كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري عندما اصطحبتني أسرتي إلى مسرح شعبيّ في منطقة الحسين في القاهرة القديمة لحضور إحدى المسرحيات، ربما كانت إعادة عرض لمسرحية «كعبلون». في هذا الوقت المبكر لم أكن أعرف من الممثلين سوى قلة ليس بينهم بطل المسرحية، الذي سأعرفه لاحقًا وأحبه كأغلب أبناء جيلي، وهو سعيد صالح.
لا يبقى في ذاكرتي الآن وبعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على هذه الذكرى سوى اندهاشي الطفولي الشديد عندما رأيت بطل المسرحية ينزل من على خشبة المسرح ليتجوّل بين الجماهير وهو يغني إحدى أغنيات المسرحية بينما يصفق الحضور، يهللون ويرددون معه كلمات الأغنية التي ربما كانت لأحمد فؤاد نجم أو بيرم التونسي، مرّ الرجل بجواري وظللت أنظر إليه متعجبًا وكأنّي كنت أشك قبلها أن هؤلاء الممثلين بشر عاديون من الممكن أن تراهم عن قرب، تسمعهم أو تلمسهم.
بعد بضع سنوات، وأنا في العاشرة من عمري، سأحضر مسرحية «الزعيم» لعادل إمام في مسرح الهرم الذى صار يُلقّب بمسرح الزعيم. كنت أكثر وعيًا حينها، وبالطبع كنت أعرف عادل إمام وأحبه، شعرت بحماسة ومتعة غير عاديتين لحضور إحدى مسرحياته. عندما أستدعي المشهديْن إلى ذاكرتي الآن، مشهد «كعبلون» في مقابل مشهد «الزعيم»، أجد أن ثمة فرقًا واضحًا وملموسًا بينهما، فمسرح الهرم كان متأنقًا وفخيمًا، على بابه تباع بعض السلع الصغيرة وعليها صورة كاريكاتيرية لعادل إمام من أفيش المسرحية، وبدا الحضور من طبقة اجتماعية مغايرة لتلك الموجودة في ذلك المسرح الشعبي بالحسين، كما أن عادل إمام لم يتخطّ خشبة المسرح ولم ينزل إلى صفوف الجماهير كما فعل سعيد صالح، بل حافظ على موقعه كنجم، لا يجب أن تُرى تجاعيده واضحة عن قرب، ولا يجب أن نلمح قطرات العرق على وجهه أو نشم رائحته أو نلمسه، حافظ على الهالة التى تحيط بالنجم ولم يحطمها كما فعل رفيقه القديم وصديقه الأبدي.
«أنا المخ، وإنت العضلات»
ارتبط اسما سعيد صالح وعادل إمام عند الجمهور منذ عرض «مدرسة المشاغبين» في مطلع السبعينيات. حينها قال عادل واحدة من أشهر الجمل على لسان بهجت الأباصيري، موجهًا إياها إلى مرسي الزناتي، والذي لعب دوره سعيد صالح، وهي «أنا المخ وأنت العضلات»، وظلت هذه الجملة مُلازِمة للبطليْن وكأنها تعويذة أصابتهما وما من مفر من أثرها. لم تسر الأمور كما توقعت الجماهير أو أرادت، ربما تصوّر البعض أن عادل وسعيد سيظلان ثنائيًا فنيًا وسيقدمان العديد من الأعمال التي يتقاسمان بطولتها. توقع آخرون أن يستقلّ كل منهما عن الآخر وينغمسا في منافسة فنية تنتج عنها عشرات الأعمال الكوميدية المميزة. فيما انحاز البعض إلى سعيد وكانوا أكثر تفاؤلًا به وتجاوبًا معه في انتظار ما سيقدمه في السنين اللاحقة، إلا أن الزمن دائمًا ما يضرب بظنوننا وتوقعاتنا عرض الحائط.
كانت بداية سعيد قوية ولا شك، تواجد في الإذاعة من خلال مسلسل «الولد الشقي» عن قصة محمود السعدني، وفي السينما بفيلم «قصر الشوق» عن قصة نجيب محفوظ، وتعددت مشاركاته في فرق المسرح المختلفة عبر عدد من الأعمال المهمة مثل «القاهرة في ألف عام» و«عودة الروح» عن رواية توفيق الحكيم، إلا أن العلامة البارزة الأولى التى تركها سعيد صالح وسُجّلت باسمه كان دور «محفوظ أبو طاقية» في مسرحية «هاللو شلبي» مع عبد المنعم مدبولي.
ثم جاءت مدرسة المشاغبين
تسبب النجاح الجماهيري المذهل لمدرسة المشاغبين في نجومية غير عادية لبطليها البارزين اللذيْن سيتردد اسميهما وتتعدد أعمالهما ويزيد إنتاجهما وينتشران في السينما والمسرح والراديو. عمل الاثنان معًا على خشبة المسرح مرّة أخرى في عرض «قصة الحي الغربي» المأخوذ عن النص الأمريكي الشهير، غير أن المشاكل الرقابية عصفت بالمسرحية سريعًا ولذلك لم تسجل تليفزيونيًا، وبالتالي لم يتحقق لها البقاء كسابقتها. بعدها سيسعى عادل إمام إلى إثبات نفسه كبطل منفرد، سيستقل مسرحيًا ويقدم «شاهد ما شفش حاجة»، وكذلك سيبدأ في البحث عن البطولات السينمائية بداية من فيلمه الشهير «البحث عن فضيحة».
عكس عادل إمام، آمن سعيد أن الجماعية في المسرح تفيد وتثري العمل الفني، لم يبحث عن بطولات مطلقة ومساحات منفردة، بل سعى إلى النصوص الزاخرة بالنجوم والتنافسية الفنية على خشبة واحدة، متوقعًا أن ترتقي هذه المبارزات بأدائه وأن تزيد من قيمة وجمال العمل الفني ككل، فقدم مع فريق المشاغبين نفسه «قصة الحي الغربي» ثم أتبعوها بـ«أولادنا في لندن» التي شهدت ابتعاد عادل إمام، بينما حضر فيها عزت العلايلي بجوار باقي الفريق، كما قدم سعيد مسرحية «كباريه» ووقف فيها بجوار عملاقين مسرحيين وهما سناء جميل وعبد المنعم إبراهيم، وصولًا إلى العلامة الفارقة التالية؛ «العيال كبرت».
على العكس من عادل إمام، آمن سعيد صالح أن الجماعية في المسرح تفيد وتثري العمل الفني، لم يبحث عن بطولات مطلقة ومساحات منفردة، بل سعى إلى النصوص الزاخرة بالنجوم والتنافسية الفنية على خشبة واحدة
في مقابل عملية عادل إمام وواقعيته، وهو الذي ذهب للبحث عن مجده ومشروعه المستقل وتفرد اسمه، بدا وكأن تصوّر سعيد صالح عن العمل المسرحي الجماعي والفرق المتحدة والتنوع بين الغنائي والاستعراضي والكوميدي، تصورًا رومانسيًا ومثاليًا، وبدا أنه، على خلاف رفيق دربه، لم يخطط لذلك الشكل من النجومية، وتعامل مع الفن كهاوٍ، ومع الأمر كله كلعبة. فإلى جانب البطولات الجماعية في المسرح نجد سعيد يشارك في العديد من الأعمال السينمائية على مر سنين السبعينيات، ولكن دون أن يصعد إلى موقع البطولة، ولا لمرة واحدة. ظلّ يتنقل بين الأدوار المساعدة والثانية، غير مستغلّ دفعة النجومية التي اكتسبها من المسرح. عمل في عشرات الأفلام ولكن بشكل متخبط، شارك في عدد من أفلام حسن الإمام، الذي اعتبر سعيد واحدًا من اكتشافاته، كما شارك في العديد من الأعمال الضعيفة وقليلة القيمة، ربما كانت أفضل الأفلام التي شارك فيها في هذه المرحلة هما فيلما «مولد يا دنيا» و«زائر الفجر».
في نهاية العقد السبعيني، اجتمع عادل وسعيد مرة أخرى ولكن بعيدًا عن المسرح، حيث قام سعيد بدور البطل المساعد في الفيلم الذي سيدفع اسم عادل إلى قمة شباك التذاكر ويثير نجاحه المبهر والاختلاف على مستواه الفني الجدل بين النقاد والجماهير، رجب فوق صفيح ساخن، وهو الدور السينمائى الأبرز لسعيد صالح حتى هذا الحين. كما شارك في العام نفسه، 1978، في المسلسل الذي مثّل خطوة قوية في مشوار عادل إمام وهو أحلام الفتى الطائر.
«سلام يا صاحبي»
انتبه سعيد صالح لضرورة إعادة النظر في مساره الفني، وأدخل بعض التعديلات على منظومة عمله واختياراته، دون أن يتخلى عن روح الهواية واللعب، ففي المسرح عاد بقوة إلى المسرح الكوميدي الخالص، بمشاركة مَن تبقوا من فريق المشاغبين، وأطلق العنان لقدراته في الارتجال والإضحاك ليقدم عملًا بات واحدًا من أشهر أعمال المسرح وأنجحها وأبقاها وهو «العيال كبرت»، فاستطاع أن يحافظ ويدعم موقعه كنجم مسرحي ذي حضور لافت ومميز، وفي الوقت ذاته بدأ التحضير لإنتاج مسلسل عن حياة الموسيقار سيد درويش، وخطا بعض الخطوات في الإعداد له، غير أن المشروع لم يكتمل ولم ير النور.
تزامن هذا التوهج الثاني مع تغيير في موقعه بالسينما، حيث قام بأول بطولة له من خلال فيلم «مخيمر دايمًا جاهز»، وهو محاولة لاستنساخ تجربة عادل في «رجب فوق صفيح ساخن»، والتي بدورها كانت اقتباسًا لأعمال أقدم، أشهرها وربما أفضلها «العتبة الخضرا» لأحمد مظهر وإسماعيل ياسين. إلا أن «مخيمر دايما جاهز» كان أقل تماسكًا وأضعف فنيًا من الفيلمين، فلم يحقق لسعيد النجاح المأمول ولكنه استطاع أن يضع اسمه كبطل سينمائي، فتنوعت أدواره في هذه المرحلة بين بطولات كوميدية في أفلام متوسطة المستوى أو أقل، مثل «المحظوظ» و«الراجل اللي باع الشمس» و«محطة الأنس»، بالتبادل مع أدوار بطولة مساعدة في أفلام جادة ومميزة مثل «حادث النصف متر» و«السادة المرتشون» و«نص أرنب» و«الصبر في الملاحات».
كما شهدت هذه المرحلة تفعيلًا للدويتو الفني مع صديق عمره عادل إمام حيث تشاركا البطولة في خمسة أفلام أخرى، أبرزها «المشبوه» و«سلام يا صاحبي»، ويكاد يكون الأخير اسمًا على مسمى، حيث يمثل نهاية للتعاون بينهما كبطلين، فلم يشارك سعيد في أفلام عادل مرة أخرى إلا كضيف شرف أو في أدوار ذات مساحة محدودة، وكان أول هذه الأفلام بعد «سلام يا صاحبي» بأكثر من عشرة أعوام.
كعبلون
في 1985، بدأ سعيد صالح في عرض المسرحية التي ستغير مشواره وتفتح أمامه طريقًا جديدًا. كانت «كعبلون» علامة فارقة في مسيرته الفنية، حيث بدت خطوة نحو مسرح سياسي غنائي كوميدي، أكثر جرأة من المعتاد، بها روح ثورية ونقد سياسي ومزيد من التفاعل مع الجمهور. يمكن القول إن سعيد بداية من هذه المسرحية اعتبر أن مهمته من الآن فصاعدًا أن يكون صوتًا للناس وصرخة لهم، أن يكون ممثلًا لهم وليس ممثلًا عليهم، أن يغني معهم، أغانٍ من أشعار بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم، قام بتلحينها بنفسه، وأصر على غنائها يوميًا على المسرح، دون الاستعانة بأية تسجيلات مسبقة، مرددًا كلمات هذه الأغاني ثورية الطابع مع الجمهور كفعل تشاركي.
وجدتْ روح سعيد الحالمة وشخصيته المتمردة الجامحة ضالتها في هذا الطريق، وبدا فوق خشبة المسرح كثوري رومانسي، وربما أفضل ما يعبر عما حدث لسعيد هو قصيدة فؤاد حداد التى لحنها سعيد وغناها في «كعبلون» والتي تقول «لمّا يبقى القلب صادق وابن ثورة، وجراح القلب زي الشمس حمرا، كل نور الدنيا يتجمع في نظرة».
في هذه المرحلة أصبح سعيد أكثر وضوحًا أمام نفسه، أدرك أن مشروعه مسرحي في الأساس، فهو عاشق ومتقن لفنون المسرح، يسعى لتقديم مسرح مغاير ومميز، ذي قضية وأسلوب خاص، وبه قدر من التفاعل والتشارك مع الجمهور، أدرك أيضًا أنه لا يحب السينما بالقدر نفسه، وهي أيضًا لا تبادله الحب، ربما لم يتمكن من فهم حساباتها جيدًا، وربما لأنه يفضل أن يرى الجمهور أمامه، ويتفاعل معهم ويكتسب منهم طاقة إضافية تزيد من توهجه، ولذا وجه جل مجهوده الفني وإبداعه إلى خشبة المسرح، وقدّم شكلًا مسرحيًا مرتبطًا باسمه، ظل سعيد يقدم هذا الشكل عامًا تلو الآخر حتى باتت بصْمَته واضحة ومتفردة.
في مقابل عملية عادل إمام وواقعيته، وهو الذي ذهب للبحث عن مجده ومشروعه المستقل وتفرد اسمه، بدا وكأن تصوّر سعيد صالح عن العمل المسرحي الجماعي والفرق المتحدة والتنوع بين الغنائي والاستعراضي والكوميدي، تصورًا رومانسيًا ومثاليًا
دفعته هذه الأفكار إلى إهمال السينما، ليس بمعنى الابتعاد عنها، ولكن بمعنى التعامل معها باستهانة واستهتار، والاتجاه لما سُمي بأفلام المقاولات، واعتبارها مصدرًا للدخل، سواء لحياته الشخصية أو للإنفاق على العمل المسرحي، فنجد أن أفلام سعيد السينمائية المميزة كبطل أول أو كبطل مساعد تكاد تكون توقفت منذ عام 1986. فرغم الاستمرار في غزارة الإنتاج السينمائي إلا أنك بالكاد قد تشير إلى فيلمين أو ثلاثة ذات قيمة في هذه الفترة، مثل «يا عزيزي كلنا لصوص» وكذلك دوره في فيلم «توت توت».
بات للمسرح الأولوية عند سعيد حتى إنه اعتذر عن أعمال تليفزيونية هامة لالتزامه بتقديم مسرحياته بشكل دائم ومنتظم، فاعتذر عن دور العمدة سليمان غانم في «ليالي الحلمية»، وكذلك عن دور مساعد في مسلسل «عباس الأبيض في اليوم الأسود»، وضحى بأموال أضعاف ما يجنيه من المسرح، وضحى بمشاهدة واسعة وحضور ممتد، مفضلًا أن يقدم ما يحب على مسرحه، وأن يقول من خلاله ما لا يستطيع قوله عبر الشاشات. لم يتعامل سعيد مع نفسه كنجم، ولذا لم يصبح عبدًا لحسابات النجومية والانتشار، ظلت له حساباته الخاصة التى تحكم اختياراته، حسابات هاوٍ أو محب أو متمرد أو كلّها جميعًا.
اختار سعيد لنفسه طريقًا سياسيًا أزعج السلطات، وهو ما تسبب في التربص به حتى حبس أكثر من مرة؛ الأولى في عام 1983 لمدة 17 يومًا بتهمة الخروج عن النص ومخالفة الآداب العامة، وذلك في أثناء عرض مسرحية «لعبة اسمها الفلوس». غادر سعيد محبسه بعد ضجة كبيرة إلا أنه لم يتوقف عن الخروج عن النص في أعماله اللاحقة، ودأب على إطلاق تعليقاته السياسية الساخرة، وصولًا إلى الجملة التي لم يسمعها من سعيد صالح إلا قلة قليلة ولكن أغلب المصريين تناقلوها فيما بينهم، حتى باتت إحدى أشهر جمله التى لم نسمعها بصوته إلا في خيالنا وهى «أنا أمي اتجوزت تلاتة، الأول أكلنا المش، والتاني علمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش»، في إشارة واضحة لرؤساء مصر الثلاثة، عبد الناصر والسادات ومبارك، وسيترسخ في الوجدان الشعبي أن هذه الجملة هي سبب ما يلاقيه سعيد من متاعب، وأبرزها سجنه لمدة عام بسبب قضية مخدرات.
وهكذا كان طريق سعيد مختلفًأ عن طريق صديقه الأقرب عادل إمام، الذي اعتاد اللعب مع الكبار بحرفية ومهارة، فلم يناصب السلطة العداء رغم انتقاده لها في أعماله. لا أعتقد أن لعادل إمام موقف حقيقي من أي شيء لا سلبًا ولا ايجابًا، لا من الحكومات ولا رجال الأعمال ولا المثقفين ولا الفقراء ولا اليسار، فالرجل الذي أثارت تصريحات له بخصوص التطبيع مع «إسرائيل» لغطًا كبيرًا في مطلع التسعينيات، وهي تصريحات بدت متصالحة مع الأمر، عاد بعد أكثر من عشرة أعوام ليقدم فيلمًا مناهضًا للتطبيع، والرجل الذي قدم رؤية تلقي باللوم على الحكومات في انتشار الغضب عبر فيلمه «الإرهاب والكباب» قدم في العام التالي رؤية تكاد تكون مناقضة في فيلم «الإرهابي».
عادل إمام لا يهتم إلا بالنجاح وشباك التذاكر، فإذا تطلب شباك التذاكر أن يمجد فلان اليوم سيمجده وإذا تراءى له أن السخرية من فلان نفسه غدًا ستعجب الجماهير فلن يتردد في السخرية منه. لا يحمل عادل همًا إلا إرضاء الجمهور والبقاء في موقع النجم الأول، أيًا كانت الوسيلة، ودون إزعاج السلطة أيضًا، لأنه يعلم جيدًا أن السلطة قد تنفيه بعيدًا عن الجماهير، ولذا ظل محافظًا على تلك المعادلة، يلبس الجينز للجماهير ويهتف للفقراء ويقهر الأغنياء، ثم يلبس البدلة للسلطة ويؤيد الرؤساء والحكومات ويسخر من معارضيها.
في الوقت الذي كان هدف عادل إمام محددًا وواضحًا أمام عينيه، كان سعيد صالح مشتتًا وزائغ البصر بين أنواع الفنون وألوانها، يفكر في إنتاج مسلسل تلفزيوني جاد، ويسعى إلى الإضحاك والغناء والتلحين، ويبحث عن كيان مسرحي خاص، ويشارك في أفلام مميزة، ويظهر في أفلام تافهة يملأها بالإيفيهات والنكات، ويفكر في مسرح جماهيري شعبي يصل إلى طبقات الشعب المختلفة، ويريد أن يعبر عن رؤيته السياسية، وأن يتمرد على القواعد، وأن يغني لصلاح جاهين وفؤاد حداد، حتى تسبب هذا الطموح والجموح في استهلاك موهبته وتشتيتها، فحظي بشذرة من كل شيء، وذاق طعم ثمرة من كل نوع، فتلذذ ولكنه ما لبث أن فقدها، ربما باستثناء تجاربه المسرحية في طوره الأخير والتي حقق فيها قدرًا مما طمح وسعى إليه، وأصبح قادرًا على الهمس والهتاف «ها أنا ذا سعيد صالح، ها أنا ذا سعيد صالح».
قام سعيد ببطولة أكثر من ثلاثين مسرحية عبر مسيرته، هذا بخلاف الأدوار الثانوية المبكرة، ولكن ما أتيح لنا مشاهدته عبر التليفزيونات أقل من ثلث هذه الأعمال، ربما ثمانية منها فقط، إذ لم تُصور العديد من أعماله. يقول سعيد إن السلطات منعته من تسجيل مسرحية «حلو الكلام» مثلًا، كما عرقلت الرقابة عرض «موسيقى في الحي الغربي» من قبل ولم تصور، ويحكي أن التلفزيون المصري منع عرض مسرحية «كعبلون» على شاشاته، وهكذا ساهم التربص والتضييق -مع العشوائية والإهمال بالطبع- في إهدار الجزء الأكبر من تاريخ سعيد صالح المسرحي.
«أنا بمسّي التماسي»
ظل سعيد وعادل صديقين على مدار سنوات عمرهما الممتدة، لم تعكر المصائر المتباينة أو الاختلاف في الرؤى صفو هذه الصداقة بين رجلين لم يعودا متشابهين كما كانا في يوم ما. بقيت المحبة الساكنة في قلوبهما تجاه بعضهما البعض، فخالف عادل إمام قواعده وأفرد لسعيد مساحات واسعة في أفلامه كما لم يفعل مع أي بطل كوميدي آخر. لم يخش من حضور سعيد الطاغي، أو ربما غلبت المحبة الخوف. الغريبُ أن سعيد كان دائمًا ما يبدو في أفضل حالاته سينمائيًا في أفلام عادل إمام، في المقابل لم تتمكن الغيرة من سعيد، وظل يتعامل مع عادل ومع أعمالهما المشتركة كما لو كانا في مطلع السبعينيات، لم يشعر بأي نقص أمام عادل إمام، ظل تعاملهما تعامل أصدقاء وأنداد، كل منهما يقدر نفسه حق قدرها، ويقدر رفيقه كذلك.
غير أن سؤال الموهبة ظل حاضرًا بين الجماهير، وظل مَثارًا للجدل على مر السنين وحتى الآن، وطالما ترددت فكرة أن سعيد صالح كان أكثر موهبة وحضورًا من عادل إمام إلا أنه لم يحسن إدارة موهبته، أو لم يسلك الطرق التى تسهل له مزيدًا من النجومية. بالطبع لم يترك سعيد فيلموجرافيا غنية كالتي قدمها عادل إمام، رغم تفوق سعيد في عدد الأفلام، وربما دار في دوائر متشابهة وجسد شخصيات ذات سمات مشتركة، غير أن ما قدمه كان كافيًا لوضع اسمه في مقارنة دائمة مع عادل، وكذلك كان كفيلًا باستمرارية سؤال من منهما الأكثر موهبة.
من الممكن الإشارة إلى أداءات مميزة كثيرة لسعيد صالح في أفلام مثل «المشبوه» و«السادة المرتشون» و«فتوات بولاق» أو في مسلسل «السقوط في بئر سبع»، لكن حتى في الأفلام التافهة والأدوار العابرة كانت الموهبة فاضحة، إذ تستطيع الموهبة الحقيقية أن تلمع سواء كان المحيط منيرًا أو مظلمًا، فهل يختلف أحد مثلًا على موهبة توفيق الدقن، أو عبد المنعم إبراهيم أو إنعام سالوسة رغم القوالب المكررة والمساحات المحدودة؟ يأتي سعيد صالح في القلب من هذه القائمة التي استطعنا كمتفرجين أن نلمس موهبتها وندرك أننا -لسوء الحظ- لم نشاهد إلا جانبًا بسيطًا من طاقاتها، ولذلك أعتقد أن سؤال الموهبة لا يحتاج إلى إجابة تستند إلى أرقام وأسماء وأدلة وبراهين، هذا مناسب للإجابة عن سؤال المنتج الفني، أما الموهبة فيكفيك أن تنظر فترى.
كان سعيد صالح يبدو في أفضل حالاته سينمائيًا في أفلام عادل إمام، لم يشعر بأي نقص أمامه، وظل تعاملهما تعامل أصدقاء وأنداد، كل منهما يقدر نفسه حق قدرها، ويقدر رفيقه كذلك.
انتشر منذ عدة أشهر تسجيل تليفزيوني من برنامج جمع سعيد صالح وعادل إمام في السبعينيات باسم «اتنين على الهوا»، وحاورتهما منى جبر وطارق حبيب، وسألا كلًا منهما عن تصوره عن شكل العالم والفن سنة 2000، فجاءت إجاباتهما متناقضة، حيث رأى سعيد أن الحياة ستكون عظيمة وأن العالم سيتقدم ويصبح أفضل، سيصير مكانًا رائعًا، وكذلك سيكون الفن الذي سينهض مع هذه النهضة العامة، أمّا عادل فرأى أن العالم سيكون باردًا وآليًا وأن الفن سيصير بلا روح وبلا عواطف حتى إنه لن يعود فنًا. تباينت التعليقات على الفيديو، رأى الكثيرون أن رؤية عادل كانت أصح، ورأى آخرون غير ذلك، إلا أن التعليق الذي لفت نظري أشار إلى أن هذه الردود تعبر عن شخصية كل منهما، فسعيد حالم ومتفائل بشكل ثوري، يطمح بصدر مفتوح، إلى مستقبل أفضل يراه قريبًا سهل المنال، بينما عادل عملي ومغرق في الواقعية إلى حد توقع الأسوأ والاستعداد له.
بعد ثلاثين عامًا، بعد مرور سنة 2000، سيجتمع سعيد وعادل في حوار آخر مع هالة سرحان، بدا سعيد نزقًا كما كان دائمًا، يطلق دعاباته وإيفيهاته دون حساب، يسخر ويعلق دون التزام بكود أخلاقي معين، متحررًا من كل القيود ولا يأبه لشيء، يلعب ويستمتع باللحظة ويعبر عن نفسه بأريحية. بينما يجلس عادل إلى جواره في صورة وقورة تختلف عن صورته في الأفلام، ويتفاعل مع إيفيهات سعيد الخارجة بابتسامة متحفظة وربما متحرجة.
عندما أشاهد هذا اللقاء المتأخر، أتأكد لماذا أحببنا سعيد صالح إلى هذا الحد، فبجانب موهبته وخفة ظله، كنا نرى فيه صديقًا بسيطًا، يشبهنا ربما، نرى فيه رجل الفرص الضائعة، فنتعاطف معه ومع أنفسنا، طفل متمرد وشقي، محب للحياة والغناء والضحك والفن، زوربا المصري كما أسماه الروائي خيري شلبي، وننظر إلى حياته كقصة درامية موازية، بدأت بتوهج وعنفوان، وتميزت بالجرأة والمغامرة، غير أن القدر وقسوة الحياة وحساباتها المعقدة كلها لم تكن مناسبة لبساطة سعيد صالح واندفاعه وحماسته واختياراته. ولذا كلما تذكرنا سعيد صالح استحضرنا صورته وهو يقف على منتصف خشبة المسرح مبتسمًا ويقول لنا بصدق حقيقي وكأنه يعبر عن حضوره الفني المميز رغم خفته، «أنا بمسّي التماسي، أجدع تماسي، أحسن تقولوا إن أنا ناسي».