عرار: سيرة الفتى بين زجاجتين

عرار في لوحة للفنان التشكيلي غسان أبو لبن. عن غلاف العدد 335 من مجلة أفكار، وزارة الثقافة الأردنية

عرار: سيرة الفتى بين زجاجتين

السبت 25 أيار 2019

حانوتٌ في إربد، يملكه تاجرٌ هو محمَّد ذو الغنى، المغرم بالأدب، وصاحب الصوت في الغناء. على رفوف الحانوت، جمع التاجر كتبًا مثل «تغريبة بن هلال»، و«ألف ليلة وليلة» إلى جوار المعلبّات. وبين رفّ السكاكر، كان ديوان «رباعيات الخيّام» بترجمة وديع البستاني يستريح بانتظار طالب في الابتدائيّة، يتحرّك مثل فأر حوله منذ أيّامٍ، حتى وصل إليه، «وما هي إلّا ساعة، حتى فرغ من قراءتها فتكشَّفت له أمور كان يجهلها من قبل، وإذا به يضع يده على قلب الحياة، ويعرف مكان الجنّة والنار».[1]

كان هذا الطالب مصطفى التلّ، الذي ولد في إربد في مثل هذا اليوم قبل 120 عامًا،[2] لأمٍ ذات عنادٍ «يكاد يكون كُفرًا». وسمّي مصطفى على اسم جدّه، مضافًا له لقب «وهبي» جريًا على عادة الأتراك وهي إضافة اسم لاسم المولود. حين نطق الطفل اكتشف من حوله في لسانه لثغة يقلب فيها الراء غينًا، وهو ما سيجعل لقبه المستقبلي يبدو مفارقةً، حين يكبر مصطفى ليصبح «عرارًا»، أحد أبرز شعراء الأردن.

«قالوا تدمشق»
(1912-1920)

في الثالثة عشر من عمره سافر مصطفى إلى دمشق سنة 1912 للدراسة في مدرسة عنبر بعدما أنهى الابتدائيّة بإربد؛ بعد سنتين أو ثلاث في الدراسة، أضرب مع طلّاب المدرسة احتجاجًا على سياسات السُلطات التركيّة في المنطقة. خلال الإضراب جاء المدرسة والي دمشق اسماعيل فاضل باشا، ومدير المعارف التركيّ الأصل، ومفتش عام الولاية الشيخ عبد الجليل الدرة، وقف الشيخ خطيبًا في الطلاب، وبعد أن أتمَّ الخطيب كلمته، إذا بشابٍ عجلونيّ أسمر يشق صفوف الطلاب، ويقف وسط الساحة، ويُخاطب رفاقه مشيرًا إلى الشيخ الدرة: هذا دجّال كذَّاب.

من هذه الحادثة وبسبب أحداث ستليها، ستحفظ السُلطات اسم مصطفى في مدرسة عنبر كطالبٍ مغرمٍ بـ«العبث والمجون وإشاعة الفوضى خلال حصص الدروس، حتى أطلق عليه معلموه الأتراك اسم فأر الحقل».[3] وسترافقه هذه الطبائع مثلما سيرافقه الخيّام لآخر حياتهِ.

عاد مصطفى في سنة 1916 إلى إربد لقضاء العطلة الصيفيّة، كانت روح العناد الذي ورثه من أمَّه تتشكّل، وتحكم علاقته بأبيه، مما جعل الأخير يحجم عن إعادته إلى مدرسته في دمشق، ويُبقيه في إربد ليعمل في مدرسة خاصة كان قد افتتحها آنذناك، وسماها المدرسة الصالحية العثمانية.[4]

البيت الذي أمضى عرار طفولته فيه، في إربد، وفيه قبره. تصوير عمّار الشقيري.

بعدها قرر مصطفى مع رفيقه محمد صبحي أبو غنيمة يوم 20 حزيران 1917 التوجه لاسطنبول، في الطريق عرج أبو غنيمة ومصطفى على منطقة عربكير التركية قرب الحدود مع العراق، عند عمّ عرار القائمقام علي نيازي، وأخ أبو غنيمة محمود، بغية إرسالهما إلى اسطنبول. لكن ما حدث هو أن مصطفى أقام في عربكير وعمل وكيل معلم ثانٍ لمجلة أسكيشهر، إذ عيّن في هذه الوظيفة في تشرين الأول 1918 وتزوّج بعدها منيفة بنت إبراهيم بن بابان يوم 25 نوفمبر 1918 التي أنجبت له وصفي.[5] خمسة أشهرٍ كانت كفيلة ليضجر مصطفى، فاستقال من الوظيفة في شهر مارس 1919 وسافر في نيسان تاركًا زوجته عند عمّه.[6] قضى الصيف في إربد، وأقنع والده بضرورة إكماله الدراسة في مدرسة عنبر فسافر إليها مطلع العام الدراسي 1919-1920.

في العام 1919، أيّام إقامته بدمشق، نشر  عرار نكتةً في مجلة الإخاء الدمشقيّة؛ لصاحبها جبران مسوح، تقول النكتة:

 إذن صديقنا مريض؟
– نعم، مصاب بحصى في كليتيه.
– يظهر أن قلبه انتقل إلى كليتيه.

أوقف عرار وجبران مسوح الذي سيعرف لاحقًا مغزى النكتة التي تسببت باعتقالهما؛ إذ كان الحاكم العسكري في دمشق علي رضا الركابي مصابًا بحصى في كليتيه فاعتبرت النكتة إهانةً للحاكم العام.[7] 

عام 1920 أراد طلاب مدرسة عنبر تطبيق نظام الفتوة، فعارضت وزارة المعارف، غير أن الطلاب أصرّوا على التدريب العسكري داخل مدارسهم، فجاء وزير المعارف ساطع الحصري، و مدير المعارف العام عمر فرحت، الذي جمع الطلاب في صالة المحاضرات في عنبر، وأخبرهم أنَّ من شاء التطوّع فليذهب إلى ثكنات الجيش ومن أراد العلم فليبقَ بين جدران المدرسة.

خرج مصطفى من بين الطلّاب وقال لمدير المعارف: إننا سنبقى هنا، ونتدرب هنا. ونجعل من هذه المدرسة ثكنة للتدريب. فأجابه عمر فرحت بحدة وانفعال: أتريدها ثكنة للتدريب وتكلمني والسيجارة بفمك؟ فرد مصطفى: «هاي رمينا السيجارة. وحذفها بعزمٍ فأصابت زهرتها طرف بنطال مدير المعارف».

قبل أن يُغادر المدرسة أسهم عرار بتظاهرةٍ صاخبة،[8] وعمّ الإضراب من جديد وقرّرت السُلطات طرد المُحرِّضين على الإضراب وكان بينهم الدكتور أبو غنيمة، ومصطفى وهبي التل، ومنير الحصّ، وجميل القربي، وجمال الخردجي،[9] ونالوا شهاداتهم الثانوية من حلب المدينة التي طردوا إليها، حيث ظل في حلب حتى حزيران 1920.

خلال هذه الفترة أتقن عرار التركية وشيئًا من الفارسيّة، وقرأ الخيّام بلغته، وترجم فيما لا يعرف أحدٌ عن أيّ لغةٍ قصيدة فيكتور هوغو (بعد المعركة Apre La Bataille)، لكن يعقوب العودات، مؤلف كتاب «عرار شاعر الأردن» يؤكّد أنه ترجمها عن «الفرنسيّة».[10]

بداية النشاط السياسيّ في الأردن وفلسطين
(1921- 1931)

في 1922 بدأ عرار عمله في الأردنّ، كمعلمٍ للأدب العربيّ بالكرك. يروي العودات«يوم نديٍّ من أيّام نيسان عام 1922 نهضت من فراشي في مدينة الكرك الجاثمة على سيف الصحراء الغربيّ، وإذا بشابٍ فارع القامة، مستطيل الوجه، حادّ النظرات، بدويّ القسمات، قد حلّ ضيفًا في بيتنا، وكان مصطفى وهبي التلّ عرار(..) كان أبرز ما لفت نظري في هذا المارد الأسمر: قوام فارع، ووجهٌ معروق، وشعر فاحم أرسله على كتفيه تأسيًّا بفلافسة الإغريق، ولثغة راء محببة كان يطلقها لسانه (..) قلت لمصطفى مداعبًا: لمَ أرسلتَ شعرك على كتفيك كأنك السيّد المسيح أو يوحنا المعمدان؟ قال: تأسيًا بعمر الخيّام».

في تلك الفترة، بدأ عرار نشاطه السياسيّ في الأردن وفلسطين، في البداية مع صاحب جريدة الكرمل الحيفاوية نجيب نصّار، إذ نشر مقالات في السياسة[11] والأدب، وقصصًا مترجمة،[12] وأخبارًا تغطي الأحداث في الأردنّ. وفي العام 1922، بدأ عرار ونصّار التبشير بالقوميّة العربيّة، فقاما بزيارة الناصرة عام 1922 وأخذا ينشران أفكار تدافع عن القومية العربية وتحذر من الاتجار بالدين، وزارا كذلك الكرك العام 1925 للدعوة إلى الوحدة العربية.[13]

مقال بعنوان «لعلهم يتذكرون» لعرار (ابن جلا) في مجلة الكرمل عام 1925.

في الأردنّ، أيّار 1923، عيّن عرار حاكمًا إداريًا لوادي السير، واستمر في وظيفته حتى يوم 8 أيلول 1923 وهو اليوم الذي اعتقل فيه مع عودة القسوس، وشمس الدين سامي، وصالح النجداوي، والشيخ علي الشركسي، ووجهت لهم تهم: تأسيس جمعية سرية هدفها قلب نظام الحكم، وتأليف حكومة أردنيّة من أهالي البلاد الأصليين، وتدبير الثورة التي قام بها الشيخ سلطان بن عدوان عام 1923.[14] انتهى الاعتقال بعزله ونفيه إلى معان،[15] ثم العقبة ثم إلى جدّة، بأمر من رئيس النظّار حسن خالد باشا.

تسعة أشهر قضاها عرار في سجون معان، ولا تخبرنا الوثائق كيف امتد نفيه إلى العقبة وأخيرًا جدّة بسجن الرياضة، غير أنَّ الأكاديمي زياد الزعبي نقلًا عن ابن عرار مريود يُكمل قصّة النفي إلى جدة والعقبة على لسان عرار في إحدى أوراقهِ «إنَّ معاملتي هذه، عدا أنها كانت مخالفة للقانون وللعدل والانصاف، فإنها كانت من قبيل البطر لا أقل ولا أكثر، وأظنُّ أنَّ الله لم يخلقني لأكون ملهاةً للمتلهي من رجال حكومة شرق الأردنّ بحيث يسوغ لهم نفيي واعتقالي لمجرد رغبتهم في ذلك دون أن يستطيعوا الحصول على أي دليلٍ ضديّ، وأظنَّ أن في بقاء الإنسان نيفًا وثمانية شهور قيد السجون المؤذية بكل ما في الأذى من معنى لهو أمرٌ مؤثرٌ بحيث لا ينفع معه عفو يصدر».[16]

أُفرج عن عرار، وعيّن حاكمًا إداريًا للشوبك في العام 1925. عاد عرار للخيّام عام 1926، لكن كمترجمٍ وناقدٍ لترجماته هذه المرة، بعدما كان في السابق قد اعتنق مذاهب شعره وفلسفته، وسيشعل مجادلات مع أمين نخلة على ترجمات الخيام، إذ أبدى عرار معرفة باللغتين الفارسيّة والتركيّة، وبالصوفية في مراسلاته مع نخلة اضطرت الأخير للتوقف عن نشر ترجماته ومتابعة عرار الترجمة عن الفارسية في مجلة منيرفا البيروتية.

في الشوبك برز تهور عرار وتقلب مزاجه، فتزوّج مرّة جديدة: «عرف حسناء على جانب من الجمال هي السيدة شوما حرب الدحيات، وبعد أن خطبها دخل عليها ليلة الزفاف وفي صبيحة اليوم التالي توجه إلى قرية أبو مخطوب للفصل في قضية عشائرية ومنها بعث إلى شوما بصك الطلاق ولم يعد إلى الشوبك إلا بعد إياب مطلقته لبيت أهلها».[17]

ستنتهي أيام عرار في الشوبك مثل نهايات معظم المناصب التي تقلدها، إذ عُزل وكُفت يده عن العمل في شهر تشرين الأول سنة 1926 إبان الاضطرابات التي حدثت في وادي موسى.[18] فتحت السلطات تحقيقًا في موضوع الاضطرابات، ليتم عزل عرار من منصبه إذ يبدو أنه امتنع عن استجواب أهالي المنطقة المشاركين في الاضطرابات،[19] واعتبر من قبل رئيس المعتمدين البريطانيين بالوكالة غير قادرٍ على تأمين النظام.[20] خرج عرار من الشوبك بدون الوظيفة وبديْن عليه للأهالي هناك.[21] لاحقًا وبعد سنتين تقريبًا سيُبَّرَأ عرار من هذه التُهم.

 لكن قبل أن يرحل عن الشوبك سيكون قد أرسى إحدى أكثر صداقاته متانةً، وهي صداقته مع النوّر. بعدها سيقول خلال برنامج إذاعي على المحطة اللاسلكية للإذاعة الفلسطينية: «إني رجلٌ طروبٌ وأني في حياتي الطروبة أفلاطوني الطريقة، أبيقوري المذهب، خيّامي المشرب ديوجني المسلك، وإنَّ لي فلسفة خاصة هي مزيج من هذه المذاهب الفلسفية الأربعة».[22]

وستتعمق هذه الصداقة، سهرًا في مضاربهم حتّى ساعات الصباح الأولى حيث أقاموا على طريق مأدبا، بحميرهم ورباباتهم وبهلوانيهم، ومغنياتهم. وستترك هذه الصداقة الأثر الكبير في نفسهِ وعلى إنتاجه الأدبيّ حتى وصلت إلى تسمية ديوانه الوحيد باسم عشيّات وادي اليابس التي أهداها إلى جميلة النورية.[23]

وفي هذه الفترة سيبعث اسم الهبر في قصائد عرار، وهو نوريّ اسمه محمد الفحل، دميم الخِلقة، قيل له الهبر لضخامة جسمه ووفرة لحمه، لكن لم يكن الهبر الذي أُشبع سبًا في شعر عرار المقصود: «لم أجد شخصية أمسخ وأحقر من شخصية الهبر لأوسعها سبًا وشتمًا لكنكم بيت القصيد»[24].

عُيَّن عرار مدرسًا في مدرسة عمّان في تشرين الثاني 1926. وقبل أن يكمل شهرين اعتقل مجددًا وكفت يده عن العمل بتهم: رفع شارة البلشفية، والسكر في حانة عامّة، ونظم قصيدة تضمنت إطالة اللسان على سمو الأمير وفخامة رئيس النظار وحكومته والقانون على ملأ من الناس.

عيّن لاحقًا مديرًا لمدرسة الحصن أيلول 1927، وقبل أن يكمل سبعة أشهر عُزل من منصبه لاشتغاله بالسياسة،[25] وكان ذلك بسبب معارضته للمعاهدة الأردنية البريطانية، فقد اعتبرته الحكومة رأس الحركات المعارضة للاتفاقية واتهمته بتحريض أهالي عجلون على الإضراب احتجاجًا على المعاهدة وتحريض التلاميذ على المظاهرات، وقيادته للطلاب بعد أن أطلق المتصرف النار عليهم في إربد، في أيّار 1928 صدر عن حاكم لواء عجلون القرار التالي: «حضرة السيّد مصطفى وهبي التلّ المحترم، لديّ أسباب تحملني على الاعتقاد بأنك انتهجت بمناسبة المعاهدة المبرمة أخيرًا منهجًا خطرًا على الأمن والنظام في شرقي الأردنّ، وأنكَ قد تفوهت بألفاظ وقمت بحركات من شأنها أن تخل بالأمن العام، (..) وأن تثير العداء بين الحكومة والجمهور».[26] وبسبب ذلك أصدر الحاكم قرارًا بفرض الإقامة الجبرية على عرار، في عمّان، أو دفع غرامة، بسبب معارضته المعاهدة الأردنية البريطانية.[27]

في نيسان من العام 1928 كان عرار يتجهز بالمطبعة لإصدار جريدة الأنباء[28] التي ملكها، وعمل على كتابة أغلب مواد عددها قبل أن يزوره ضابط شرطه ليبلغه منع الإصدار.[29] كان العدد الذي منع من المطبعة يحمل في أعلى الصفحة الأولى منه شعار الصحيفة: «إنَّ للباطل اضطرابًا على الحقّ، وعُقباه أن يكون زهوقا». عمل عرار بعدها، للمرة الثانية، حاكمًا إداريًا لناحية الشوبك.

في شباط عام 1931 سيحكم على عرار نتيجة مقال في جريدة الكرمل، بالنفي إلى العقبة، سيلعب هذا النفي الذي امتد لأربعة أشهر دورًا مهمًا في تحولاتٍ لافتة في شخصيّة عرار، «سكن غرفة صغيرة لها مصطبة ترابية وفي زوايا جدرانها ثقوب عدة وفي كثير من الأوقات كانت تخرج حية من أحد الثقوب (..) وكان في العقبة وقتذاك شيخٌ أفغاني ذو لحية خفيفة ووجهه طيب الملامح (..) وكانت مهنته تجليخ السكاكين والأمواس، وبعد حين جاور الشيخ مصطفى وعلى مرور الأيام أصبح جليسه وشريكه في الطعام والسمر، وكان من عادة مصطفى أن يشرب الخمر والأفغاني يشرب الشاي».[30] 

بعدها بوقت قصير سيكتب رسالةً لصديقه عمر العمري «أول عمل سأقوم به عند فكّ أسري شراء دولاب سنّ وامتهان صنعة التجليخ في قطر لا يعرفني فيه أحد ولو لمدة قصيرة، إن السياحة في ظل هذه المهنة لذة روحية» لكنه لم يمتهن المهنة إنما «خطر له وهو في منفاه أن يهجر مغاني الأنس فأطلق لحيته وحمل سبحته وبعث إلى رئيس وزراء الأردن عهد ذلك المرحوم عبدالله السراج بقصيدة التوبة».[31]

«فما بعد العشية من عرار»
(1931- 1948)

عام 1931 عين عرار مدرسًا في مدرسة إربد الثانوية، وشهدت هذه الفترة علاقةً جيدة مع الأمير عبدالله الأوّل، إذ رافق عرار الأمير في عدة رحلات، منها رحلات إلى البادية.[32] وفي العام 1933 انتقل عرار من سلك التدريس التابع لوزارة المعارف إلى وزارة العدليّة كرئيس كتّاب محكمة إربد البدائيّة،[33] ثم مأمورًا لإجراء عمّان، وكان قد حصل على إجازة المحاماة بعد تقدمه لفحص المحاماة نهاية العام 1929،[34] وبعدها شغل منصب رئيس كتّاب محكمة الاستئناف 1935،[35] ثم مدعي عام السلط، ومساعد النائب العام. في هذه الفترة فُتحت قضيّة نفي عرار عام 1923 إلى جدّة، بعدما رفع الشاعر دعوى على إبراهيم باشا هاشم رئيس الوزراء عام 1923،[36] وتوصل الديوان الأميري إلى ما يلي: «لم يكن هناك أي أمر يقضي بعزل مصطفى أفندي من وظيفته (..) وأن التهمة «لم تصل إلى حدّ النفي»».[37]

انتقل بعدها إلى وزارة المعارف وشغل منصب المفتش الأوّل فيها. وشغل بعدها منصب رئيس تشريفات في الديوان الملكي، لم يمضٍ فيه أكثر من أربعة أشهر إذ عزل من المنصب في 5 تشرين الأول 1942 وسجن في المحطّة سبعين يومًا على إثر مشادة بينه وبين رئيس الوزراء آنذاك.[38]

عندما خرج من السجن اتجه عرار لممارسة المحاماة، وإدمان الكحول، يقول الزعبي: «كان يأتي إلى المكتب، وإذ لا يكون لدينا عمل ما يأخذ في الشراب ويمضي في ذلك إلى ما بعد الظهر ثم يذهب إلى البيت فينام ويأتي في صباح اليوم التالي إلى المكتب ويتكرر الفصل».[39] على هذه الحال بدت عليه «علائم الانحلال الجسديّ والانهيار النفسيّ، ويغمره شعور جارفٌ باليأس والمرارة وكره الحياة وكان المرض واليأس والشراب كلها تعمل على تهديمه وتقصير أيّامه».[40]

كما يذكر العودات: «ذات يوم سألت عرار ونحن جلوس في مقهى حمدان بعمان: لم اخترت «عرارًا» توقيعًا لقصائدك ومقالاتك؟ فجذبني إلى مكتب الوجيه الأردني الكبير السيد إسماعيل البلبيسي المناوح عهد ذاك للمقهى، وأشار إلى لوحةٍ أنيقة في صدر المكتب، وبخطٍ جميل كتب فيها هذا البيت:

تمتّع من شميم عرار نجدٍ                                        فما بعد العشية من عرار».[41]

توفي عرار عام 1949،[42] دون أن يُصدر ديوانًا واحدًا، رغم أنه لعام 1933 جمع قصائده بهدف طبعها في ديوان بعنوان «عشيات وادي اليابس» أو «أيامٌ وليالٍ في مضارب النور». وله مخطوطان مطبوعان، بحسب البدوي الملثّم، هما «الأئمة من قريش»، و«طلال»، الذي ألفه مع خليل نصر، صاحب جريدة الأردنّ، وقدماه هدية لولي العهد الأمير طلال.[43]

بعد خمسين عامًا على ميلاده، «وفي المستشفى الحكومي بعمّان قست يد الموت على عرار وأمعنت في قلبه دقًا ووخزًا، وقبل أن يلفظ نفسه الأخير قال بلهجته الإربدية البريئة: آخ  لو أطيب وأحجي اللي بقلبي.. أخ.. أخ لو أقول آخ يشفي الغلايل».[44]

الحذوفات
(
1948- 1980)

بعد وفاة عرار بأكثر من أربع سنوات، أصدر صديقه المُحامي محمود المطلق بالتعاون مع نجل الشاعر مريود التلّ، الطبعة الأولى من «عشيات وادي اليابس» في أيلول عام 1954، ضمت المجموعة ستًا وستين قصيدةً ومُقطَّعة من أشعار مصطفى، قال المطلق: إنَّ نجل الشاعر مريود قد جمعها من قُصاصات الصُحف ومن المسودات التي خلّفها والده.[45]

لكن المطلق أسقط إحدى المقطوعات الشعريّة وبعض الأبيات بحجة أنه «لا يجوز نشرها؛ لأنَّها تمسُّ بصورةٍ ظاهرةٍ أشخاصًا معينين، ولكن مجموع ما حُذف من هذا القبيل لا يكاد يتجاوز العشرين بيتًا» بالإضافة إلى إسقاطهِ «بعض القصائد وبعض الأبيات لأنَّها رديئة جدًا، ولا يُمكن اعتبارها في مستوى شعر الشاعر».[46] 

مع صدور كتاب «عرار شاعر الأردن» ليعقوب العودات عام 1958 تكشّف حجم المسقط أو غير المُدرج في طبعة العشيّات الأولى للمطلق، إذ «ضمَّ هذا الكتاب أكثر من خمسمئة بيت من أشعار مصطفى، لم تحوها ولم تشر إلى وجودها الطبعة الأولى من عشيات وادي اليابس، وهي ليست من الأشعار التي لا يجوز نشرها، وليست ردئية جدًا كما قال المطلق».[47]

على أنَّ يعقوب العودات كاتب سيرة عرار، والملقب بالبدوي الملثم في كتاب «عرار شاعر الأردنّ» يعترف أنَّه حذف أو لم يُدرج شعر عرار الذي كان يحتوي السباب «أرجو ألّا يسرف أولئك المتزمتون بالتجني إن لم يجدوا ألوانًا شعريّةً مما هاجم به عرار ذوي الشأن في سورة غضبه وانفعاله؛ فأنا لا أؤمن بشعر السباب، إذ هو شعر عابر أوحت به نزوات النفس ثم ولّى مع الريح»، متذرعًا: «ليس شعر السُباب ما يخلّد الشاعر ويُدنيه».[48]

وفي عام 1973 صدرت طبعة جديدة مزيدة من عشيات وادي اليابس أصدرها الدكتور محمود السمرة، وضمت هذه الطبعة تسعًا وتسعين قصيدةً ومقطعة من أشعار مصطفى، أي بزيادة ثلاثٍ وثلاثين قصيدة ومقطعة على الطبعة الأولى ومن تصديره للطبعة الجديدة قال الدكتور السمرة: «إنها تهمل المحاولات الأولى للشاعر في نظم الشعر، وما كان تقليدًا مصنوعًا لقصائد قديمة. فهذه الطبعة الجديدة، وإن أضافت أشعارًا جديدة إلّا أنها لم تحو أشعار مصطفى المتوافرة كلها بل ظلت خارجها أشعارٌ كثيرة».[49]

في العام 1982 وجد الزعبي عشرًا من القصائد والمقطعات التي نشرت في عشيات وادي اليابس بطبعتيه السابقتين وفي عرار شاعر الأردنّ ليست لمصطفى، يقول «فأعدتُ نسبتها إلى أصحابها الحقيقيين، ووضعتها في ملحقٍ خاصٍ».[50]

قصة المفقودات
(1980- 2011)

في العام 1980 كتب الزعبي مقالًا في صحيفة الرأي بعنوان «عرار دون ضجيج» حاول فيه الإشارة إلى أنَّ «عرار الذي نعرفهُ ليس عرار على حقيقتهِ وبخاصّة في ما يتعلّق بشعرهِ المنشور»[51]. طلب الزعبي في المقال ممن يعرف أو يحفظ شيئًا عن عرار أن يتصل به، فبادر ابن عرار؛ مريود التلّ بالاتصال بالزعبي وعرض عليه كمًّا ضخمًا من الأوراق والوثائق. ركّز الزعبي على الأوراق التي تحمل شعر عرار بهدف جمع شعر عرار وتحقيقه؛ لذا تجاهل الوثائق الأخرى. في العام 2011 كلّفت جامعة اليرموك الزعبي بكرسي عرار فيها فبادر بالحصول على الوثائق من عائلته «حين اطلعت على الوثائق فوجئت بتقلّص حجمها على نحوٍ كبيرٍ جدًا؛ فبين ما شاهدته عام 1980 وما عاينته عام 2012 فرقٌ كبير(..) معظم المسودّات الشعريّة غير موجودة ضمن الوثائق والأوراق المُتبقيّة»[52]. يُمكن القول إنها تمثّل بين 10-20% فقط من تلك الوثائق التي شهدتها في الثمانين، يقول الزعبي.

أحد الباحثين يطلّع على صور مصطفى وهبي التلّ داخل قسم كرسي عرار بجامعة اليرموك. تصوير عمار الشقيري.

«لمَ لمْ يقف الباحثون والمؤرخون على الصورة الحقيقيّة لهذه الشخصية» بعيدًا عن عرار الشاعر؟[53] يطرح الزعبي هذا السؤال في ضوء إرشيف عرار الذي يحضر فيها بصورة «تُفارق ما هو معروف ومُتداول عنها؛ فهو ليس شاعرًا مُتمردًا بوهيميًا، ولكنه شخصيّة وطنيّة فاعلة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والإداريّة».[54] يطرح الزعبي رؤيته هنا بناءً على مراسلات عرار مع الشريف الحسين بن علي، والملك عبد الله الأوّل، وأمين الحسيني، ومصطفى النحّاس، ورئيس المعتمدين البريطانيين، وبرنارد لويس، ورسائل إلى الصحافة في فلسطين ولبنان ومصر، ومئات الوثائق التي تتعلّق بالدولة الأردنيّة.

هذان الوجهان الفني والسياسي لعرار يتضحان في وصفه لنفسه. ففي حديث له على محطة الإذاعة الفلسطينية، بدعوة من الشاعر إبراهيم طوقان، تحدث عرار عن نفسه بوصف بعيد عن أي تنميق فقال: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال الله في كتابه العزيز «والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون». وأنا إذ أذكركم بهذا لا أحب أن أرتفع بنفسي إلى مصاف الأولياء والقديسين، فأنا في حياتي الخاصة رجل من الناس على حد تعبير قول الفارابي المعلم الثاني:

بزجاجتين قطعتُ عمري                                                وعليهما عولت أمري

فزجاجةٌ ملئت بحبر                                                        وزجاجة ملئت بخمر

فبذي أدوّن حكمتي                                                    وبذي أزيل هموم صدري[55]

  • الهوامش

    [1] «عرار شاعر الأردن»، يعقوب العودات الملقب بالبدوي الملّثم، وزارة الثقافة، 2011،عن نسخة 1958، ص 38.

    [2] أورد يعقوب العودات خطأً في كتابه «عرار شاعر الأردنّ» أنَّ تاريخ مولد الشاعر 25/5/1897 في حين اعتمد الأكاديميّ زياد الزعبي على مذكرات والد الشاعر وأخرى لنجله مريود التلّ للوصول إلى التاريخ الصحيح لمولده وهو 25/5/1899. وهو ما تثبته إحدى الوثائق من إرشيف الشاعر.

    [3] «عرار شاعر الأردن»، ص 201.

    [4] هذه المعلومات ينقلها زياد الزعبي عن مسودة كتاب لم ينشر لنجل عرار، مريود التل.

    [5] «عرار شاعر الأردن»، ص 21.

    [6] السابق.

    [7] السابق، ص 292.

    [8] السابق، ص 35.

    [9] السابق، ص36.

    [10] السابق، ص 41.

    [11]  مقال «لعلهم يتذكرون» لعرار (ابن جلا) في الكرمل العدد 12، آب 1925.

    [12] مقال «المنقذون»، الكرمل 24، تشرين أوّل 1931.

    [13] السابق، ص 293.

    [14] السابق، ص 299.

    [15] وثيقة مدة حكم عرار لوادي السير ومن ثم نفيه لمعان.

    [16] «عشيات وادي اليابس»، تحقيق زياد الزعبي، وزارة الثقافة، 2007، ص 29.

    [17] «عرار شاعر الأردن»، ص 215.

    [18]  من مذكرات عرار.

    [19] وثيقة تدلل على عدم استجواب عرار لأهالي وادي موسى في الاضرابات.

    [20] وثيقة رئيس المعتمدين البريطانيين بالوكالة.

    [21] وثيقة ديون عرار.

    [22] «عرار شاعر الأردن»، ص 139.

    [23] «عرار شاعر الأردن»، ص 197.

    [24] «عرار شاعر الأردن»، ص 149.

    [25] وثيقة عزل عرار لاشتغاله بالسياسة.

    [26] من وثائق عرار غير المنشورة.

    [27] صورة عن قرار فرض الإقامة الجبرية وإدانة عرار .

    [28] طلب إعادة إصدار جريدة الأنباء.

    [29] يقول عرار في مذكراته «وفي النهار مثلّت حكومة شرق الأردنّ فصلها المضحك معي في إصدار قانون المطبوعات». «عشيات وادي اليابس»،  محمود المطلق، الأهليّة للنشر والتوزيع، 1989، عن طبعة شركة الطباعة الحديثة، 1954.

    [30] «عرار شاعر الأردن»، ص 180.

    [31] «عرار شاعر الأردن»، ص 190.

    [32]  رحلة عرار مع الملك عبدالله الأوّل.

    [33] وثيقة انتقال عرار من التدريس إلى وزارة العدل.

    [34] صورة عن طلب عرار لإجازة للتقدم للفحص.

    [35] صورة تعيين عرار بمحكمة الاستئناف.

    [36] صورة عن دعوى عرار.

    [37] وثيقة رئاسة الديوان.

    [38] «عشيات وادي اليابس»، تحقيق زياد الزعبي، وزارة الثقافة، 2007، ص 29.

    [39] السابق، ص 30.

    [40] السابق.

    [41] «عرار شاعر الأردن»، ص 197.

    [42] توفي في عمّان، ودفن بمقبرة شمال إربد، ونقل 1989 إلى التلّ حيث يرقد الآن.

    [43] «عرار شاعر الأردن»، ص 55.

    [44] «عرار شاعر الأردن»، ص 342.

    [45] «عشيات وادي اليابس»، ص 18.

    [46] «عشيات وادي اليابس»،  محمود المطلق، الأهليّة للنشر والتوزيع، 1989، عن طبعة شركة الطباعة الحديثة، 1954.

    [47] «عشيات وادي اليابس»، تحقيق زياد الزعبي، ص 18 و19.

    [48] «عرار شاعر الأردن»، ص 28.

    [49] «عشيات وادي اليابس»، ص 19.

    [50] «عشيات وادي اليابس»، ص 21.

    [51]  «عرار الوجهة الآخر: ملاحظات على وثائقه وأوراقه»، زياد الزعبي، مجلّة أفكار، وزارة الثقافة، العدد 335، ص 9.

    [52] السابق، ص 10.

    [53] السابق، ص 12.

    [54] السابق، ص 11.

    [55] «عرار شاعر الأردن»، ص 109.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية