكتاب للمساعدات الإنسانية للفلسطينيين من خلال التبرع بها إلى الهلال الأحمر الفلسطيني، إلى جانب دعم تعليم الأطفال الفلسطينيين النازحين إلى مصر.