«الأصدقاء آباء جدد، الآباء أصدقاء قدامى».
بهذه الجملة تنتهي كلمة الغلاف في كتاب «غرفة 304 أو كيف اختبأت من أبي العزيز 35 عامًا» للكاتب المصري عمرو عزت، تاركة انطباعًا لدى القارئ بأن الاختباء أمر حتميّ؛ جزء من معضلة الوجود، وأنك ستظل تختبئ من أبيك حتى تصبح أنتَ نفسك أبًا يجب الاختباء منه ومراوغته.
الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية متقطّعة، متمحورة حول علاقة عزت بأبيه وبآباء آخرين فيما بعد، مُعنوَنة بالسنين، ومعلّمة بأفكاره حول الأبوّة وتغيّرها وتطوّرها على مدى مراحل حياته المختلفة. فعزت الذي يقترب من الأربعين الآن، بدأ فور خروجه من أفكار الطفولة والمراهقة استكشاف الأفكار الكبرى، فانضم إلى الجماعة السلفيّة، ثم الإخوان المسلمين، ثم يساريًا. ترك الهندسة ودرس الفلسفة. وصار مدوّنًا شهيرًا وصحفيًا. مرّت عائلته معه، وتحديدًا أبوه ذو الشخصية الكاريزمية الطاغية، بكل هذه التحولات، ولم يكن الأب ليراقب الابن من بعيد مكتفيًا بالمشاهدة.
قرأت الكتاب أكثر من مرّة، وكنت أفكّر في علاقة هذا الجيل بآبائه بشكل عام، لكن طغيان التجربة الفرديّة المتميّزة لصاحب الكتاب جعل من الضروري الحديث معه عن أفكاره. يقول عزت عن عملية الكتابة نفسها وتطوّرها من أفكار متناثرة إلى منتج ناضج ومركّب: «وأنا أكتب، كانت أفكاري في البداية متمحورة حول الكذب، ولكني شعرت بعد قليل أن الاختباء هو الفكرة الكبيرة التي تحتوي في بعضها على الكذب، فكرة الاختباء تطوّرت بالفعل وأنا أكتب، وأصبحت هي الفكرة الرئيسية للكتاب».
بدأت فكرة الكتاب كجزء من مشروع 60 صفحة بالقاهرة في عام 2015، إذ تم تنظيم لقاء للنقاش النظري عن فن الكتابة الطويلة النابعة من الواقع والتجارب الحياتية للمشاركين، وخرجت من اللقاء فيما بعد نصوص لأربعة كتاب مصريين، هم يوسف رخا ونورا أمين وعليا مسلم، ونص عمرو عزت هو النص الأخير.
في حوالي مئة صفحة من القطع المتوسط، ينتقي الكاتب من سيرته الذاتية الأحداث المهمة التي شكّلت علاقته ككاتب من مواليد الثمانينات بأبيه، وبآباء آخرين صادفهم في الحياة عندما خرج من بيت الرعاية الأول إلى المجتمع، الشيخ والحَمُو والأستاذ، ويستعرض فيه تطورًا لأفكاره عن علاقة الأبوة والبنوة في مراحل مختلفة من حياته، وكيف تطوّرت هذه الأفكار في جميع المراحل لتشكل الخيط الذي يربطه بفكرة الأب، في مساحة واسعة من التجريب والنظريات الدينية والفلسفية التي تعرّض لها بحرية من ليس له أبناء.
في الحديث معه، يفسّر عزت رؤيته قائلًا: «الأب يسبغ عليك عنايته ورعايته وأنتَ كائن لا يزال يتشكّل، يقدم لك إرشادًا أو يحاول أن ينقل لك خبرة معينة في الحياة، وأنت تتفاعل مع كل ذلك. هناك مراحل في حياتك متكررة من هذه الصورة مع اختلافات، هناك دائمًا من يساهم في تشكيلك أو يرشدك أو يمارس سلطته عليك. علاقة الأبوة والبنوة موقف وجودي، ليست فقط الأبوة البيولوجية، هي علاقة موجودة بحكم وجودك وتشكُّلك كإنسان ومع تطوّرك وتغيّرك».
الإشهاد الإلهي/الأبوي
يستطرد عمرو عزت في الحديث عن تداعيات الفكرة الأوّلية لديه عن الأبوة/الألوهية قائلًا: «لم يكن لدي أفكار مرتبة أقولها، وإنما حكايات معيّنة أريد أن أحكيها ومجموعة من الأفكار حولها، مثلًا: إحساسي بسلطة الأب وحيرتي تجاهها دفعني لمقارنتها بالإشهاد الإلهي على الخلق، وجاءت بقية الفصول في الكتاب بنفس الطريقة، حكاية أثرت في تكويني أو شغلت تفكيري أنتجت مجموعة من الأفكار، الخيط الذي يضفّر السرد هو تطوّر أفكاري وتساؤلاتي من مرحلة إلى أخرى».
بدأت هذه الفكرة النيّرة من رد الأب على عمرو الابن في أحد المواقف الأبوية المسيطرة بـ«يا بني أنا اللي جبتك»، لينطلق عقل الكاتب النقدي في مقارنة بين الإشهاد الإلهي «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» والإشهاد الأبوي الذي حدث بالصدفة وبعاديّة مُدهِشة وراسخة، ليكتشف عزت أن أباه، والآباء عمومًا، لا يحتاجون لإشهادٍ لفرض سلطتهم على الأبناء، «بل إن لسان الألوهية في الكتب المقدسة يشكو ميل البشر للانصياع لتأثير الأبوة الذي يعادي الامتثال للألوهية ورسلها. [إذ] عاتَب الله الكثيرين في القرآن أنهم ظلوا على ما وجدوا عليه آباءهم بينما لم يطيعوا فطرتهم ولا رسله ولا كلماته التي أرسلها معهم»، كما يأتي في الكتاب.
يبدو هذا الإشهاد الأبوي نقطة محورية في بداية التفكير في سلطة الأب على «اللي جابهم» لهذه الدنيا، ونقطة انطلاق لاشتباك فلسفي فيما بعد مع هذه السلطة من جوانبها المتعددة، ومنها جوانب مشتركة مع أجيال مختلفة وليس فقط جيل الثمانينات الذي ينتمي إليه الكاتب. فمواجهات التدين والثورة واختيارات الزواج، تبقى دائمًا محل صراع بين الآباء والأبناء.
إلى جانب اشتباكات الكاتب مع أفكاره حول الأبوة والسلطة مع الدين، أو فيما بعد مع إيمانويل كانط وحنا أرنت والرؤية الأخلاقية للكذب ومحاولاته لخلق دوائر صراع آمِلة تحمل بداخلها اتفاقًا ضمنيًا على الصدق وأملًا في العودة مهما كانت الصراعات القائمة بداخلها، يحمل الكتاب كشفًا هامًا لشغف الكاتب بالمطربة المصرية الثمانينية نادية مصطفى، إلى حد تأسيس صفحة فيسبوك لمعجبيها في سنة من السنين، حيث شهدت حفلتها في التلفزيون عام 1995 لحظة الانتهاء من بحث الشيخ عمرو عزت السلفي عن بطلان تحريم الموسيقى والغناء. وكان هذا التسجيل لأغنية نادية مصطفى شاهدًا على اختيار متمرد جديد.
في حوالي مئة صفحة من القطع المتوسط، ينتقي الكاتب من سيرته الذاتية الأحداث المهمة التي شكّلت علاقته ككاتب من مواليد الثمانينات بأبيه، وبآباء آخرين صادفهم في الحياة
يحمل الكتاب شعورًا عامًا بالتصالح مع العلاقة المركبة المتناقضة مع الأب، «فعمرو الحقيقي» المثالي الذي يحظى برضا العائلة عن هدوئه وتفوقه، لا يريد أن يتخلى تمامًا عن هذا القبول لصالح عمرو المتمرِّد الذي يخرج من بيت العائلة ويتزوّج بطريقته الخاصة ويسكن بعيدًا، بل ويعمل في مجال لا يعتبره الأب عملًا حقيقيًا. وفي الوقت نفسه، تمثل هذه الرعاية التي يقدمها الأب لأبنائه منذ ولادتهم شاهدًا على محاولة الحصول على رضاه الدائم، كأنه ديْن لا ينتهي سداده تجاه هذا الأب الراعي، فيجب أن يخفي عمرو المتمرد تمرّده جيدًا، أو يحاول بقدر الإمكان أن يخلق مسافة بين تصورات الأب عن «عمرو الحقيقي» وعن حياته الحقيقية.
يقول عمرو عزت: «هذا الكتاب كان محاولة للتصالح مع فكرة الاختباء، حتى هذه اللحظة أضطر للاختباء أو الكذب على أبي في مواقف، وفي الغالب هو يعلم أني أختبئ أو أكذب. الاختباء موجود ولا يزال التوتر موجودًا رغم كل المراحل التي مررت بها حتى كتابة الكتاب، ولكن استمرار العلاقة الطيبة مع الأب كان شرطًا لها أن كلانا يتفهم موقف الآخر وألا نصل أبدًا لمواجهات حادة بل نلتف حولها لتستمر الحياة بقدر غير مؤذٍ من التوتر».
وحين سألته عن رد فعل الأب على الكتاب أجاب: «قرأه وأعجبه وناقشني في الأفكار، ولكنه لم يناقشني حول الأحداث والاعترافات التي كتبتها ويعرفها هو لأول مرة كأنها ليست في الواقع. ربما يشير إليها ويمزح ويضحك مندهشًا من نجاحي في الاختباء، لكنه ليس مصدومًا لأنه يتوقع بالتأكيد إن للأبناء عمومًا حياة مختفية عن آبائهم. أيضًا تفهُّمه للاختباء جعله يعتبر الكتاب وكأنه شيء منفصل أو على مسافة ما من علاقتنا الواقعية التي لم تتغير تقريبًا».
يتعرض الكتاب أيضًا لفكرة ثبات ورسوخ الأب ونزعته القيادية، وشعوره بالمسؤولية تجاه الطفل الابن، وهذا ما يشكل شخصية مختلفة للأب عمّا كانه رجلًا بلا أبناء، فشعور المسؤولية تجاه تنشئة طفل يخلق تغيّرات في الشخصية ومحاولات مرتبكة لتمثيل صورة إلهية كليّة العلم والمعرفة والتحكُّم. كانت لحظة الثورة هي اللحظة الوحيدة التي كسرت هذا النمط في علاقة الأب بأبنائه، وليس في علاقة الكاتب بأبيه فقط، ولكن عند الكثير من الشباب، حيث تم انتزاع المعرفة الكُليّة من جميع الآباء في لحظة، وأصبح الأبناء هم المنتصرين في الصراع الجيلي، وهم من يمتلكون مفاتيح المعرفة في العالم الجديد قيد الإنشاء.
هذه المكانة الوجوديّة للأب كشخص كبير يعرف ما يفعله ويرعى منزلًا بأفراده، ويمارس سلطة في مقابل هذه الرعاية، هي علاقة مركّبة لا يمكن اختزالها بالطبيعة، يتعرّض لها الكاتب بذكاء وحساسية شديدة، محاولًا الإمساك بكل الخيوط والألوان التي شكّلت هذهِ العلاقة، دون وعدٍ واضح بالثبات عند لحظة معيّنة.
يختتم عزت الحوار مُعلّقًا: «يتضمّن الكتاب موجات مختلفة من العلاقة بيننا. كتبت عن أبي من قبل تدوينة وحكيت قصتها في الكتاب، ونشر الكتاب نفسه كان أحد موجات هذه العلاقة، وهذه الموجات تساهم في تغييرنا ولو بشكل طفيف في كل مرة. أعتقد أن علاقة الأبوة نفسها تغيّر الآباء، تغيّرهم وهم يفكرون أنهم فقط ينشؤون أبناءهم».