«مأساة كمال داود»: السياسة والأدب وريع «كره الذات الثقافية»

الثلاثاء 03 كانون الأول 2024
كمال داود بعد حصوله على جائزة غونكور الأدبية. أ ف ب.

بدعوى الخروج من القطيع، يشذّ «المثقف العربي التنويري الحداثي» بعيدًا حتى يدخل أحيانًا قطيع المعسكر المقابل. ربما تلخص هذه المفارقة مأساة الكاتب الجزائري الذي صار فرنسيًا، كمال داود. يريد الرجل أن يكون غربيًا أكثر من الغربّيين، على نحو لا يستطيع معه لجم نفسه عن إعادة تشكيل الحقيقة ومعايرتها، في الوقت الذي يبني فيه أسطورته على فكرة أنه يحارب وحيدًا وحتى النفس الأخير، أولئك العرب والمسلمين الذين جمعوا كل شرور الأرض واحتكروا الحقيقة وتأويلها. والممل في هذه القصة المكررة أنها مكررة على نحو لم يعد الجمهور تجاهها غرًا يؤمن بالأبيض والأسود. ليست مأساته مجرد مأساته الخاصة، بل هي انعكاس لتاريخ ممزق بين عالمين؛ عالم شكله الاستعمار وظل راسخًا في النفوس والأذهان، وعالم شكلته الدولة الوطنية التي ورثت الاستعمار وعجزت عن تجاوزه. 

قبل شهورٍ نشر داود مقالًا في مجلة لوبوان الفرنسية بعنوان: «لماذا لا يُقلق الذكاء الاصطناعي ما يسمى بالعالم العربي؟»، انتهى فيه إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يثير أي قلق في الدول العربية -كما يثيره في الغرب- لأن «التلفيق ومحو حقوق الكتاب تقليد عربي راسخ». وربما يكون الأمر كذلك على نحو نسبي، إلا أن المثير للقلق أن داود نفسه، وبعد حصوله على جائزة «غونكور» -الجائزة الأدبية الأرفع في فرنسا- عن روايته «الحور»، تبين أنه قد صاغ الرواية عن وقائع حقيقية جرت لفتاة جزائرية «استلها من ملفها الطبي، حيث كانت تتابع علاجًا نفسيًا لدى زوجته». 

تستحضر الرواية الحرب الأهلية في الجزائر خلال عقد التسعينيات، لتحكي قصة فتاةٍ تعمل مصففة شعر، كانت هي الناجية الوحيدة من بين أفراد عائلتها خلال العشرية الحمراء؛ وتحتفظ بالأثر الجسدي للمجازر الرهيبة، على شكل ندبة في حلقها تحرمها من الكلام. وبعد إعلان فوز الرواية بالجائزة، ظهرت سعدة أربان، التي كانت بالكاد تكافح للتعبير عن نفسها بسبب الآثار اللاحقة للهجوم الذي تعرضت له -حيث تضررت حبالها الصوتية- لتتهم داود بأنه «سرق ملفها الطبي وحوله إلى رواية». وسرعان ما أثارت الاتهامات التي وجهتها أربان جدلًا على شبكات التواصل الاجتماعي وفي دوائر النقاش الرسمية. فمن ناحية، يرى البعض أن داود تجاوز الخط الأخلاقي من خلال استغلال معاناة الآخرين لأغراض أدبية، فضلًا عن مسألة كشف السرّ الطبي من طرف زوجته، بينما يدافع آخرون عن الحق في حرية التعبير واستخدام الأدب لمعالجة مواضيع حساسة. ومن ثم فإن هذا الخلاف يثير أسئلة حاسمة حول مدى الحساسية اللازمة عند التعامل مع مواضيع مرتبطة بالعنف والذاكرة وهوية المتضررين.

لكن وراء هذا الجدل حول طبيعة الأدب ودوره، وعن هوس كمال داود بلعب دور الكاتب المنشق، يبرز سؤال عن طبيعة هذا الانشقاق، هل هو مجرد مفاصلةٍ مع السلطة السياسية والدينية، أم كره للذات الثقافية وتعليق جميع شرور العالم فوق ظهرها والسعي نحو ثقافة الآخر بوصفها التجلي الأسمى للمعرفة والقيم الكونية؟ وهل لهذا الكره الذاتي علاقة بما تمنحه ثقافة الآخر من ريوعّ مادية ومصالح معنوية؟

الجوائز الأدبية والسياسية

خلافًا لأغلب دوراتها السابقة، التي تشوبها أجواء من التشويق والترقب، فإن الدورة الأخيرة من جائزة «غونكور» كانت معروفة السبيل والتوجه، إذ لم يكن أحد يعتقد بأنها لن تنتهي في جيب كمال داود. لقد استعد لها الرجل قبل عامٍ بعشرات المقالات والمواقف المنحازة للسياسات الفرنسية والموقف الغربي من حرب الإبادة في غزة ولبنان، ولم ينس بين الحين والأخر أن يكتب في موضوعه المفضل وهو تحقير كل ما هو عربي أو مسلم، ونسب جميع شرور هذا العالم للعرب والمسلمين، كما لم يوفر في نقده السطحي اليسار العالمي، واختص اليسار الفرنسي بمقالاتٍ لم يكتبها حتى عتاة أقصى اليمين الشعبوي. بل وطالت مقالاته روسيا والجنوب العالمي وحتى شعب كاليدونيا على بعد آلاف الأميال من باريس. ومن عجائب الصدف أن كل أعداء داود، الذين يهاجمهم فيما ينشره، هم أعداء النخبة الفرنسية الحاكمة. ثم جاءت الهدية من السماء، عندما احتدم الصراع بين فرنسا والجزائر، في الوقت الذي أصبحت فيه العلاقات بين باريس والمغرب أكثر رسوخًا، بعد «اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمغربية الصحراء الغربية». حيث تقاطعت السياسة بالأدب على نحو معقدٍ، وقد لعب الكاتب المغربي وأحد أعضاء لجنة التحكيم، الطاهر بن جلون، دورًا أساسيًا في فوز داود، بوصفه كاتبًا جزائريًا معارضًا. 

لا يمكن فصل الأدب عن السياسة، حيث لطالما كان الأدب وسيلة لاستكشاف القضايا السياسية وانتقادها، وكثيرًا ما تسلط الجوائز الأدبية الضوء على الأعمال التي تعالج المخاوف الاجتماعية والسياسية الملحة. ويمكن أن يؤدي الاعتراف بمثل هذه الأعمال إلى دعم الأصوات الداعية إلى التغيير وجلب وجهات النظر المهمشة إلى التيار الرئيسي. لكن من خلال منح الجوائز لأعمال معينة، غالبًا ما تؤثر المؤسسات المانحة على الروايات التي تكتسب أهمية. وهذه العملية الاختيارية سياسية بطبيعتها، لأنها تعكس الأيديولوجيات السائدة والأولويات الثقافية، وهذا ما تثبته أغلب تجارب الجوائز، وفي حالة غونكور الفرنسية يبدو ذلك أكثر وضوحًا في السنوات الأخيرة. 

فالجوائز الأدبية أصبحت أدوات للقوة الناعمة، تتوافق مع أهداف جيوسياسية محددة. كما هو الشأن مع جائزة نوبل -لاسيما في في الأدب- حيث يظهر بوضوح تفضيلها للمنظورات الغربية، الأمر الذي يثير التساؤل حول تمثيلها العالمي. فضلًا عن ذلك، فإن لجان التحكيم ليست بمنأى عن التأثيرات الإيديولوجية. فقد تعكس القرارات السياسات الشخصية للمحكمين، أو المناخ الثقافي، أو مصالح المنظمات الراعية. وقد يؤدي هذا إلى تجاهل بعض المؤلفين بسبب توجهاتهم السياسية أو مواقفهم المثيرة للجدل، في مقابل الاعتراف بالأعمال التي يُنظر إليها على أنها ذات فائدة سياسية أو متوافقة مع الأيديولوجيات السائدة. أما الجانب غير المعلن دائمًا فهو دور هياكل السلطة في النشر، حيث غالبًا ما تصب الجوائز الأدبية الكبرى في صالح الأعمال التي تنشرها دور نشر كبيرة راسخة، مما يؤدي إلى تهميش الأصوات المستقلة أو المهمشة. وتؤكد هذه الديناميكية على التقاطع بين رأس المال الثقافي والقوة الاقتصادية في تشكيل القواعد الأدبية. 

كُره الذات الثقافية

لا ينقص كمال داود الموهبة ليكون كاتبًا عالميًا، لكنه يصر أن يكون كاتبًا فرنسيًا. بالنسبة للجزائري، الذي كان بلا شك ضحية فشل دولة ما بعد ثورة التحرير في بناء نظام سياسي واجتماعي يحقق الحد الأدنى من الحرية والعدالة لأبنائه، فإن المثال الذي يجب أن يسلكه في تضادٍ مع هذا الفشل، هو العودة -على نحو رمزي- إلى ما قبل ثورة التحرير. تعبر هذه الكراهية الثقافية للذات عن حالة يطور فيها الأفراد أو الجماعات تصورًا سلبيًا لهويتهم الثقافية أو تراثهم أو تقاليدهم. وغالبًا ما تنشأ من مشاعر داخلية بالنقص، تنبع من سياقات تاريخية أو اجتماعية أو سياسية حيث تم التقليل من قيمة ثقافتهم أو تهميشها أو وصمها. وفي الحالة الجزائرية، نجد هذا النموذج المثالي في كمال داود. 

كثيرًا تكتسب المجتمعات المستعمرة أو تلك التي عانت من أنماط استعمارية استيطانية، اعتقادًا داخليًا بأن ثقافاتها «متخلفة» أو أدنى مقارنة بثقافات المستعمرين، الذين يفرضون لغتهم وعاداتهم وقيمهم. وقد تستمر المجتمعات في مرحلة ما بعد الاستعمار في التعامل مع هذه الأفكار المتبقية، مما يؤدي إلى الشعور بالخزي أو رفض التقاليد الأصلية. ومع فشل نماذج الحكم ما بعد الاستعمار، نجحت هيمنة الثقافة الغربية العالمية من خلال وسائل الإعلام والاقتصاد والسياسة في أن تطغى على الثقافات المحلية، مما جعلها تبدو أقل حداثة أو مرغوبية. 

وهذا التطور دفع أحيانًا نحو ردات فعل متطرفة، إما في اتجاه نسق من التفكير والسلوك الرجعي، الذي يتطور أحيانًا إلى العنف والإرهاب المادي والفكري، أو في اتجاه كراهية مطلقة للذات ورغبة في الانفصال والتماهي مع هذه الهيمنة. فضلًا عن أن الفوارق الاقتصادية تؤدي بشكل واضح إلى تضخيم مشاعر الكراهية الذاتية الثقافية. فعندما ترتبط بعض الثقافات بالفقر أو الافتقار إلى التقدم، قد ينأى الأفراد بأنفسهم عن تراثهم سعيًا وراء الفرص المرتبطة بالثقافة المهيمنة. وتتجلى هذه الظاهرة بشكل خاص في العالم العربي، حيث كثيرًا ما يُقاس التغريب بالنجاح.

هذه الكراهية الثقافية للذات، التي هي أحد أعراض وأسباب التفاوتات الاجتماعية العميقة، والتي تؤدي إلى إدامة دورات من الخزي والانفصال والخسارة، هي قبل كل شيء حصيلة الفشل المريع للبنى الحاكمة ما بعد الاستعمار، والتي ساهمت في تشويه أفرادها، حيث لم ترث من الاستعمار الحكم فقط، بل أدوات ذلك الحكم التسلطي وهيمنة الأقلية على السلطة والثروة وفشلت في تنفيذ مهام التحديث الاجتماعي، بل وساهمت على نحو قصدي في تمكين فئات رجعية للاستعانة بها في تأبيد سيطرتها. كما حولت الثقافة المحلية والدين والوطنية إلى ملحقات إيديولوجية تستعمل لفرض مزيدٍ من التسلط والهيمنة، وفككت الأجسام والأطر الوسيطة، التي يعبر من خلالها الأفراد عن أنفسهم. ففي سعيها إلى السيطرة، تحاول هذه الأنظمة في كثير من الأحيان خلق هوية وطنية متجانسة من خلال قمع التنوع الثقافي. وقد يشمل هذا حظر أو تقييد استخدام اللغات الإقليمية، أو تقييد التعبير، أو الترويج لسرد وطني مفرد يستبعد أو يقلل من مساهمات الفئات المهمشة. 

لكن وضع كاره ذاته الثقافية في موضع الضحية، لا يعفيه من مسؤولية الوعي بذلك، فضلًا عن أن قطاعا واسعًا من ممارسي هذه الكراهية يتحركون في دائرة من الوعي بها، ويوظفونها على نحو يخدم مصالحهم الفردية. فهذه الكراهية تحقق ريوعًا مادية ومعنوية وتؤسس لمكانة كبيرة لهؤلاء، لا سيما في المجتمعات الغربية. حيث يتحول الكتاب من الهوامش إلى مركز المشهد الأدبي والثقافي، وترتفع عوائدهم المالية، ومكانتهم الطبقية وتأثيرهم الشعبي. ثم يرتبطون بدائرة من المصالح المشتركة مع مجتمعات النشر والإعلام والفكر، لا يستطيعون الخروج منها.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية