«الشهيد يوضّح لي: لم أفتش وراء المدى
عن عذارى الخلود، فإني أحبُّ الحياة
على الأرض، وبين الصنوبر والتين، لكنّني
ما استطعتُ إليها سبيلًا».
– محمود درويش، «حالة حصار».«إيّاكم أن تنظروا إلى مراياكم، لأنّكم إن فعلتم
فسترون دماءنا على وجوهكم».
– أمل أبو عاصي اليازجي، من غزّة.
لم يغيّر طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي شيئًا من ميتافيزيقيّة الموت عند الفلسطينيّ. ليس الفلسطينيّ مقولة جامدة، أو ذاتًا لا تتغيّر، بل هو أفقٌ لجسد مُستعمَر على يد واحد من أعتى الاحتلالات التي غزت عالمنا الحديث، احتلال بالموت والجغرافيا والماء والهواء. إنّ الفلسطينيّ دائمًا ما يموت: أي دائمًا ما يسعى إلى الحياة، عاديًّا، مثله مثل غيره من بني البشر، بيد أنّ حياته معنى مرادف دائمًا للموت. لقد حدّدت «إسرائيل» حياة الفلسطينيّ بالموت، لأنّها -كاحتلال استيطانيّ- سيّجت «حياتها» و«قيامها» للناجين من المَحرقة، وغيرهم من اليهود الذين استبطنوا الرؤية الاستعماريّة لـ«إسرائيل»، على «موت» وإزالة الفلسطينيّ جغرافيًّا ووجوديًّا.
يمثّل الكتاب الذي بين يدينا، «كتاب الوصايا»، شهاداتٍ ووصيّات لأدباء وشعراء من غزّة، بعض هؤلاء الشعراء والأدباء قضى نحبه، ومنهم مَن ينتظر. ينتظرُ حياةً. بيد أنّ الحياة في هذا الحصار الإسرائيليّ الحربيّ قد تكون أشدُّ مشقّة من الموت.[1]
إنّ الشعور الذي يرجعُ به المرء من كلّ نص في هذه الوصايا هو الشعور الذي عبّر عنه الشاعر الفلسطينيّ يوسف القدرة في الكتاب، ألا وهو «لحظة أخيرة في كلّ وقت وفي جميع الأمكنة دون استثناء تحت سماء غزّة من شرقها إلى بحرها ومن جنوبها إلى خط تماسها وتماهيها مع البلاد».[2]
يبدو إذًا أنَّ الكلمات وحدها هي ما تبقّى شهادةً على هذا الواقع شديد القسوة الذي يحياه الفلسطينيّون تحت وطأة هذا الاحتلال الاستيطانيّ. إلّا أنّه وكما يشير ألبرتو مانغويل في مقدّمته لهذا الكتاب، فـ«حتى بلسان المتألّمين، تخفقُ اللغة. تخفقُ لأنها في جوهرها محاولتنا العقيمة لإضفاء معنىً على العالم، لرؤية عالمنا المُربِك هذا من خلال المنطق. لكن في الكوارث، كتلك الحاصلة في غزة، تقع الأحداث المأساويّة خارج أيّ سبب منطقيّ يمكن تصوّره».[3]
اللغة حربًا ضدّ الصَمم الإبستمولوجيّ
حاول الفلسطينيّ دائمًا أن يتجنّب وينجو من الوصم الدوليّ له باعتباره «لاجئًا»، بمعنى أن يُستدخل استدخالًا ضمن المعجم الحقوقيّ الليبراليّ؛ وذلك لأنّه صاحب أرض وجغرافيا ووجود تجري منازعته عليها من قبل طارئين جغرافيين على هذه المنطقة. لكنّ فشل الفلسطينيّ في تمثيل قضيّته عالميًّا ليس نابعًا من «تقصير» ذاتيّ، أو من استعمال لغة أو نهج طريقة معيّنة، بل الأمر برمّته موكولٌ إلى استحالة معرفيّة ووجوديّة في تفهّم المعجم الليبراليّ لقضايا غير مستدخلة في لغة الحقوق، بحيث يصرّ العالم على إضفاء طابع حقوقيّ على الألم الفلسطينيّ، لأنّه ببساطة ألمٌ غير مترجَم إلى العالم.
تقولُ الوصايا في هذا الكتاب، التي تمثّل بيانًا ضدّ الموت، إنّنا هنا، بلغتنا التي هي سلاحُنا الآخر في حربنا ضدّ هذا المحو الإسرائيليّ لوجودنا. لا يُحارب الفلسطينيّ على هويّة ما، بل على وجود حقيقيّ غير استعماريّ. لذا تتساءل جوديث بتلر في مقدّمتها للكتاب، مستنكرةً، «مَن تخاطبُ هذه الكتابات؟ هل مِن مستمع؟ هل يمكن الوصول إلى العالم من خلال هذه الكتابات؟».[4]
تدعونا هذه الكتابات أن نفكّر ونطرح أسئلةً جدّ مهمّة: بعد هذا التدمير البربريّ لقطاع غزّة من قبل الإسرائيليين، ماذا يمكن أن تفيد الكلمات؟ وماذا بوسع اللغة أن تصنع حيال هذه الكارثة الوجوديّة لقطاع لطالما كُتب عليه الموت حصارًا منذ عقود، ويشهد حاليًا حربًا إباديّة هي الأعتى من نوعها؟
لن يفهم المثقف الغربيّ معنى المقاومة، لأنّ معرفته ببساطة قد تشكلت ضمن إبستمولوجيا استعماريّة، لا يمكن الفكاك منها، إلا بتهديم أركانها وبنائها من جديد.
في الحقيقة، يشعرُ كتّاب هذه الوصايا بعجزٍ فظيع، وبقلّة حيلة اللغة في إيصال التدمير والمعاناة التي يشهدها الغزّيون. يعبّر مثلًا يسري الغول في شهادته «وصيّة رجل حالم» عن هذا العجز قائلًا كأنّه في حلم: «ولأنّني مضطرٌ أن أكتبَ وصيّتي أيضًا؛ قرّرتُ تنفيذ عمليّة فدائيّة، لعلّي أحظى بهدنة قصيرة».[5] ويبدو أنّ الغول قد فقد كلّ الأمل في الواقع، فلجأ إلى الخيال، راجيًا «أن تصل [هذه الوصيّة] بأيّ وسيلة، عبر الكوابيس أو الأحلام، أو عبر يمامة مغبّرة غارقة في التيه».[6]
يبدو أنّ الفلسطينيّ لم يعد لديه ما يقدّمه للعالم سوى وصيّته؛ وصيّة الموت والحياة، النجاة والهلاك، وصيّة كلّ أمل قد ضلّ طريقه إليه، وصية أن يجرّب الحياة. هذا ما تعبّر عنه وصيّة الشاعر والأكاديميّ الفلسطينيّ رفعت العرعير الذي استشهد جرّاء قصفٍ إسرائيليّ هو وعائلته، حيث يُوجِب علينا أن نروي الحكاية، حكاية الحياة ضدّ الموت: «إذا كان الموتُ لزامًا عليّ/ لا بدّ وأن تحيَوا أنتم لترووا حكايتي…».[7]
لكن، هل تُسمِع الصمَّ الوصايا؟ نحن أمام صَمم إبستمولوجيّ. كانت الناقدة البارزة في حقل الدراسات ما بعد الاستعماريّة غياتاري سبيفاك قد طرحت قبل عقود في ورقتها الشهيرة «هل يتكلّم التابع؟» ضربًا من هذا التفكير الذي نريد أن نجرّ هذه الوصايا إليه، حيث إنّ لغة التابع الخاضع للاستعمار لا يفهمها المُستعمِر. إنّ التابع قد نابت عنه لغةٌ وأيديولوجيا وكلامٌ لا يمتّ له بصلة يريد أن يضعه في مقولات إبستمولوجيّة قد حدّدها الغربُ الاستعماريّ سلفًا. لكن، واستكمالًا على طروحات سبيفاك، يمكنني القول إن التّابع لا لغةَ له، ليس لأنّه لا يمتلكُ لغةّ في واقع الحال (فهذه الوصايا المكتوبة على يد أدباء فلسطينيين تمتلك لغة واضحة وجماليّة وقاسية)، وإنّما لأنّ المركز/الغرب لا يعترف إلّا بلغة عولميّة، وإنْ لم يُترجم -بالمعنى الحرْفيّ والرّمزيّ- التّابع أوجاعه ومعاناته لهذه اللغة العولميّة، فلن يُعترف به. هكذا كانت لعبة الاعتراف دائمًا: عليكَ أن تستدخل ذاتيّتك في أفق عولميّ، وتبدي شروط طاعة أكثر، ليحصلَ الاعتراف الذي يصبّ في مصلحة المركز كأنّه يَنظر للتّابع ويهتمّ بأمره، في حين أنّه شرَطه بشروطه العولميّة التي سحقت معناه.
إنّ الفلسطينيين الأحياء الذين يمتلكون لغة، هم أنفسهم الراحلون الذين «رحلوا فجأةً … ولا يزال في فمهم الكثير من الكلمات التي أرادوا قولها، والكثير من الحبّ والحياة والأيام، وكانت لديهم سماء وأرض»، كما تعبّر هناء أحمد في وصيّتها «أريد أن أنجو».[8]
وصايا تُخاطب المستقبل الغامض
رغم أنّ هذه الوصايا شخصيّة، وتصفُ أحوال كاتبيها، والأحبّاء الذين فقدوهم خلال حرب الإبادة على غزّة، أي رغم كونها تبدو ذاتيّة جدًّا، إلّا أنها أيضًا تُخاطب المستقبل الغامض الذي لا يملكه أحد. كان طوفان الأقصى انتهاكًا لحدود النار التي فرضتها «إسرائيل» للانفتاح على مستقبل لا يتحكّم به الأعداء. اللغة هي الطرف الآخر من المقاومة، هي الأخرى تحاول أن تُخاطب المستقبل، أن تشتبك مع شيء غامضٍ جدًا. وكلّ فعلٍ تحرّريّ -لغةً أو سلاحًا- هو مناشدة للمجهول، للأقصى، لما لا يمكن رؤيته الآن وهنا.
على مدار عقود، اختزن الإسرائيليّون في أنفسهم حقدًا سياسيًا وجغرافيًا لم يكن إخراجه ممكنًا سوى بالإبادة، والإمعان في كلّّ فعلٍ وحشيّ. واليوم، فإن الشريط المعزول الذي كان يُسمَّى غزة (وصار يُسمَّى غزة أيضًا!) هو الذي يتلقى هذا الحقد الوحشيّ النابع من الدّولة العبريّة. إنّه حقدٌ يجعل الأحياء يكتبون وصايهم، متمنّين أن «يُكتبَ على قبري: يؤسفني أنّني لم أعد قادرًا بعد اليوم على ممارسة العشق والكتابة»، مثلما يوصي الشاعر الفلسطينيّ سعيد أبو غزّة.[9]
الموت الدائر في غزّة هو صراعٌ على الحياة بلا أيّ رومانسيّة، إثبات القوّة والحياة والمعافرة هي أفعالُ مقاومةٍ ضدّ عدو احتلاليّ يهاب الموت باعتباره نقيضًا للحياة. والمقاومة هي قلبٌ لهذه المعادلة الكولونياليّة تمامًا، وهي مكمن النّصر.
لقد عملت «إسرائيل» دائمًا بمساعدة ومباركة أميركيّة على فكرة العزل التي تسلب الحياة، وتحويل كلّ شبر من فلسطين إلى أماكن معزولة. العزلُ دائمًا هو سياسية كولونياليّة: فهو يسهّل سياسات التحكم والهيمنة، عبر الجسد والقانون والرّوح، من خلال حرمان الإنسان من إنسانيّته ومن ثمّ إبقاءه «معلَّقًا»، «إنسانًا منبوذًا»؛ لا هو بالميّت ولا هو بالحيّ: وهي حالة الإنسان الغزّيّ تمامًا. إنّها نوع سمّاه الشاعر الفلسطينيّ حسين حرز الله بنوع من الجماليّة القاسية «على قيد ما يُشبه الحياة».[10] ونجدُ أيضًا ضربًا حزينًا ومؤلمًا من الشعور بالفراغ الإقليميّ الذي تحياه غزة في نصّ سليم النفار الذي اغتيل هو وأسرته إثر ضربة جويّة، حيث يكتب النفار معلنًا براءته: «وصيّتي لأولادي إن قدّر الله لكم الحياة أن تعلنوا البراءة من العرب… فواقع الأمر يدلّل بأنّهم لا ينتمون لجنسنا… بل هم وقادتهم جزءٌ من المؤامرة التي تستهدف إبادتنا».[11] وهو شعورٌ قاسٍ يسجّله الفلسطينيّ المتروك في وجه الإبادة.
إنّ «إسرائيل» في المخيال العالميّ الداعم للكولونياليّة والحقد هي صورة الإنسان «الحيّ»، القاتل، القوّيّ، في حين أنّ العالم كله تواطأ على فكرة عزل غزة باعتبارها منطقة/ بشرًا على حوافّ البشريّة والجغرافيا، وبالتالي فهي منطقة عالقة بين الموت والحياة. ونجد هذا اليأس لدى الغزّيّ في نص أبو عاصي اليازجي، حيث يوصينا: «لو رحلنا اطووا صفحتنا للأبد. مزّقوا فلسطين من كرّاسة ذاكرتكم، فليس لكم بها حاجة».[12]
لكنّ المُقاومة هي تصد لهذا المخيال الكلبيّ الذي يقوم على «الفالوس الإسرائيليّ»، تثبت مقاومة الشعب الفلسطينيّ دائمًا أن هذا الفالوس الكولونياليّ محض وهم، حتى ولو حاز كلّ القوة العسكريّة العالميّة. المقاومة هي نفيٌ تامٌ لحال العالقيّة هذه بين الحياة والموت؛ المُقاومة هي إرادة حياة حتى ولو بالموت. فـ«أعلم تمام العلم أنّنا خلقنا لنموت، أنّ كلّ مصائرنا تنتهي إلى مكان واحد، وهو التراب»، كما تقول الكاتبة الغزيّة ليان أبو القمصان.[13]
لذلك، فالموت الدائر في غزّة (الألم الذي لا نهاية له وما من نعيٍ في العالم يليق به البتّة) هو صراعٌ على الحياة بلا أيّ رومانسيّة، إثبات القوّة والحياة والمعافرة هي أفعالُ مقاومةٍ ضدّ عدو احتلاليّ يهاب الموت باعتباره نقيضًا للحياة. المقاومة هي قلبٌ لهذه المعادلة الكولونياليّة تمامًا، وهي مكمن النّصر؛ أنّهم لا يهابون الموت من أجل التحرير. لذلك، فالهجوم الصهيونيّ الدائم على المستشفيات والمدارس والبنى التحتية دائمًا هو إرادة بالمحو، بالنصر على ما لا نصر فيه، لإثبات قوّة وهميّة، بعدما تحوّلت تل أبيب إلى صافرات إنذار.
«أن أجرّب الحياة»: عالم قاتل بالسلاح والمعرفة
إنْ كان هنالك شيء قد تمنّاه كُتّاب هذه الوصايا غير الموت فهو أن يجرّبوا الحياة. تبدو جملة «تجريب الحياة» شاعريّة، ولكنّها في سياق الوصايا شديدة الوطء والقسوة. إنّها حياة على الحافة، ربّما تنتهي الآن بصاروخ إسرائيليّ، أو عطشًا، أو قلّة غذاء نتيجة إغلاق المعابر الموصلة إلى غزّة. نصّ الأديبة الغزّيّة نعمة حسن، اللاجئة في مخيّمات غزّة والأم لسبعة أطفال، يعبّر عن هذه الأمنية بتجريب الحياة بلغة شديدة الحزن، حيث تقول: «أريد فقط أن أجرّب الحياة أنا وأطفالي. أريد أن أعرف كيف يعيش الآخرون دون خوف من الغد … ولكنّ الغد أسير والحرب تقتله كلما رفع رأسه. لا أعلم متى تَعلّم القمح أن يصبح بندقية، وكيف للعالم أن يقتنع بأنّنا تعلمنا أن نصبح أمواتًا، ولكني أعلم جيدًا أنني وأطفالي نجيد الحياة».[14]
لذلك، فربّما تعلّمنا هذه الحرب يأسًا من العالم كما نجده تمامًا في نصّ حسام معروف: «لا أوصي العالم بأيّ شيء. فالخرِب مهما احتفظت به، عليك أن تلقيه».[15]
وبالفعل، ردًّا على سؤال نعمة حسن الاستنكاريّ، فقد اقتنع العالم بموت الفلسطينيّ نتيجةً للمعرفة التي أنتجها حوله، تلك المعرفة الغارقة في الجهل والاستعمار تحت لافتة «معاداة الساميّة».
الحقيقة هي أن «إسرائيل» أخصت المثقفين في العالم، ولذلك لا تنتج معرفتهم شيئًا حيالها، لأنهم مسحورون بالفالوس الصهيونيّ الذي يجعلهم في رضا عن ذواتهم المضرجة بالهتلريّة.
فمثلًا، المثقفون في العالم الغربيّ (من أمثال هابرماس وجيجك والقائمة تطول) ليسوا بقادرين على اتخاذ موقف سياسيّ وأخلاقيّ من الذي يحصل في غزة؛ ببساطة لأن غزة ليست موضوعًا «مغريًا» بما يكفي لأن يراجعوا من أجله نظرياتهم المتمركزة أوروبيًا وأميركيًا. وعلى عكس نُقَّاد المقاومة من الليبراليين الصهاينة، فإنّ الدفاع عن موقف سياسيّ-أخلاقيّ تجاه قضيّة واضحة كالحرب الآن مجلبة للخسارة بالنسبة إلى أغلب المثقفين في العالم الغربيّ والعربيّ معًا.
نحن أمام معرفة غربيّة شكلها المثقفون الغربيّون تحت لافتة عداء الساميَّة والعار من النازيّة، وبالتالي هي معرفة تكفيريّة بمعنييْن: تكفيريّة عن خطيّة الهتلريّة والنازيّة، وتكفيريّة للفلسطينيّ باعتباره فلسطينيًا، هذا «المنبوذ» بتعبير أغامبن، الذي يتقاسم الحياة والموت، القانون واللاقانون. وبالتالي، فهو منبوذ كلّيّ، لن يجد المثقف الأبيض فيه موضوعًا مغريًا مثل اللاجئين والدفاع عن حقوق متوهمة، والسعي وراء كلّ قضية رابحة نظريًا وواقعيًا.
إنّ المعرفة الغربيّة لم تقدر على استدخال الفلسطينيّ إلى منظومة حقوقها. وبالتالي، فالفلسطينيّ ليس «لاجئًا»، أي ذا حقوق ونبحث له عن موطن، وهو ليس وليد صراعات مناطقيّة يمكننا أن نوفّر له «منطقة آمنة» من الحرب. إنّه دخيل إبستمولوجيّ ولغويّ، وبالتالي لا يمكن التعامل معه.
اقرأ/ي أيضا:
الحقيقة هي أن «إسرائيل» أخصت المثقفين في العالم، ولذلك لا تنتج معرفتهم شيئًا حيالها، لأنهم مسحورون بالفالوس الصهيونيّ الذي يجعلهم في رضا عن ذواتهم المضرجة بالهتلريّة. لن يفهم المثقف الغربيّ معنى المقاومة، لأنّ معرفته ببساطة قد تشكلت ضمن إبستمولوجيا استعماريّة، لا يمكن الفكاك منها، إلا بتهديم أركانها وبنائها من جديد.
لذلك، ختامًا، فإنّ السابع من أكتوبر ليس يومًا هدَّد الوجود الصهيونيّ فحسب، بل هدَّد معرفة أغلب المثقفين حول العالم. هدّدهم ببساطة لأن المثقفين الغربيين قد ارتضوا أن يتعاملوا مع الفلسطينيّ دائمًا تحت لافتات لا تخصه مثل الحقوق والديمقراطيّة، وبالتالي أقصى ما يمكنهم فعله هو مطالبة الدولة العبريّة بالسماح الديمقراطيّ لهم، وعدم الالتفات إلى القضيّة الجذريّة التي يحملها كلّ فلسطينيّ، وكلّ «أحرار العالم»: التخلّص من الاستعمار.
إننا نعيش معرفة عاجزة ومخصيّة. ولذلك فقدرة الفلسطينيّ المقاوِمة هي أكبر تحد لجدران العجز والخصاء المعرفييْن.
-
الهوامش
[1] «كتاب الوصايا: شهادات مبدعات ومبدعين من غزة في مواجهة الموت». مجموعة من المؤلفين، تحرير ريم غنايم. مرفأ للثقافة والنشر، بيروت، طبعة أولى، 2024.
[2] المصدر السابق، ص 95.
[3] المصدر السابق، ص 9.
[4] المصدر السابق، ص 15.
[5] المصدر السابق، ص 21.
[6] المصدر السابق، ص 23.
[7] المصدر السابق، ص 25.
[8] المصدر السابق، ص 28.
[9] المصدر السابق، ص 37.
[10] المصدر السابق، ص 63.
[11] المصدر السابق، ص 39.
[12] المصدر السابق، ص 41.
[13] المصدر السابق، ص 59.
[14] المصدر السابق، ص 72.
[15] المصدر السابق، ص 78.