نشر هذا المقال على منصة ميديوم في 7 تشرين الأول 2024.
إذا ما ألقيت نظرة على صفحة أيٍ كان على تطبيق إنستغرام، فستجد لهذا الشخص سلسلة من الصور، تغلب عليها الصور الملتقطة ذاتيًا أو السيلفي؛ تعبيرٌ حديث يقارب عمره العقد اختاره قاموس أكسفورد ليكون الكلمة الجديدة لعام 2013.
أصبح الافتراض بأن وسائل التواصل الاجتماعي هي من حيث الجوهر مشروع للتباهي وإسقاط صورة عن الذات أمرًا مسلمًا به. فقد بات من البديهي أن تستخدم إنستغرام لنشر صورك وتويتر لإيصال وجهة نظرك للجميع. غير أن هذا لم يكن بديهيًا عند ظهور هذه المنصات. إن شهرة الكثير من «المؤثرين» واستخدامهم المبتكر لأنماط التواصل الجديدة هي ما شكّل نظرتنا للعالم الرقمي.
يتطور قدر كبير من الثقافة الحديثة وينحط كذلك، من خلال نوعٍ من السخرية. يدخل الترفيه إلى الثقافة «بسخرية» تُبَرر في البدء بفكرة «أليس مسليًا رغم كونه شديد الفظاعة؟ فلنشاهده على سبيل السخرية»، ومن ثم يصبح جزءًا من اللغة الثقافية المتداولة. حينئذ تتلاشى السخرية ونتشرب قيمها ببساطة، ونصير نرى الأشياء من خلالها، ولا نعود مدركين لما كنا نعده ذات يومٍ ضحلًا ولا أخلاقي إلى حدٍ كبير.
والأمثلة على هذا كثيرة. فقد تحولت تايلور سويفت إلى جزء من التيار السائد بعدما كان هناك إدراك بأن تمثيلاتها الغنائية للعلاقات كانت مثالية بسذاجة في أحسن أحوالها، وجوفاء وضحلة في أسوأها. بيد أنها تؤلف موسيقى جذابة، وثمة فتنة بريئة في السذاجة المثالية، وجميعنا نحب أن نتذكر نظرتنا للعلاقات حين كنا في سن الرابعة عشر من عمرنا. ولكن مع ازدياد شعبيتها وسعة انتشارها، أُزيل هذا الاعتراف وباتت الثقافة الحالية تتحدث عنها كما لو أن مراهقتها المتعثرة ضربٌ من الفن البطولي، واختفت أي إحالة للكيفية التي كان ينظر إليها من خلالها فيما مضى.
ثمة مثال آخر، ذو صلة أكبر بوسائل التواصل الاجتماعي، هو برنامج «جزيرة الحب» التلفزيوني البريطاني، حيث يقيم شبان عازبون في فيلا فارهة ويتنافسون لخلق علاقات رومانسية بغية الفوز بجائزة مالية. البرنامج تافه بصورة صادمة. وبعد عقد من الزمن، فإننا بالكاد نجد أن أي من تلك العلاقات قد صمدت لما يزيد عن شهر عقب نهاية كل موسم. يُقدم المتسابقون قصدًا على أنهم ضِحال وأغبياء لا يشفع لهم شيء سوى مظهرهم الجيد. ومن الجلي أن الجائزة الحقيقية تتمثل في حيازة مكانة «مؤثر» على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يظهر الشخص ببساطة في عدد من برامج الواقع، وثم يجني المال من خلال التقاط صور شخصية تُظهر ملصقات دعائية لبعض المنتجات على حسابه في إنستغرام.
حين عُرض البرنامج لأول مرة، كانت هذه الحقيقة معروفة على نطاقٍ واسع، لكن نظرًا لفتنة المتعة المشوبة بالذنب التي حظي بها البرنامج، فقد اكتسب شعبية كبيرة، وبات الأشخاص الذين فازوا فيه «مؤثرين» بالفعل. والآن، باتت وسائل إعلام كالبي بي سي تنشر مقالات تتحدث عن تشكيلة البرنامج الجديدة بلا أدنى إشارة إلى مدى ضحالة الأمر برمته وابتذاله الفظيعين، أو في أحسن الأحوال إلى أثره المختلط على أولئك الذين خاضوا غماره بالفعل، أو إلى أن فرضيته ليست سوى كذب محض. لقد دخل البرنامج إلى ثقافتنا كنكتة ساخرة، كمحاكاة هزلية «للحب»، وها نحن قد تشربناه كما لو أنه أمر جاد.
لكن لعل المثال الأعظم والأهم لهذه الظاهرة هي عائلة كارداشيان (وجينر)؛ العائلة التي اخترعت وروّجت عالم وسائل التواصل الاجتماعي الذي بتنا نعتبره اليوم من المسلمات.
لقد خلقت عائلة كارداشيان نموذجًا يكون فيه المرء مشهورًا لكونه مشهورًا وغنيًا لكونه غنيًا. فقد كانت العائلة رائدة في طرح مفهومٍ للذات بات يُعرّف حداثتنا التقنية، حيث لا شيء مهم حقًا سوى مظهرك، ومظهرك هو نتاج لتنسيق جراحي وتكنولوجي وتجميلي، تكمله الفلاتر وتأثيرات الألوان التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعية نفسها. إنهم صنيعة لا-واقع متجاوز للإنسانية. إسقاط تجميلي زائف بأبعادٍ كرتونية، مصبوغٍ بصبغة جنسية.
كانت هذه الصورة وما تزال رائجة ومُربحة. في عام 2022، أصبحت كايلي جينر أول شخص يبلغ متابعوه 300 مليون متابع في إنستغرام، ومن المذهل أن خمسة من عائلة كارداشيان وجينر (كايلي، كيم، كلوي، كيندال، وكورتني) هم من أعلى عشرين شخصًا متابعةً على المنصة، حيث جمع كل منهم مئات ملايين المتابعين. صارت كايلي جينر مليارديرة وهي في سن 21، وهو ما جعلها أصغر مليارديرة «عصامية»، والفضل في ذلك يعود لكونها تنحدر من عائلة ثرية بالفعل ومن برنامج تلفزيوني شهير.
من عدة أوجه، كانت عائلة كارداشيان أول من جعل النرجسية موضة شديدة الرواج. إذ أشاعت الهوس الصارخ بصورة الذات، وتعديلاتها الزائفة كليًا، والشفاه المنفوخة، والمؤخرات المزيفة، والشهرة ذات الطابع الجنسي، والنظرة الضحلة للغاية المتمحورة حول الذات فيما يتعلق بالعلاقات بل وبالواقع نفسه. كلها أشياء جروها للتيار السائد، ومثلها مثل الأنماط الأخرى للثقافة الساخرة، باتت جزءًا من مشهدنا.
من المفروغ منه في يومنا هذا أن الشبان لا يستخدمون الإنستغرام لنشر صور تتعلق بمواهبهم أو الأشياء التي يحبونها، بل حتى أصدقائهم. إنهم يستخدمونه لنشر صورهم. كما أنهم يعدون الطابع الجنسي السخيف للشفاه المزيفة والثديين المزيفين وكل ما هو مزيف أمرًا مُسلمًا به. ثمة تجاهل للزمن وللتقدم بالعمر، وكذلك لضحالة نظرتك لنفسك على أنك محض كائن جنسي. لقد أكل الدهر وشرب على المقطع الذي غناه توم يورك ذات يوم حين قال «لقد اعتاد إجراء عمليات للفتيات في الثمانينيات، لكن الجاذبية تنتصر دائمًا». فالآن تُهزم الجاذبية من خلال التعديلات التي نجريها على أنفسنا من خلال الفيلر والفلاتر.
بفضل عائلة كارداشيان، لم نعد كائنات بيولوجية؛ بل أصبحنا تجسيدات لكائنات بيولوجية، سواء في الحياة الواقعية أو على الإنترنت. هذه العائلة رائدة فيما يتعلق بما بعد الإنسان، ورابحة في ثقافتنا الرقمية. فقد أدركوا هم ومنتجو برنامجهم بأن كونك إنسانًا جيدًا أو فنانًا أو شخصًا ما هو مفيد أو أي صفة من هذا القبيل ليس أمرًا مهمًا أبدًا. كل ما عليك هو أن تكون غنيًا لأنك مشهور ومشهورًا لأنك غني، وإذا ما علا مستواك لدرجة كافية، فإن المسألة تصبح ذاتية الاستدامة، ويصبح الطريق الوحيد أمامك للأعلى.
حتى أولئك الذين يعدون أنفسهم أسمى من ذلك، يجدون أنفسهم، مثلنا كلنا، محاصرين في البيئة الضيقة التي خلقتها عائلة كارداشيان. فمثلًا، للنرجسية الصلفة التي يتمتع بها دونالد ترامب ما يبررها من بعض النواحي في عالم الأنا هذا، أي هذا التعريف الشعبوي للذات الذي خلقه رواد وسائل التواصل الاجتماعي الخاضعين لعمليات التجميل. لقد أصبحت معايير المظهر والجمال الأنثويين متماثلة على نحوٍ متزايد. هناك تزايد في أعداد الشبان الذين يجرون تغييرًا في مظهرهم من خلال عمليات التجميل ووضع كميات مهولة من مساحيق التجميل حتى غدوا كما لو أنهم قد طُبعوا بواسطة طابعة ثلاثية الأبعاد، في محاولة غريبة لتحقيق أصالة ما تتجلى بصورة تماثل رتيب.
إن شخصيات مثل أندرو تيت، الذي ما زال يحظى بمتابعة مهولة على الإنترنت رغم الإدانات التي يواجهها، هو نتاج هذا العالم. لقد تعلم بدوره أيضًا وصفة النجاح التي قدمتها عائلة كارداشيان: أن يسلّع نفسه ببساطة ويدع خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تتكفل بالباقي. فما تمثله عائلة كارداشيان كنسخة كرتونية زائفة للأنوثة، يمثله بالمقابل أندريو تايت للرجولة. فهما وجهان للظاهرة نفسها.
بل حتى يمكن لنا أن نقول إن المنصات الإباحية مثل OnlyFans تنحدر من شجرة عائلة تسليع الذات التي ساهمت عائلة كارداشيان في خلقها في واقعنا. ففي نهاية المطاف، إذا كان إضفاء طابع جنسي على نفسك أمام جماهير غفيرة يجلب لك المال، فلمَ لا تفعله؟ لقد أزالت عائلة كارداشيان ارتباكنا الأخلاقي حيال فكرة بيع أنفسنا عبر الإنترنت، وساهمت في خلق هذا العالم الذي يُشيد بأصحاب المظهر الجذاب الذين لا يفعلون شيئًا مهمًا. لا يمكن للتاريخ أن يروي زمننا دون أن يأتي على ذكرهم.
غير أننا الآن في هذا العالم، وليس بمقدورنا ألا نكون فيه. فهم، شئنا أم أبينا، أسطورتنا، والأمهات الحاكمات في عالمنا، والتماثيل التجميلية الزائفة لإلهنا الحاكم: نرسيسوس. بات رفض هذا العالم أشبه برفض للمسيحية في أوروبا القرون الوسطى: بإمكانك أن تحاول، لكنك ستظل متمردًا على الدوام. فأنت لا تعيش في عالمك، بل في عالمهم هم.