في المرات النادرة التي غادر فيها الشاعر أبو العلاء المعريّ مكان إقامته في معرّة النُعمان، واحدة سافر فيها إلى بغداد من أجل عرض معارفه في مجالس المدينة المزدحمة بالمشتغلين بالأدب واللغة والفلسفة. تشاء الأقدار أن يتعثّر المعريّ في أوّل مجلسٍ يدخله بأحد الجالسين، فيصيح به الرجل الجالس على سبيل الإهانة: من هذا الكلب؟ فيردّ المعرّي: الكلبُ من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا.
كان يُمكن للمعريّ أن يردّ على الرجل: ألا ترى أنّي أعمى، غير أنّه استبعد عماه من الردّ وأراد لفت انتباه المجلس لما يتقن من معارف إذ إنها -لا الشفقة على حاله بسبب عماه- من أوجدته وخلّدت اسمه كأحد أهمّ الأسماء العربية من المشتغلين بالمعرفة.
كذلك الأمر، يُمكن فهم إصرار الأسير الفلسطيني باسم خندقجي والمعتقل منذ العام 2004 في سجون الاحتلال، والمحكوم بثلاثة مؤبدات، على الكتابة في الكثير من الموضوعات وليس بينها السجن وشؤونه الكثيرة، رغم أنّه أمضى فيه أكثر من نصف عمره.
ربما كان بورخيس من قال إن الحالة الوحيدة التي يكون فيها الكتاب بلا قيمة، هي الحالة التي تتطابق فيها مقاصد الكتاب مع الأمنيات الشخصيّة لكاتبه.
الطريق إلى كتابة الرواية
بعد أن تنقل بين أكثر من شكل أدبي، استقرّ خندقجي، والمولود عام 1983، على كتابة الرواية، بالإضافة إلى إكمال حياته الأكاديمية بالبحث في التاريخ ومفاهيم الهوية ومجتمعات ما بعد الاستعمار.
مؤخرًا، وصلت آخر روايات خندقجي، وعنوانها «قناع بلون السماء»، إلى القائمة الطويلة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة (البوكر) في دورتها الـ17، مع 15 رواية أخرى اختيرت من بين 133 رواية رُشّحت للجائزة، ثم اختيرت مرّة أخرى من ضمن ست روايات للقائمة القصيرة.
عرف خندقجي من سجنه «عوفر» خبر وصول روايته للقائمة الطويلة عن طريق إذاعات الراديو المحلية؛ إحدى طرق التواصل بين الأهل والأسرى، وعرف بخبر وصول الرواية إلى القائمة القصيرة صدفةً، إذ كانت إدارة السجون قد سحبت كل أدوات التواصل من عندهم بعد السابع من أكتوبر ومن بينها أجهزة الراديو. «ما كان عندهم راديوهات، ثاني يوم شنّ الإعلام العبري عليه حملة تحريض، فقررت إدارة السجن عزله، ووضع غرامة مالية عليه؛ لأنه هرّب أوراق الرواية خارج السجن مع إنه الرواية خرجت على مرأى ومسمع إدارة السجون عبر البريد» يقول شقيقه يوسف.
من بين الآراء التي حرّضت عليه تعليق أحد المستوطنين متعجبًا «أسرانا بغزة لا نعرف أين هم، والإرهابي باسم خندقجي يكتب من داخل سجنه» فيما تساءل آخر «هل لديه قناة يوتيوب داخل سجنه؟ ماذا يحدث داخل السجن؟».
قبل كتابة هذه الرواية، مرّت سيرة خندقجي في الكتابة بمراحل عدّة، يمكن اختصارها بمرحلة أولى هي الحيرة في اختيار شكل الكتابة، إذ كتب المقال، والمقال في قالب قصة قصيرة، وكتب الشعر ونشر ديوانين هما «طقوس المرَّة الأولى» (2009)، و«أنفاس قصيدة ليلية» (2013). لكنه بعدها اكتشف أنه ليس شاعرًا، كما يقول شقيقه، فتوقف واتجه إلى الرواية.
نشر خندقجي خمس روايات،[1] تظهر بينها الروايات التاريخية مثل «مسك الكفاية..سيرة سيِّدة الظلال الحرَّة» 2014 التي تدور أحداثها في القرن الثامن الميلادي زمن أبي جعفر المنصور، و«خسوف بدر الدين» 2018،[2] التي تدور أحداثها في القرن الرابع عشر الميلادي في القاهرة.
انتهت هذه المرحلة من كتابة الرواية التاريخية بصدور رواية «قناع بلون السماء» سنة 2023، التي تجمع بين زمنين؛ القديم، والحاضر، وهي جزء من ثلاثيّة يعمل على كتابتها؛ جزءها الثاني «سادن المحرقة»، وجزء ثالث هو «شياطين مريم الجليليّة».
ثمة سيرة أكاديمية للخندقجي ربما لها علاقة بمسألة شكل المعالجة الروائيّة الجديد الذي يوظّف فيه الحدث التاريخي بقضيّة حاضرة؛ إذ أنهى مرحلة البكالوريوس من جامعة القدس المفتوحة بين العامين 2020 و2021، ثم أنهى مرحلة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية من جامعة القدس/ أبو ديس في 2023، وكان يتحضّر للانتساب لدراسة الدكتوراه من إحدى الجامعات الجزائرية لكن المشروع توقف بسبب الحرب على غزّة، حسب شقيقه يوسف.
قبل أسره، درس خندقجي في مدارس نابلس، وانتمى لحزب الشعب الفلسطيني بعمر 15 عامًا، وأُسر وهو في سنته الدراسيّة الأخيرة في جامعة النجاح في قسم الصحافة والإعلام، ومع ذلك واصل حياته السياسيّة في سجون الاحتلال من خلال انتخابه عضوًا في المكتب السياسيّ لحزب الشعب الفلسطيني، وهو بالإضافة إلى ذلك ممثل الحزب في لجنة الطوارئ الوطنية للحركة الأسيرة داخل السجون.
مؤخرًا، تتركّز اهتماماته على دراسة حالة المجتمع الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة عام 1948 كجماعة فلسطينية تحت الاستعمار، وهي فكرة روايته الجديدة، التي تدور أحداثها حول فلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال، أو داخل كيان استعماريّ نشأ على إقصاء وجودهم وسرقة تاريخهم وحكاياتهم.
مخطوط رواية خسوف بدر الدين، ومسك الكفاية بخط باسم خندقجي، المصدر: أرشيف يوسف خندقجي.
«قناع بلون السماء»: استدراك أخطاء الماضي
شكلًا، يستدرك خندقجي خلل الكتابة في عمليه السابقين: «خسوف بدر الدين» و«مسك الكفاية»، وهي أعمال فيها مشاكل في الكتابة مثل حشر معلومات تاريخيّة في متن الرواية، أو اقتباس فقرات طويلة من كتب التاريخ مثل مراسلات الولاة، أو أن حكاياتها تدور في زمنٍ بعيد غير مرتبط بالواقع.
يفتتح خندقجي في هذه الرواية بما يُشبه وعدًا للقارئ المحتمل بعدم تكرار أخطاء الماضي، «يجب الأخذ بعين الاعتبار (..) عدم الإفراط في إقحام بيانات تاريخية في المتن الروائيّ».[3] ثم يعلّق على مسار حكاية مقترح: إنه تصوّر واعد يمكن العمل على تطوير حبكته وتزويده بقصص فرعيّة وافتراضات أخرى، وهذا ما يتطلب مني إعادة قراءة ومراجعة بيانات تلك الفترة التاريخية إضافة إلى حسم مسألة زمن السرد، وعليه فمن الأفضل أن يكون زمن السرد هو الحاضر المعاصر ضمن خطة محكمة ذات طابع بوليسي.[4]
هذا الاقتباسات، بالإضافة إلى فقرات أخرى وردت على شكل مراسلات تشرح شكل زمن الرواية، وكيف يسيّر الراوي أحداثها مع ضرورة احترام المشاعر الدينية، ولأجل ماذا أورد المشاهد الجنسيّة، وكيف يُراعي ثقافة قرّاء العمل المحتملين عند تضمين المعلومات فيها هي جزء من الرواية وليست مقدمةً لها.
هكذا سيكون مع القارئ أثناء قراءة الحكاية الرئيسيّة، حكايات فرعيّة من الحكاية الرئيسيّة على طريقة حكايات ألف ليلة وليلة، وسيكون معه كذلك قائمة تعليمات في طريقة كتابتها.
ثمة الكثير من تقنيات حديثة في كتابة هذه الرواية من بينها ما يُعرف بالميتا سرد، الذي يتحدّث فيه السارد عن العمل ذاته وبنيته الفنيّة. وهي الحل الذي وجده خندقجي لمشاكل روايتيه السابقتين؛ فما كان نقاط ضعفٍ في الكتابة في الأعمال السابقة وظفّه في كتابة الروايةٍ الجديدة.
على كل حال، يمكن قراءة فكرة هذه الرواية من حيث انتهت آخر مشاهد رواية غسّان كنفاني «عائد إلى حيفا» التي تحكي قصّة عودة أبوين إلى حيفا للبحث عن الابن المفقود في نكبة فلسطين، فيجدانه بعد عشرين سنة وقد تربّى عند عائلةٍ يهوديّة ونسي أو أُنسي أنه فلسطيني، وتحول اسمه من خلدون إلى دوف ويخدم في جيش الاحتلال. إن كان اسم خلدون العربيّ قد تحوّل إلى دوف العبريّ مرغمًا في رواية «عائد إلى حيفا»، فإن «نور» العربيّ يسعى بإرادته لأن يكون اسمه «أور» العبريّ في رواية «قناع بلون السماء».
«نور» شاب فلسطينيّ يعيش في مخيم قرب مدينة رام الله، باحث مولع بالتاريخ والآثار، ينحدر من عائلة لاجئةٍ من اللد، وابن فدائيّ في زمن الثورة، وبائع قهوة وشاي على عربة في المخيم في زمن السلام والمفاوضات. سعى طوال خمس سنوات في تقصي وإثبات السيرة التاريخية لمريم المجدليّة ففشل بسبب شحّ المعلومات عنها في متون التاريخ الرسميّ والتاريخ المسكوت عنه، فلجأ إلى كتابة رواية عنها من مبدأ أن التاريخ في النهاية تخيّل معقلن.
عمل نور في الدلالة السياحية في القدس وعاين كيف يجري التلاعب بتاريخ المنطقة المقدّم للسيّاح الأجانب، ثم لاحت له فرصة للالتحاق مع معهد أولبرايت للأبحاث الأثريّة بالتعاون سلطة الآثار الإسرائيلية للتنقيب جنوب تلّ مجدّو عن آثار الفيلق الروماني السادس على أن تقيم البعثة في كيبوتس مشمار هعيمق لمدة شهر. ومنتحلًا اسم شخص إسرائيلي وجد بطاقة هويته في جيب معطف اشتراه من سوق الملابس المستعملة اسمه «أور» يتمكن نور من الذهاب في رحلة التنقيب على أمل التمكن من تتبّع آثار مريم المجدليّة.
هذه هي الحكاية الإطارية الرئيسيّة في الرواية، وتتفرع منها حكايات فرعيّة، ومعلومات تاريخية ضمن تحليلٍ لمسائل مثل الوجود المسيحي في فلسطين والغنوصية وشخصية مريم المجدليّة، ضمن سياق سياسيّ لا دينيّ.
ثمة الكثير من أفكار الرواية التي تحيل إلى كتب وأفكار كتّاب مثل آراء الجزائري كاتب ياسين في استخدام لغة المستعمِر بوصفها غنيمة حرب، ودور المثقف الواقع تحت الاستعمار، والمخيلة الاستعمارية عند نايجل سي. غبسون، ومفهوم اللغة والبشرة عند فرانز فانون.
خلال أيّام التنقيب تنصهر شخصيّة «نور» بـ«أور» وتبدأ حوارات داخليّة عند هذه الشخصيّة، بالإضافة إلى حوارات أخرى بين (أور – نور) مع سماء الحيفاوية ابنة عائلة ظلّت في أرضها بعد النكبة، ومع زميلته الصهيونية المشاركة في بعثة التنقيب. وفي نهاية الرواية لا يجد «نور» ما كان يسعى للحصول عليه من معلومات عن مريم المجدليّة لكنه يعود إلى شخصيّة نور أخيرًا بعد أن تقطع صواريخ المقاومة المنطلقة من قطاع غزّة سير عمل البعثة.
في ظلال سيف القدس
يدور زمن الرواية في شهر رمضان من العام 2021، في فترة تصاعد الاحتجاج على قرار المحاكم «الإسرائيليّة» مصادرة بيوت فلسطينيين في حيّ الشيخ جرّاح، ثم امتداد الاحتجاجات إلى مدن فلسطين المحتلّة العام 1948 مثل اللد، ودخول المقاومة في قطاع غزّة في الحرب حين ضربت صواريخها عدة مدن فلسطينية محتلة.
كتب باسم الرواية بعيد تلك المعركة، على مدى ستّة أشهر، ساعتين في اليوم، يكتب فيهما قرابة صفحتين، منذ الساعة الخامسة وحتى السابعة صباحًا، قبل عدّ الأسرى من قِبل مصلحة السجن وقبل ضوضاء السجن، وتحت الخوف من مصادرة ما يكتب كما حصل في مرات سابقة.
ينبئ العمل عن كتابة واعية تعتمد القصدية في اختيار الأماكن والشخصيات للدلالة على أحداث وظواهر سياسية مثل استخدامه مدينة رام الله كمدينة تطورت تحت معطف السلام الأعرج، ويقارنها بالقدس؛ «المدن نوعان، نوع برَحِم ونوع بلا رحم، نوع ولادة طبيعية ونوع تخصيب اصطناعي نوع به حجارة وعبق ونوع به حديد وصدأ».[5]
يستخدم خندقجي في الرواية أسماء الأماكن والشخصيات بقصديّة ذات دلالة تؤشّر على الأماكن والأفعال التي أدت إلى طمس الهوية الفلسطينية مثل استخدامه مدينة اللد كمدينة تعرضت للتطهير العرقي وشارك شبابها في احتجاجات معركة سيف القدس، ويستخدم قرية أبو شوشة والمستعمرة المقامة عليها مشمار هعيمق كواحدة من القرى التي تعرضت للتدمير والتهجير وزراعة الأشجار فوق بقاياها إبان النكبة، ويستخدم قصّة مريم المجدليّة كواحدة من قصص إرث الثقافة العربية التي طمست بسبب كثرة كتابات المستشرقين والكتاب الغربيين عنها.
إن هذه الرواية هي أوج تقنية الكتابة الروائيّة عند خندقجي، ربط فيها الحدث التاريخي بآخر معاصر من أجل الجمع بين إمتاع القارئ وإيصال فكرة له. وأهمية هذه الرواية ليست في أنها الرواية الأكثر صخبًا ومعرفةً بين جميع الروايات، إنما من وجودها ضمن مشروع روائيّ ضمن ثلاثيّة روائيّة تنبئ أننا سنكون أمام مدونة روائية لها مشروع معرفيّ يتناول قضايا الأرض المحتلّة والمستعمر من منطلق معرفيّ لا على طريقة السلاسل الروائية التي تعتمد على الإمتاع والمؤانسة.
الرواية التلويحة
هذه الأيّام، بينما يجري التكهن باسم الرواية الفائزة بهذه الدورة التي سيعلن عنها في احتفالية تقام في أبو ظبي يوم 28 نيسان المقبل، ربّما سيكون باسم خندقجي يتنقّل بين سجن وآخر، محاولًا تهريب أوراق رواية جديدة يعمل عليها. قد لا يعرف خندقجي إن فازت روايته بالجائزة بنفس اليوم، وبالتأكيد لن يكون قادرًا على الحضور لاستلامها، لكن هذه الأمور ليست أهم من فعل الكتابة الذي يشبه تلويحة سجين رواية إيتالو كالفينو «لو أن مسافرًا في ليلة شتاء» التي لمحها (س) بينما كان يتمشّى على شاطئ البحر بالقرب من أحد السجون حيث نوافذ السجن محميّةٌ بحواجز حديديّة مزدوجة و ثلاثيّة.
لحظتها لمح (س) يدًا خرجت من إحدى النوافذ، وفكّر إن الأمر تطلب القيام بأعجوبة أكروباتيّة، أو مأثرة بهلوانيّة من قبل السجين ليخرج ذراعهُ من حاجزٍ من قضبان حديدية بعد حاجزٍ مماثل، ليكون قادرًا على التلويح بعدها بيدهِ في الهواء الطلق. تلك تلويحة عند السجين ليس موجهة لأحد بعينه، لكنها تلويحية تخصه وحده وتذكّره أنه ما زال على قيد الحياة.
في آخر عمره مرض المعرّي ثلاثة أيّام، ولم يكن عندهُ غير أبناء عمّه، فقال لهم في اليوم الثالث: اكتبوا عنّي، فتناولوا الدويّ والأقلام وكتبوا ما كان يمليه عليهم، وكان في حديثه خطأ كثير، فقال القاضي أبو محمَّد وكان حاضرًا: أحسن الله عزاءكم في الشيخ فإنه ميّت.[6] وهكذا أعلن عن موت المعرّي بمجرد توقفه عن إنتاج المعرفة، ولم يطل به العمر بعدها حتى توفي خلال أربعة أيام.
صور من أرشيف العائلة للأسير باسم خندقجي قبل أسره.
-
الهوامش
[1] وهي: «مسك الكفاية: سيرة سيِّدة الظلال الحرَّة» (2014)، و«نرجس العزلة» (2017)، و«خسوف بدر الدين» (2019)، و«أنفاس امرأة مخذولة» (2020)، و«قناع بلون السماء» (2023).
[2] صدرت الروايتين عن دار الآداب في لبنان.
[3] ص 14 من الرواية.
[4] ص 50 من الرواية. والكاتب هنا يقدم ما يمكن وصفه على أنها وصفة لما يجعل من الرواية رواية ممتعة، من دون أن يعني هذا بالضرورة أنه التزم بهذه المكونات.
[5] ص 76 من الرواية.
[6] تعريف القدماء بأبي العلاء، مجموعة مؤلفين، مركز تحقيق التراث، ط 3، 1986، ص 65