قاموس الأمومة: يوميات أم مطحونة

الخميس 20 آذار 2025
«حدس الأم»، ليز دارلنغ، 2024.

«يبدو لي أن النساء هنّ، لا بد وبكل تلقائية، أقل تأييدًا لفلسفة العدم، لماذا؟ لسبب بسيط، وهو أن جسد المرأة هو أولًا صلة. كل شيء لدى المرأة صلة: حاضرها موصول بمستقبلها وبماضيها، فهي تستقبل الآخر فيها، ويمكنها أن تحمل الآخر فيها، حتى وإن لم تفعل لا يمكنها أن تنسى أبدًا هذه الإمكانية، إذ يذكرها جسدها في كل لحظة من حياتها بحضور الآخر المحتمل».
– نانسي هيوستن.[1]

يتدفق في كُتيب «قاموس الأمومة» لعزة أبو الأنوار، الصادر عن دار هنّ أواخر العام الماضي، سيلٌ من خليطٍ من المشاعر، وبوحٌ أو اعتراف وإقرار بذنب الأمومة. الكُتيب مختلف في طرحه وفكرته عن السائد عند الحديث الأمومة، ومُغاير لما سبق أن كُتب عنها. سبق وأن تناولت إيمان مرسال الأمومة في كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، محاولةً إزاحة الفكرة الرومانسية عن الحمل والولادة والأمومة، حيث عرّت تلك المشاعر وغاصت في قسوتها. رفضت مرسال الخضوع لسطوة ذنب الأمومة وكل ما يستلزمه، غير أن أبو الأنوار هنا قدّمت نمطًا مغايرًا في الكتابة تُقر فيها بوجود الذنب لكن تتعامل معه بصورةٍ مغايرة.

أشارت أبو الأنوار في بداية كتابها إلى كتاب مرسال، واضعةً خطًا فارقًا بين طرحهما. فمرسال تتحدث عن غضب الأمومة المتنامي داخل الأمهات، بيد أن أبو الأنوار قدّمت الأمر بصورة أكثر رحمة وربما أكثر واقعية -على الأقل بالنسبة لي- حيث وصفت ذاك الشعور بـ«الالتباس»، مميزة بين شعورها تجاه أمومتها وتجاه طفلٍ تغذى ونمى من جسدها، وبين غضبها مما حدث بعد الولادة. الأمومة هنا ليست محل سخطٍ أو غضب، بل موضع هشاشة وثقلٍ تحاول الأم النجاة فيه بمن تحملهم أجنةً أو مولودين.

استهلت عزة أبو الأنوار كتابها بإهداءٍ عزيز لكل النساء المطحونات بين شِقَّيّ رحى اليومي، ممن يعشن في هذه البقعة المصابة بلعنة الخراب والحروب والدمار المتفشي في كل أرجاءها. أهدته للثكالى وما أكثرهن، لنساء غزة، للعاملات وربات البيوت، للعاديات للواتي «دهستهن» الحياة. وكذلك لأطفالها وإجهاضاتها. وقد قسمت عزة هذا الكتاب الصغير لمقاطع بعناوين، افتتحت كل مقطعٍ منها بتعريف كلمة ذات صلة بالأمومة بالرجوع إلى أصلها اللغوي.

بدايةً، أعربت الكاتبة عن عدم فهمها لشكوى الأمهات الغربيات من الأمومة، وقبل أن يستهجن القارئ قولها تسرع مباشرة في الجملة اللاحقة لتقطع عليه الطريق؛ فهي لا تُنظِّر ولا تزايد، وتقارن بين واقع المرأة/الأم الغربية كما تناولته مرسال في كتابها وكسرهن لقالب الأمومة، وواقع المرأة/الأم العربية بكل تحدياته ومشاقه. ففضلًا عن الحروب وويلاتها والكوارث الطبيعية وكل هذه المصائب الجسام التي لا تفارق بلداننا، فإن أبسط البسيط يتعذر الحصول عليه. تطالب الكاتبة بأن تنال الأم العربية شارعًا آمنًا وبيتًا تدخله الشمس وإجازة عمل «آمنة» قانونيًا ونفسيًا وماديًا، وأن يكون بمقدور الأم في الطبقة المتوسطة الحصول على جليسة لأطفالها عند حاجتها لها بمقابل تقدر عليه. هذه البديهيات من الحقوق ستشكل فردوسًا للأم العربية!

نجحت الكاتبة هنا بالاشتباك مع واقع المرأة/الأم العربية، تلك المرأة العادية، حيث ربطت الأمومة بما هو اقتصادي وأمني وسياسي بطبيعة الحال. كيف تكون الأمومة دون ضمان توفر الأمان؟ كيف تخلق الأم الأمان لأطفالها إذا كانت هي نفسها تفتقده؟ إن أغلب الكتابات العربية التي تبحث في الأمومة، أو ما يُقدمه مؤثرون/ات حولها هي نماذج تفتقر لإدراك حقيقة وواقع الأم العربية، ربما عمدًا أو عن غير قصد تتبنى نموذجًا غربيًا وتعممه، وهو ما لم تقع فيه الكاتبة هنا. الإشكالية التي تقع فيها كثير من الدراسات النسوية حول نساء العالم الثالث هي أن مفهوم «التجربة» يختلف بين الذات الباحثة والذات موضع البحث، فلا يعتد بتجربة لا توائم شروط الذات الباحثة حتى وإن كانت -الذات الباحثة- من نفس ذلك العالم، إلا أن معيارها ونظرتها باتا أسيرا النظرة الغربية معياريًا لا جهويًا، غاضة الطرف عن الخصوصية المجتمعية للعالم الثالث ومحاكمته للمعيار الغربي.

تتلبس الأم حالة من الذنب، مهما فعلت ومهما قدّمت، إذ إن شعور عدم كفايتها كفيل على الدوام بأن تُحكم غصة الذنب قبضتها على عنقها. يمكننا القول إن أفعى الذنب تلتف على كيان الأم. الإجهاض أكبر خطيئة تسكن كيان الأم، فقد حملت بجنين غير أنه ليس موجودًا. يمتلئ ثديها بحليب الأمومة والحنان، لكن الطفل الذي «ياكل عمرها، ويتغذى على العمر والعقل والقلب» غير موجود؛ حالة أم بأمومة ناقصة، أمومة صامتة على غرار الولادة الصامتة التي عاشتها. وما من دليل على الولادة سوى «شق القيصرية» ذاك «الشرخ» و«الغور» الذي تجوب به العالم، وقلب فيه «مُرّ رتَّبته فوق صدرها يسد مسار أنفاسها… وتعيش». فقدت ما يسميه الآخرون «سقط، نزيف…إلخ» غير أنها تعرف أنه ابنها! خذلها جسدها ولفظ ابنها فكتمت صرختها.

في قصيدة لجويندولين بروكس، الشاعرة الأفروأمريكية، عنونتها بـ«الأم» (غير أن الاسم كُتب بأحرف إنجليزية صغيرة كدلالة على المتن الذي يفيض بالذنب والعجز) تصف الشاعرة كيف تُلاحقها إجهاضاتها، تطارد ذاكرتها، تنهشها، وتقُر بذنبها، ذنب الأمومة:

«لن يسمح لك الإجهاض بالنسيان
ستذكرين مَن أنجبتهم ومَن لم تُنجبي…
لن تطردي عنكِ الأشباح التي تأتيك…
سمعت في صوت الرياح أصوات أطفالي الشاحبين القتلى…
أحبائي الشاحبين أضمكم على صدري الذي لن تلثموه قط
قلت: أحبائي إذا كنت آثمة، أو إذا ما سلبتكم حظكم
وحياتكم التي لم تكتمل،
إذا كنت قد سرقت ميلادكم وأسماءكم،
ودموع طفولتكم الصادقة وألعابكم
وحبّكم المتكلف أو العذب، اضطراباتكم، زواجكم، آلامكم، وموتكم.
إذا ما كنت قد سممت أول أنفاسكم،
فصدقوا بأني حتى في تعمّدي لم أكن متعمّدة.
لِمَ انتحب،
انتحب وكأن الجرم ليس جرمي…
صدقوا أنني أحببتكم كلكم
صدقوا أنني أعرفكم، حتى وإن بالكاد عرفتكم،
وأحببتكم، أحببتكم جميعًا».
[2]

تكمل أبو الأنوار سردها الحميمي عن الأمومة كما لو أنها تتحدث لنفسها؛ إنه تداعي الذاكرة الحر. تخط رسائل لأطفالها، وفي أثناء ذلك تصحبنا معها في رحلة حملها وإجهاضها (لأجنتها وأحلامها) ورحلتها مع أمها. تتداعى المشاعر وتختلط في هذه الرحلة، فتارةً تكون الوالدة وتارةً تكون المولودة، وتستعرض أثر كلٍ من تلك الحالتين على الأخرى. إن هذه المرأة الكاتبة المثقفة باتت اليوم تطارد ذرات الغبار لتبعدها عن كُتبٍ كانت ذات يومٍ شغلها الشاغل. صارت مسكونةً بهاجس المصروف والميزانية، بحرارة طفلها، برائحة قيئه على ملابسها. صورةٌ شديدة الواقعية والعادية، لكننا نسمع من خلالها الصوت الكامن داخل هذا الكائن الذي لا يهدأ، نسمع هواجسها وأمانيها ونعرف أن ذلك الدمع الذي ينسال ليس بسبب تقطيع البصل، بل من جرح الأمومة الغائر، فـ«الأمومة ثنائية القطب، اضطراب لا يأكل حياة أحدٍ غيرك، لا يبدو منها للآخرين إلا وجه واحد». قدمت الكاتبة «وصفة» للأم المثالية المتفانية في متابعة أعمال المنزل، ووصفة أخرى للزوجة المثالية، تتخفى تحتهما ذاتها وأحلامها وشغفها إذ لا مُتسع في اليومي لكل ذلك. لقد صارت أمًا ولا علاج لذلك. «استيقظ جريجور سامسا بعد أحلامٍ مُزعجة فوجد نفسه وقد تحول إلى أم».

«تكاد المرأة تمتلك دومًا معرفة حميمة بالحياة المادية وهذه المعرفة تجعلها تلاحظ جريان الزمن وإيقاعات الجسد. حتى لو كانت شغوفة بالفن والفلسفة، فإنه يصعب عليها ألا تأخذ في الحسبان ضرورة النوم والاغتسال وارتداء الثياب وتبديلها، وضرورة الكنس وغسل الأطباق وملء الثلاجة وإشعال الفرن. كما أنه من النادر أيضًا ألا تقوم، وهي تفكر، ببعض الأعمال المنزلية».[3]
– نانسي هيوستن.

الخوف والعجز يؤطران كينونة الأم ويقضمان قلبها. تخاف الموت خوفًا على أطفالها، فمن يحميهم بعدها؟ تكون الأم رهينة توقعاتها، تلد فتنتظر أن تمتلئ حبًا، فلا تجده! وهنا تحصل الخيبة والمأساة والجلد، غير أن فهمها مع مرور الوقت لما مرّت وستمرّ به كفيل بعقد مصالحة بينها وبين رحمها، فيتحول من جزء يسيطر على عالمها ويتحكم فيه إلى جزء تصغي له وتحنو عليه وتحبه. حينها تواجه المرأة شعور الذنب الذي يتلبسها، لتسامح نفسها وتحبها وتحب أطفالها. هذه هي وصفة التعافي التي طرحتها عزة أبو الأنوار.

لقد صُوِّرت الأمومة دائمًا إمّا بوصفها «نعيمًا» لم تحظَ به كثيرات -الطرح المُحافظ-، أو باعتبارها حالة «عنيفة»، فعلًا موّلِّدًا للغضب، والحقد، والثأر من الابن والسلطة والاسم الذي أنهك الجسد، كما فعلت مرسال. يأتي كتاب أبو الأنوار للخروج من الثنائيّة، أولًا لمساءلتها، وثانيًا لطرح فكرة هي نفسها ملتبسة ومسائِلة لنفسها طوال الوقت عن فعل الأمومة نفسه: كيف يمكن للجسدِ الخائف على الطفل ألّا تستغرقه مشاعر الذنب وحدها، فتنسحق الذات، ذات المرأة، وأيضًا ألّا تحول تعبها البيولوجيّ إلى عنف رمزيّ تجاه الابن الوليد. إذا كان من درسٍ لهذا الكتاب فهو أنّه، على الأقلّ، يجعلنا نقف على عتبةٍ جديدةٍ من طرح الأسئلة عن الأمومة، طرحًا يظهر التعقيد الذي يميّزنا كبشر بعيدًا عن كليشيهات الأنوثة المحافظة و«المرأة» النسويّة الراديكالية.

  • الهوامش

    [1] نانسي هيوستن، «أساتذة اليأس: النزعة العدمية في الأدب الأوروبي»، ترجمة وليد السويركي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، أبو ظبي، 2012.

    [2] من ترجمة كاتبة المقال.

    [3] المصدر السابق، ص 37.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية