(يعرض فيلم «مندوب الليل» الليلة في عمان، ضمن مهرجان أيام الفيلم العربي، الذي تنظّمه الهيئة الملكية للأفلام)
كما يشي عنوانه، ينطلق فيلم «مندوب الليل» (2023) للسعودي علي الكلثمي من عتمة الليل في مدينة الرياض. وفي تلك الظلمة التي تتلألأ بأضواء ألوف من مصابيح السيارات في اختناق مروري شبه مزمن، يسارع الشاب السعودي، فهد، في سيارته ضد كتل الزمن البطيء وضد تيار من التغيرات في مدينة كبيرة تتحوّل معالمها ومعمارها وبنيتها الاجتماعية بسرعة لا يمكن ملاحقتها. بسبب الازدحام، يتأخر فهد وهو في طريقة إلى الوردية الليلة من وظيفته الأساسية في «كول سنتر».
لعل مراكز خدمة العملاء هي المكان الأنسب لتكون مسرحًا لدراما عن الاقتصاد ما بعد الصناعي، وفي حالتنا هنا رصد التحولات والطفرات التي تتلاحق في المملكة السعودية التي تدير وجهها بعيدًا عن الاقتصاد النفطي إلى اقتصاد الخدمات. في الكول سنتر لا يحظى الموظفون المقيّدون إلى مكاتبهم، أو بالأحرى إلى سماعات هواتفهم، بفرص الشرود والتململ ولحظات التظاهر بالعمل والتهامس مع زملائهم التي ينالها الكثير من موظفي المكاتب الآخرون أو حتى عمال المصانع. رنين الهواتف المتواصل والطابور الطويل على خط خدمة العملاء لا يتيح سوى بضع ثواني من التقاط الأنفاس بين مكالمة طويلة غاضبة وأخرى. عادة ما تنص قواعد العمل على ضرورة الرد على المكالمة بعد زمن محدود لا يطول عن عدد محدود من الرنات، هكذا صارت أجراس بافلوف إيقاعًا ميكانيكيًا لروتين العمل ما بعد الحديث.
في الدقائق الأولى من الفيلم، يفقد فهد وظيفته بعد أن يضبط متلبسًا بإساءة معاملة واحدة من العميلات على الهاتف. يقدم الكول سنتر هنا صورة مثالية لمجتمع المراقبة والضبط، كل المكالمات مسجلة والتنصت شامل وعلني وركن أساسي من محددات بيئة العمل. يحاول فهد إنكار المخالفة ولاحقًا التخفيف منها، ولا ينجح. السلطة الرقمية ممثلة في تقرير قسم «الآي تي» تثبت أن المبادرة بإغلاق الخط كانت من طرفه. لجوؤه إلى لغة جبر الخواطر المنتمية إلى الآليات العرفية لمجتمع تقليدي لا يفيد. بوضوح، لا يستطيع فهد استيعاب قواعد السلوك الشركاتية، ويرد على محاولة إجباره على الاستقالة بالعنف البدني، حيث ينتزع أسطوانة إطفاء حريق ويحاول إلقاءها على المدير. هكذا يخرج بطلنا على السلطة الإدارية وعلى سلطة القانون الجنائي أيضًا.
يسقط فهد من الجنّة الشركاتية أو بالأحرى يسقط من الجحيم الشركاتي إلى درجة أدنى من جحيم اقتصاد الخدمات، وهو اقتصاد التطبيقات حيث يكون العمل بالقطعة وبلا حقوق على الإطلاق. بعد فصله من وظيفته، يتحوّل عمله الإضافي كمندوب توصيل على تطبيق «مندوبكم» إلى مصدر دخله الرئيسي. بالنسبة للمشاهد العربي المعتاد على الصورة النمطية للسعودي على الشاشة بوصفه شخصيًا ثريًا أو صاحب عمل (كفيل)، يقدم «مندوب الليل» صورة مغايرة تمامًا، تتلاقى -على الأرجح- بشكل غير مقصود مع السياسات الحكومية «سعودة» الوظائف الممتدة لعقود، وتقرّ أيضًا بالوضع القائم حيث تراجعت مستويات المعيشة لقطاعات واسعة من السكان وتتأزّم مشكلة البطالة بمعدلات مضطردة مما يدفع الكثير من الشباب السعودي لامتهان أعمال كانت متروكة للوافدين في الماضي.
بحكم تقاليد الحبكة التراجيدية، تقود السقطة الأولى للبطل نحو مسار يتهاوى بشكل متواصل نحو مصيره المأساوي والمحتوم. يتورط فهد المسؤول عن إعالة والده المريض وأخته المطلقة وابنتها، مع شبكة لتصنيع الخمور غير المرخصة وتوزيعها. تفتح جولات مندوب الليل المغلفة بالعزلة والاغتراب نافذة على العالم السفلي للمدينة، وتكشف أيضًا عن بلد يتغير بسرعة غير قابلة للتصديق، ثمة فوارق طبقية هائلة ما تلبث أن تتسع ونوادٍ ليلية واختلاط بين الجنسين ولغة مطعمة بالإنكليزية يتكلمها من حوله. العجز عن التأقلم مع قواعد العالم الجديد يمتد إلى العلاقات العاطفية، فإعجاب فهد بزميلته السابقة مها ينتهي إلى فورات من الغضب وقطيعة، وذلك بعد سوء تفسيره للإشارات التي تصله منها، وفشله في تفهم أن ثمة مستويات أخرى من العلاقات بين رجل وامرأه مثل الصداقة.
من جانبها، تحاول الأخت، سارة، التحايل على مشكلاتها المادية عبر المشاركة بفكرة مشروع تجاري في أحد برامج تلفزيون الواقع، وهي محاولة تنتهي كغيرها إلى الفشل. عناصر الفرجاوية والمنافسة وتسليع الذات وأحلام التحقق المعروضة على الشاشات التي تميز برامج تلفزيون الواقع تبدو متوافقة مع التحول السعودي المؤسسي نحو «الترفيه». وتحت تلك المظلة الفضفاضة يتوسع التمويل الحكومي للمنتجات والمناسبات الثقافية والفنية والرياضية بهدف تعميق سوق الاستهلاك الداخلي. بهذا المعنى يقدم الفيلم الذي حقق أعلى الإيرادات عند عرضه في قاعات السينما السعودية شهادة مزدوجة على السعودية الجديدة. مرّة عبر أحداثه ومرّة لأن ميزانيته استفادت من التمويل الحكومي السخي الموجه لصناعة السينما السعودية الصاعدة والمنفتح أيضًا بشكل مدهش على الرؤى النقدية.
يشذّب صناع «مندوب الليل» الإمكانات النقدية الخلاقة المتضمنة في فيلمهم، وذلك بغية نزع أي نكهة سياسية مزعجة عن أحداثه. وتحت ثقل الترويض الذاتي تنقلب العناصر النقدية على رأسها بالاقتراب من نهايته. ثمة حس محافظ في الحبكة، فالجريمة مرتبطة بالخمور والتهتك الأخلاقي الذي يبدو أن الاختلاط بين الجنسين أحد أركانه. أما مأساوية مصير فهد فلا تتم نسبتها إلى مشكلات هيكلية، بل تصور وكأنها عيوب فردية تتعلق بشخصيته وبعدم قدرته على التأقلم وغضبه المنفلت وانزلاقه غير الأخلاقي إلى عالم الجريمة. في النهاية تقدم بيروقراطية الدولة حلًا لمعضلات الشخصيات الأخرى، حيث تحصل سارة على تمويل لمشروعها بطريقة كريمة من هيئة الأسر المنتجة، ويتلقى الوالد بدوره قرارًا للعلاج بالخارج بوساطة من «الشيخ». بل وحتى الخصومة القضائية بين فهد ومديره السابق يتضح أنها قد سويت عبر المسارات العرفية. صحيح أن الفيلم يتناول السعودية المعاصرة برؤية نقدية مفعمة بالجماليات البصرية وبإيقاع شديد الإثارة، لكنه نقد يعيدنا في المحصلة الأخيرة إلى عباءة الدولة والسلطة السياسية ويتملكه حنين نحو أعراف المجتمع التقليدي.